وسط العديد من المتغيرات والأزمات الإقليمية والدولية، تتجه دولة مصر نحو ترسيم الحدود البحرية مع دولة ليبيا في البحر المتوسط​، وهي خطوة يبدو أنها تأتي في إطار تعزيز قدرة البلاد على الاستفادة من ثروتها في خضم أزمة الطاقة العالمية، بالإضافة إلى الاكتشافات المتتالية لحقول الغاز في منطقة شرق المتوسط.

القاهرة أصدرت يوم الثلاثاء الفائت، قرارا بتحديد الحدود البحرية الغربية للبلاد على البحر المتوسط. يعتبر هذا القرار المصري قرارا منفردا، واعتبر سياسيون ونواب مصريون هذا القرار بأنه رسالة واضحة للأطراف المعنية بضرورة احترام قواعد القانون الدولي، في ظل التوتر بين عدد من دول المنطقة بشأن عمليات التنقيب عن الغاز، وعلى رأسهم دولة تركيا، التي بدأت تتحرك بشكل حثيث، مؤخرا، لتقوية علاقاتها الاقتصادية، وتحديدا في مجال الطاقة والغاز، خاصة وأنها تواجه أسوأ أزمة اقتصادية.

حيث وصل معدل التضخم إلى أعلى مستوى له منذ 24 عاما، وبالتالي، فإن أنقرة تحاول تحقيق الاستقرار في الاقتصاد المضطرب قبل الانتخابات الرئاسية التركية القادمة بأي شكل من الأشكال، وظهر ذلك جليا عندما وقعت مؤخرا مع حكومة “الوحدة الوطنية” المؤقتة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، اتفاقية أولية للتنقيب عن الطاقة والغاز والنفط، والتي تمنح أنقرة امتيازات عديدة في قطاع الطاقة، واعترضت عليها عدة قوى إقليمية، من بينها مصر.

إن تزايد النشاط التركي وهوسها بالسيطرة على البحر الأبيض المتوسط ​​من أجل التنقيب عن الغاز، وعارضت سابقا ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، يقود بالمرء إلى تساؤلات جمة، أولها الهدف المصري من إصدار مثل هذا القرار في هذا التوقيت تحديدا، وما إذا سيخلف هذا القرار توترا تركي مصري.

أيضا، ما إذا ستعرقل أنقرة الاتفاق من خلال وكلائها في ليبيا، بجانب احتمالات انعكاس القرار المصري الجديد في علاقتها مع تركيا التي شهدت تعاونا بين الطرفين مؤخرا. أخيرا، تساؤلات حول نتائج وعواقب هذا القرار على عدة مستويات.

لغايات “سياسية وقانونية واستراتيجية”

الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي، أصدر الثلاثاء الفائت، قرارا بتحديد الحدود البحرية الغربية للبلاد في البحر المتوسط. ونشرت الجريدة الرسمية نص القرار، الذي تضمن قوائم الإحداثيات الخاصة بالحدود، إضافة إلى إخطار الأمين العام للأمم المتحدة بالقرار والإحداثيات المحددة.

صورة تعود لافتتاح السيسي قاعدة بحرية مصرية بالقرب من الحدود مع ليبيا في 2021 “رويترز”

أحمد يحيى، وكيل لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب المصري “الغرفة الأولى للبرلمان”، أفاد بأن قرار الرئيس بترسيم الحدود البحرية مع ليبيا حتى ولو من جانب واحد “قرار صائب من الناحية القانونية والاستراتيجية”.

يحيى أردف لـ”الشرق الأوسط“، أن القرار “يستهدف المحافظة على ثروات مصر وحقوقها في غاز البحر المتوسط، لا سيما في ظل تربّص العديد من الدول بالمنطقة، والاكتشافات الجديدة لحقول الغاز، التي باتت مطمعا في ظل التعطش العالمي والأوروبي، خصوصا للطاقة، جرّاء الحرب الروسية الأوكرانية”.

الكاتب والمحلل السياسي، رامي شفيق، يرى ضمن هذا السياق، أن هناك تمثلات سياسية وقانونية واستراتيجية يمكن تدبرها عند متابعة إعلان مصر تحديد الحدود البحرية الغربية في البحر المتوسط.

بحسب تقدير شفيق الذي تحدث لموقع “الحل نت”، فإن قرار الرئيس السيسي، يأتي متوافقا مع رغبة القاهرة في التوسع نحو عمليات التنقيب عن الطاقة والاستفادة من ثروات الغاز المتاحة في شرق المتوسط، سيما مع الظرف الدولي الذي انتجته الحرب الروسية الأوكرانية، وهذا القرار سيسمح لها بالتنقيب في محيط مياهها الاقتصادي دون أي إخلال بالقوانين الدولية.

قد يهمك: إشارات ودّ متجدّدة تجاه دمشق والقاهرة.. اقتراب الانتخابات التركية السبب؟

في وقت سابق، وقعت مصر اتفاقيات لترسيم حدودها البحرية مع السعودية في عام 2016، ومع اليونان عام 2020، كما وقعت الحكومة المصرية قبلها اتفاقا لترسيم الحدود مع قبرص. كما أن الرئيس المصري ركز سابقا إلى أهمية تلك الاتفاقيات، عندما أشار، في مؤتمر اقتصادي عقد في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إلى أن “حقل ظهر للغاز الطبيعي لم يكن ممكنا اكتشافه لو لم يتم ترسيم الحدود مع قبرص واليونان في البحر المتوسط والسعودية في البحر الأحمر”، مبينا أن تلك الاتفاقيات وفّرت 120 مليار دولار سنويا لتشغيل محطات الكهرباء.

