في ضوء العقبات والتحديات المتزايدة التي تشكلها الصين وروسيا في العديد من القضايا الهامة؛ ولعل أبرزها هو أمن الطاقة، وحماية البنية التحتية الأساسية، وأمن وسلام العديد من البلدان، هناك محادثات ولقاءات حديثة تناقش هذه التحديات التي تفرزها كلٍّ من بكين وموسكو للعالم عموما، وكانت آخر هذه المحادثات تلك التي جرت ولا تزال تجري في بوخارست برومانيا حيث اجتمع وزراء خارجية “حلف الشمال الأطلسي” (الناتو) أمس الثلاثاء واليوم الأربعاء.

بالتالي، تثار العديد من التساؤلات حول أفق الصراع الروسي الأوكراني المستمر منذ حوالي تسعة أشهر، وكذلك تساؤلات حول كيفية تسوية الولايات المتحدة الأميركية للصراع بين موسكو وكييف، بالإضافة إلى أبرز التحديات التي يطرحها الصراع من الناحية الجيوسياسية والجيواستراتيجية على واشنطن والغرب. كما أن هناك تساؤلات حول ما إذا كانت هناك تحالفات جديدة بين واشنطن والغرب لمواجهة القوى الصاعدة المتمثلة ببكين وموسكو، والتوجه السياسي لواشنطن والغرب لمواجهة موسكو.

أفق الصراع الروسي الأوكراني

وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، وصل إلى العاصمة الرومانية بوخارست للمشاركة في اجتماعات وزراء خارجية حلف “الناتو”، الذي انعقد أمس الثلاثاء واليوم الأربعاء.

بلينكن في اجتماعات وزراء خارجية دول حلف شمال الأطلسي في بوخارست

وزارة الخارجية الأميركية، أفادت أن الاجتماع سيركز على الحرب الروسية على أوكرانيا وتطبيق الاستراتيجية الجديدة لـ”الحلف” والتحديات التي تشكلها الصين إضافة إلى أمن الطاقة وحماية البنى التحتية الأساسية وجهود “الناتو” لبناء وتعزيز مرونته في البوسنة والهرسك وجورجيا ومولدافيا.

ضمن هذا السياق، يرى الأكاديمي والباحث السياسي وأستاذ القانون الدولي محمد خالد الشاكر، بشكل عام، تبدو زيارة بلينكن في إطار تعزيز القيم المشتركة بين دول “الحلف”، ما يعني أن أوروبا ما زالت في خضم حرب مستمرة بتداعيات سياسية واقتصادية وعسكرية، ولا أحد يتوقع مداها.

قد يهمك: التحديات والمصير.. هل يهدد قائد الجيش الباكستاني الجديد أمن الأسرار النووية؟

فعلى الصعيد السياسي، أشار الشاكر أثناء حديثه لموقع “الحل نت”، إلى أنه مازالت الحرب تعني استفزاز روسيا المتموضعة في قلب الأرض الأوراسي، وبالتالي لا تقتصر تداعيات الحرب على أوروبا وحسب، وإنما تمتد لتشمل تموضعات أخرى في الشرق الأوسط وإفريقيا اللذين يرتبطان بعلاقات سياسية واقتصادية حيوية سواء مع روسيا أو أوكرانيا على حد سواء، وبالتالي قد ترسم تداعيات استمرار حالة التوتر بين روسيا والغرب، اصطفافات سياسية جديدة ببعد اقتصادي. والأهم من ذلك، ربما ترسم الخط الفاصل بين الشرق والغرب من جديد، ما يعني خرائط جيوسياسية جديدة. ولهذا ركز بلينكن، في زيارته على أمور مثل الطاقة النظيفة في مواجهة ما تركته حالة التوتر بين الغرب وروسيا من تداعيات على الطاقة الأحفورية.

فرص بتسوية الحرب الأوكرانية

بلينكن، خلال اجتماعه بنظيره الأوكراني، ديميترو كوليبا، على هامش اجتماعات وزراء خارجية “الناتو” في بوخارست، أكّد أن جميع وزراء الخارجية ركزوا على الدعم الحازم لأوكرانيا، وجهودها لمواصلة التعامل مع العدوان الروسي والدفاع عن سيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها، ومواصلة تقديم دعم أمني واقتصادي وإنساني.

بلينكن أضاف، أن “ما هو واضح جدا بالنسبة لي بعدما قضينا الأيام القليلة الماضية مع جميع زملائنا هو أن هذا الدعم لا يزال قويا وحازما.. وهذا ما سمعته من كل من جلس على الطاولة هنا في اجتماع الناتو”، موضحا أنه بحث مع وزير خارجية أوكرانيا ودول الحلف ومجموعة الدول السبع، يوم أمس الثلاثاء، الاحتياجات الماسة لأوكرانيا فيما يتعلق بالبنية التحتية للطاقة.

