دول الاتحاد الأوروبي تنتهج استراتيجية طويلة الأمد لخفض الاعتماد على الغاز الروسي، من خلال تطبيق مسارين متوازيين، المسار الأول تحديث البنية التحتية بحيث تكون قادرة على الاستعداد لاستيراد الغاز “المسال”، وكانت دول الاتحاد الأوروبي قبل الحرب الروسية تعاني من نقص شديد من توافر محطات تسييل الغاز، لاسيما ألمانيا التي لم تكن تملك أي محطة، بسبب اعتمادها على الغاز الطبيعي المستورد من روسيا، وفي الوقت الحالي لا يوجد لدى دول الاتحاد الأوروبي خيار إلا استيراد الغاز “المسال” حتى تستوعب الحاجة والاستهلاك الداخلي، ولتلبية الطلب بعد انخفاض التدفقات الروسية عقب غزو أوكرانيا.

من المتوقع أن ترتفع قدرة دول الاتحاد الأوروبي على استيراد الغاز “المسال” بنسبة كبيرة في الأعوام القادمة، ويرجع ذلك إلى تبني مشاريع بناء محطات لتسييل الغاز، فقد أعلنت ألمانيا عن تأسيس 3 محطات تخزين وإعادة تسييل للغاز، وتعمل كل من وفنلندا وإستونيا على تطوير محطة مشتركة بسعة 0.5 مليار قدم مكعبة يوميا. كما تطور كل من إيطاليا واليونان وبولندا من قدرة محطاتهم لتكون أكثر انتاجية لتسييل الغاز.

 المسار الثاني، إيجاد وتنويع مصادر الغاز، والخيارات الحالية لدى دول الاتحاد الأوروبي هي السوق الأميركية، وأسواق الدول العربية لاسيما من قطر، والجزائر، ومن المنتجين الجدد سلطنة عمان، ومصر والإمارات، لكن غالبية الدول العربية مرتبطة باتفاقات طويلة الأجل مع أسواق شرق آسيا، وهنا يكمن نقاش هذه المقالة حول معضلة مستقبل الغاز العربي بين أسواق شرق آسيا وخاصة الصين واليابان، وأسواق الغرب متمثّلة بدول الاتحاد الأوروبي.

واقع ومستقبل صادرات الغاز العربي

الدول العربية المصدّرة للغاز يمكن تصنيفها بدول تقليدية مصدرة للغاز مثل قطر والجزائر، ودول منتجة ومصدرة جديدة مثل سلطنة عمان ومصر والإمارات.

قطر، أصبح الغاز المسال القطري في الوقت الحالي بمثابة ركيزة رئيسة لواردات أوروبا، في ظل سعيها لإيجاد مورّدين لتعويض نقص الإمدادات الروسية، وسلّمت قطر إلى الاتحاد الأوروبي 16 بالمئة من إمدادات الغاز المسال خلال عام 2022 لتحتل المرتبة الثانية من بين أكبر مصدّري أوروبا بعد الولايات المتحدة.

قد يهمك: الغاز المسال الأميركي.. كيف تلبي واشنطن احتياجات أوروبا؟

قطر تدرك  أن لديها فرصة لنيل حصة كبيرة ومهمة من السوق الأوروبية للغاز، إذ وقّعت قطر مع ألمانيا على عقد توريد مدّته 15 عاما، وتنص الاتفاقية على تزويد قطر 2.5 مليار متر مكعب من الغاز إلى السوق الألمانية سنويا بدءا من عام 2026. كما وقّعت قطر اتفاقية طويلة الأجل لتصدير الغاز “المسال” إلى الصين لمدة 27 عاما على أن يتم تصدير الكمية المتفق عليها من حقل الشمال الذي تعمل دولة قطر على توسيعه بهدف زيادة الطاقة الإنتاجية للبلاد من 77 مليون طن إلى 110 مليون طن سنويا.

كذلك فقد وقّعت قطر مع الصين في وقت سابق من عام 2021 اتفاقية لتوريدها بمليوني طن سنويا من الغاز المسال لمدة 10 سنوات.

الجزائر، تصنف من أهم المنتجين للغاز في العالم، لكن بنيتها التحتية تحتاج للاستثمار فيها لزيادة الإنتاج. وتُعدّ الجزائر ثاني أكبر مصدر للغاز الطبيعي إلى دول الاتحاد الأوروبي بعد روسيا. وكما ذكرت “منصة الطاقة”، تسعى إيطاليا التي يربطها بالجزائر خط أنابيب لزيادة كميات الغاز المستوردة عبر خط الأنابيب من 9 مليارات إلى 15 مليار متر مكعب سنويا خلال عام 2023، وإلى 18 مليار متر مكعب في عام 2024، وأسهمت صفقات شراء الغاز الجزائري من جانب دول الجنوب الأوروبي في انخفاض اعتماد إيطاليا على الغاز الروسي من 38 بالمئة إلى 10 بالمئة وفقا لما رصدته “منصة الطاقة” المتخصصة. ومن الواضح أن غالبية إنتاج الجزائر يذهب إلى دول الاتحاد الأوروبي بحكم القرب الجغرافي.

إنتاج الغاز “المسال”

سلطنة عمان، وقّعت الشركة العُمانية للغاز الطبيعي “المسال” ثلاث اتفاقيات مع شركات يابانية، بهدف إنتاج الغاز “المسال” والذي سيبدأ إنتاجه في عام 2025، بإجمالي يصل إلى 2.35 مليون طن متري سنويّا من الغاز “المسال”. وبموجب الاتفاقيات، ستقوم عمان بتزويد الشركات اليابانية بالغاز الطبيعي “المسال” وفق عقود تتراوح مدّتها بين 5 و10 سنوات، بمقدار 800 ألف طن متري سنويا لشركة “إيتوشو”، و800 ألف طن متري سنويّا لشركة “جيرا”، و750 ألف طن متري سنويّا لشركة “ميتسوي وشركاه“.