ردع التمدد التركي؟

الوضع الهش سياسيا وميدانيا في ليبيا، وخاصة في غرب البلاد، كان له أثر كبير على التدخلات الإقليمية من أجل فرض أمر واقع في شرق البحر المتوسط​، خاصة بعد أن قررت القاهرة تحديد حدودها البحرية مع اليونان وقبرص.

تركيا، التي تعاني من توترات تاريخية وسياسية مع اليونان، تحركت عبر حكومة فايز السراج، رئيس “المجلس الرئاسي” الليبي ورئيس الوزراء السابق في حكومة “الوفاق الوطني”، والدبيبة لتكون حاضرة في شرق المتوسط ​​بإبرام مذكرات تفاهم، وهي تعلم جيدا عدم قانونية تلك المذكرات، طبقا لشفيق.

مخاوف من تحول شرق المتوسط لساحة صراع جديدة بين القوى الإقليمية “رويترز”

بالتالي وفق شفيق، فإن القاهرة تجاوزت كل هذه السيناريوهات ووسعت رؤيتها في تحديد حدودها البحرية الغربية مع ليبيا وأعلنتها بقرار رسمي. نحو ذلك، يمكن القول إن “جميع مؤشرات ارتفاع مستوى التوتر في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​موجودة بين جميع القوى بنسب متفاوتة”.

أما تهور واندفاع الجانب التركي نحو تطبيع العلاقات مع القاهرة يستند في الأساس عند الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، محاولة استمالة القاهرة في شرق المتوسط ولذلك لا تملك تركيا أي رد فعل تجاه القرار المصري حتى وإن كانت متغولة في الشأن الليبي مع حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، ذلك لأن معادلات التسوية في العلاقات والمصالح أضحت على مصراعيها في كافة الاتجاهات وبين كافة القوى الفاعلة حاليا، على حد تعبير شفيق.

قد يهمك: مبادرة “الرئاسي”.. حل لإشكالية الأطروحات السياسية الليبية؟

هذا وقد كانت تركيا وليبيا وقعتا اتفاقا لترسيم الحدود البحرية بالبحر المتوسط، في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2019. ووقعها آنذاك الرئيس التركي، أردوغان، ورئيس المجلس الرئاسي لحكومة “الوفاق” آنذاك، كما أن توقيع وزارتا الخارجية في البلدين، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، اتفاقية حول التنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية، أثار حفيظة الاتحاد الأوروبي حينها، ونددت مصر واليونان وقبرص به.

3 سيناريوهات متوقعة

قد لا يكون مرجحا الحديث عن توتر جديد في العلاقات بين قوى شرق المتوسط، وتحديدا تركيا ومصر، إذ ثمة ثلاث سيناريوهات تتعلق بشرق المتوسط وما يرتبط به من اتفاقيات وترسيم حدود، بحسب وجهة نظر شفيق، والسيناريو الأول يتمثل في تحرك القاهرة وتركيا في ترسيم الحدود البحرية معا في شرق المتوسط مقابل أن يتم إعادة صياغة تحديد الحدود البحرية بين أنقرة وطرابلس. أما السيناريو الثاني، أن تمضي القاهرة في التنقيب عن ثروات الطبيعة داخل الحدود التي عينتها، وتعلن اليونان حدودها البحرية أيضا مع ليبيا استنادا للترسيم مع القاهرة، الأمر الذي يرفع موجة التوتر في شرق المتوسط.

أما السيناريو الثالث، بحسب اعتقاد شفيق، يتمثل في تحرك الجانب التركي في عمق سيناريو التطبيع مع القاهرة والتخلي عن حكومة الدبيبة، والتفاهم في سيناريو واحد يخلق أجسام سياسية جديدة في الشأن الليبي خلال النصف الثاني من العام القادم 2023.

في العموم، اتخذت القاهرة قرارا استراتيجيا في حدود ما تمتلكه من وجهة نظر سياسية وقانونية، ووضعت إحداثياتها للمنطقة الاقتصادية بناءً على جميع الاعتبارات القانونية الدولية، ولا يمكن لأي قوة أن تعارضها فيما فعلته وأقدمت عليه، خاصة وأنها ذاهبة لإخطار الأمين العام للأمم المتحدة بالقرار والإحداثيات المحددة.

لكن طالما أن تركيا ترفض الاعتراف باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، وهي الاتفاقية التي وقعت عليها كل من مصر واليونان وقبرص ودول أخرى بالمنطقة، وتحدّد الاتفاقية الدولية المناطق الاقتصادية الخالصة للدول بنحو 200 ميل من شواطئها، يمكن لها أن تقف في مواجهة هذا القرار وأن تحرك وكلائها في المنطقة لتأجيج الوضع واشتداد التوتر مع مصر، الأمر الذي له تداعيات سلبية جمّة على عموم المنطقة وعلى كافة الأصعدة، وخاصة الجانب الليبي الذي لا يزال يسبح في بحرا من الأزمات والنزاعات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.