وزير الخارجية الأميركي أضاف، “أود ببساطة أن أضيف أن ما يحدث الآن في أوكرانيا والذي نراه كل يوم، هذا الهجوم على البنية التحتية للطاقة وهذا الهجوم على المدنيين في كل ركن من أركان البلاد، ليس أمرا طبيعيا ولا يمكن تطبيعه”.

بحسب تقدير الشاكر، ما زالت واشنطن داعما لأوكرانيا وطرفا رئيسيا في الصراع الجاري في أوروبا، وبالتالي فإن استمرار حالة التوتر هو، “استمرار واستنزاف ليس لروسيا وحسب، وإنما استنزافا لشعوب أوروبا الغربية برمتها”. ولهذا مازالت واشنطن تؤكد بين الحين والآخر، أنّ الحل في أوكرانيا لن يكون إلا عن طريق المفاوضات، وقد برهنت واشنطن على ذلك حين استثنت من العقوبات المفروضة على روسيا توريد الأسمدة والحبوب الروسية للأسواق العالمية.

التحديات الجيوسياسية والجيواستراتيجية

بلينكن أشار في حديثه في بوخارست إلى أن الولايات المتحدة تواصل تقديم الدعم العسكري للقوات الأوكرانية، وأن روسيا قد حولت البحر الأسود إلى ساحة حرب، محمّلا موسكو مسؤولية التسبب في أسوأ أزمة غذاء دولية.

صحيفة “وول ستريت جورنال” تقول، إنه عندما يجتمع وزراء خارجية “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) في العاصمة الرومانية، فإن القضايا المرتبطة بأمن البحر الأسود سوف تتخلل جدول الأعمال سواء بشكل معلن أو غير مباشر. وتم تضمين الأهمية الاستراتيجية للبحر الأسود في استراتيجية “الناتو” طويلة الأجل لأول مرة في قمته السنوية في حزيران/ يونيو الماضي بمبادرة من رومانيا.

قمة بوخارست

صحيفة “وول ستريت جورنال” أضافت نقلا عن الأدميرال الأميركي المتقاعد جيمس ستافريديس، الذي شغل منصب القائد الأعلى للحلفاء في “الناتو” بعد الحرب في جورجيا قوله، إن “البحر الأسود حيوي لأمن الناتو نظرا للالتقاء المادي للعديد من الحلفاء والشركاء والمعارضين، بالإضافة إلى رواسب الهيدروكربونات الغنية، وممرات شحن الحبوب الحيوية، وحرب نشطة في أوكرانيا”.

هذا ويُعد البحر الأسود استراتيجيا لـ “حلف شمال الأطلسي”، الذي زاد من وجود قواته في المنطقة منذ عام 2014، حسبما قال أمين عام حلف “الناتو”، يان ستولتنبرغ، في بوخارست يوم أمس الثلاثاء، مضيفا أن أعضاء، من بينهم الولايات المتحدة وفرنسا، يقومون بدوريات روتينية في المنطقة بطائرات مراقبة متقدمة، وقادت فرنسا مؤخرا تدريبات جوية لـ “حلف شمال الأطلسي” هناك.

بالعودة إلى الأكاديمي، محمد خالد الشاكر، فإنه يعتقد إن هذا الاستنزاف بين روسيا والغرب، لا يتوقف عند استفزاز واستنزاف روسيا وحسب، وإنما يلقي بتداعياته الجيوسياسية والجيواستراتيجية على واشنطن والغرب ككل، هذا ما يؤكده منطق تغليب القوة على منطق الدبلوماسية، الذي مازال مسيطرا على حالة الصراع بين الغرب وروسيا. وهو في الوقت ذاته، تهديد لهوية السياسية الخارجية الأميركية، التي ترتكز على حاملين كلاهما يصبان في أوروبا الغربية، الأول هو التأكيد على ثقافة الغرب الأطلسي في أوروبا الغرب، والثاني حماية شريكها الجيوستراتيجي المفترض، متمثلا بأوروبا الغربية وشعوبها التي تقف اليوم على شفير هذا الصراع.

قد يهمك: قمة أميركية فرنسية.. واشنطن تقترب من موقف باريس “التوفيقي” بشأن أوكرانيا والطاقة؟

لا يخفى على أحد أن استراتيجية الأمن القومي لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، المكونة من 48 صفحة، والتي صدرت في تشرين الأول/ أكتوبر، تركز على التهديدات المستقبلية من الصين إلى منطقة المحيط الهادي والمحيط الهندي لكنها تذكر البحر الأسود.