الإمارات، تمتلك الإمارات العربية المتحدة سابع أكبر احتياطي مؤكد من الغاز الطبيعي في العالم يُقدر بحوالي 6 تريليون متر مكعب. ووفقا لمنظمة “أوبك” بلغت صادرات الإمارات من الغاز الطبيعي “المسال” نحو 8 مليار متر مكعب خلال عام 2021، وجاءت أسواق الدول الآسيوية وفي مقدّمتهم الهند واليابان والصين، الأكثر استحواذًا على صادرات الإمارات خلال العام ذاته بنسبة تصل إلى 85 بالمئة. وقد أبرمت الإمارات صفقة تصدير الغاز “المسال” إلى ألمانيا بسعة 137 ألف في عام 2022، على أن تزيد الكمية في عام 2033.

مصر، اكتشفت شركة “ايني” مجموعة من حقول الغاز بالقرب من السواحل المصرية وأهمها حقل “ظهر” وتعمل مصر على تطوير حقول الغاز وزيادة إنتاجها لسد حاجة الاستهلاك المحلي ومن ثم التصدير. وبعد ارتفاع أسعار الغاز في السوق الأوروبية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، حوّلت الحكومة المصرية تشغيل المحطات الحرارية المنتجة للكهرباء من الغاز إلى وقود بديل، لتقوم بتصدير الغاز إلى السوق الأوروبية بعدما ارتفع سعر المليون وحدة حرارية بريطانية من 5 دولار إلى 70 دولار في بعض الدول الأوروبية. ونجحت مصر في كسب 3 مليار دولار من تصدير الغاز خلال نصف السنة من عام 2022، في وقت يعاني فيه الاقتصاد المصري من انخفاض في كافة مؤشراته.

انقسام الغاز العربي

الغاز العربي قد ينقسم بين سوقَي شرق آسيا ودول الاتحاد الأوروبي، وبحكم الجغرافيا فإن دول الخليج العربي “قطر، سلطنة عمان، الإمارات”، ستكون شحناتها أقرب إلى السوق الصينية واليابانية وهو ما يفسّر غالبية الصفقات التي تعقدها الدول الثلاث مع دول شرق آسيا.

في حين أن الجزائر ومصر تُعد أقرب إلى السوق الأوروبية منها إلى سوق شرق آسيا. لكن ما يقلق دول الخليج العربي فعلا هو تحول الغاز الروسي إلى الصين بعد استراتيجية دول الاتحاد الأوروبي للتخلص من الغاز الروسي، مما يعني قد تحدث منافسة قوية على السوق الصينية على الرغم من حاجتها الكبيرة للغاز، أيضا التقرب السياسي بين الدولتين قد يلعب دوراً كبيراً في استقبال الغاز الروسي في الصين.

اقرأ أيضا: تطورات في ملف نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر سوريا

لذلك تسعى دول الخليج لاسيما قطر إلى تعزيز توسعها في سوق الغاز لدول الاتحاد الأوروبي التي هيمنت عليها روسيا لعقود طويلة. وتعتزم قطر تصدير الغاز إلى ألمانيا خلال الأعوام القادمة، لكن تصطدم بمنافسة قوية مع الولايات المتحدة الأميركية، التي أصبحت أكبر مصدّر للغاز “المسال” إلى أوروبا، حيث لعبت المسافة بين أميركا وأوروبا دوراً كبيراً في التفوق الأميركي، وتستغرق الرحلة من الموانئ الأميركية إلى ميناء “برونسبوتيل” في ألمانيا نصف الوقت تقريبا الذي تقضيه السفن من قطر إلى ألمانيا.

هذا يعني أن الولايات المتحدة ستظل المورد الرئيسي للغاز الطبيعي “المسال” إلى أوروبا لعام 2023 على الأقل. ومن المرجح أن يولّد هذا إيرادات أكبر لمصدري الولايات المتحدة بعد رقم قياسي في عام 2022، بلغ إجماليه 35 مليار دولار حتى سبتمبر، مقارنة بـ 8.3 مليار دولار خلال نفس الفترة في عام 2021، كما تظهر بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية “أي آي أ“.

لكن حاجة أوروبا الكبيرة للغاز تتطلب استيراد كميات ضخمة، والغاز الأميركي لا يكفي، وستكون أوروبا أكثر جاهزية لاستقبال الغاز “المسال” بعد إتمام بناء محطات تسييل الغاز، لذلك ستلعب الدول العربية دورا أكبر في مستقبل السوق الأوروبية، لأن احتياطاتهم أكبر بكثير من احتياطيات أميركا.

ومع هذا كله لابد للدول العربية المصدّرة للغاز من تحقيق تنوع وتوازن في اتفاقياتها لتصدير الغاز بين السوق الأوروبية التي تلحّ وتطلب الغاز العربي بديلا عن الغاز الروسي، وبين سوق شرق آسيا المستقرة على المدى الطويل. ومن المهم ذكره أن دول الاتحاد الأوروبي تسعى للتخلي عن الوقود الأحفوري مقابل الطاقات المتجددة لاسيما الهيدروجين الأخضر، مما يجعل السوق الأوروبية غير مستقرة من ناحية الطلب في المستقبل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.