القوى الصاعدة وتعدد الأقطاب

في السياق، يشير منطق التفكير الاستراتيجي وفق الشاكر إلى أن التاريخ حدس ومعنى. وبالعودة إلى حالات الصراع بين روسيا والولايات المتحدة، نلاحظ إعادة تدوير حالة التوتر على طريقة الحرب الباردة مع جنوحها للتحديات الاقتصادية أكثر منها للتحديات الإيديولوجية. وبالتالي، فإن الإبقاء على حالة التوتر بين روسيا والغرب، يُذكر المرء بعودة “سباق التسلح بين الدولتين”، وهو السباق الذي غيّب الدبلوماسية والسياسية على حساب الانتحار المتبادل بينهما الذي دفع ثمنه العالم أجمع.

سفينة روسية تطلق صواريخا خلال تمرين في البحر الأسود

اليوم العالم إزاء تكرار لمعنى التاريخ، إذ بات من الواضح أن تداعيات هذا الصراع لن تدفع ثمنه أوروبا وحسب، وإنما العالم أجمع، لاسيما في إطار بنية جديدة للنظام الدولي، الذي أصبح ينأى بنفسه عن الصراعات الإيديولوجية لصالح التحديات الاقتصادية والتنموية التي تحتاجها الشعوب اليوم قبل أي تحدٍ آخر. تزامنا مع حقيقة بروز القوى الصاعدة في مواجهة الغرب، سواء على صعيد التكتلات السياسية أو الأندية الاقتصادية التي أصبحت تُبلور نظام دولي جديد يؤسس لعالم متعدد الأقطاب، على حدّ تعبير الشاكر.

قد يهمك: لماذا تحول بكين بحر الصين الجنوبي لساحة صراع؟

“أخذ العبر” في التعامل مع الصين

في المقابل، حذر “الناتو” من تكرار الأخطاء التي ارتُكبت مع روسيا مجددا، من خلال الاعتماد الاقتصادي على الصين. وقال وزير الخارجية الليتواني جابريليوس لاندسبيرجيس، في تصريحات لتلفزيون “بلومبيرغ“، على هامش اليوم الثاني من اجتماعات الحلف في بوخارست، “لقد رأينا ما يعنيه الاعتماد على روسيا لنا جميعا. آمل فقط أن نكون قد تعلمنا الدرس وألا نكرر نفس الأخطاء مرة أخرى مع الصين”.

كذلك، أفاد مصدر مطلع، بأن الوزراء سيتبنون تقريرا سريا من 20 صفحة، يحلل القدرات العسكرية للصين والتكنولوجيات الجديدة، فضلا عن الدور الذي تلعبه في البنية التحتية الحيوية للحلفاء، كما يتطرق أيضا لتوصيات عدة، بما في ذلك تعزيز المرونة وزيادة الوعي في مجالات معينة والحفاظ على التفوق التكنولوجي في مناطق أخرى.

كما سيتم مناقشة كيفية تعزيز المرونة الشاملة لأعضاء الحلف بالتعامل مع الصين خلال القمة، إذ اتفق قادة “الناتو” في حزيران/ يونيو الماضي على أن الصين تشكّل “تحديا منهجيا”، وحذروا من تعميق الشراكة الاستراتيجية بين بكين وموسكو.

وفق “بلومبيرغ”، فإن تلك التعليقات تعكس وجهات نظر متباينة داخل التحالف، حول كيفية التعامل مع الصين، حيث تتحرك الدول في خطوات مختلفة.

هذا ويدرك الحلفاء بشكل متزايد أوجه التشابه مع روسيا، لا سيما في ضوء الاعتماد على بكين في الإلكترونيات الدقيقة وسلاسل التوريد وغيرها من السلع، إذ قال وزير الخارجية التشيكي، يان ليبافسكي، “نحن بحاجة إلى تقييم الصين في مجالات معينة باعتبارها خطرا، وأن نكون مستعدين لذلك”، مضيفا “بالنسبة لتلك التهديدات المختلطة، نحتاج إلى فهم ما يعنيه ذلك في مجال الأمن السيبراني والعديد من المجالات المختلفة. هذا مقلق للغاية، لأن سلاسل التوريد والرقائق والاعتماد الاقتصادي المتبادل، يخلق وضعا نحتاج فيه إلى الاستعداد للدفاع عن مبادئنا أيضا”.

وعليه، فإن أي تصعيد أو تحرّك من جانب بكين ضد المصالح الأمنية الغربية ودول القارة الآسيوية، وتحديدا في المحيط الهندي والمحيط الهادي وبحر الصين الجنوبي، من شأنه أن يخلق عدة تحالفات دولية ضد بكين، كما يحدث حاليا ضد روسيا التي غزت جارتها الغربية؛ أوكرانيا منذ 24 شباط/ فبراير الماضي، ونتيجة لذلك خلقت العديد من الأزمات الدولية، التي أضرت بالعالم ككل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.