لا تنفك الأزمات السياسية في باكستان تهدأ حتى تشتعل مرة أخرى، وهذه المرة على مستوى الاقتصاد الذي يواجه خطر الانهيار، حيث انخفضت العملة الباكستانية التي تعاني من ضائقة مالية مقابل الدولار الأميركي إلى مستويات قياسية، في وقت تسعى فيه حكومة إسلام آباد للحصول على حزمة إنقاذ من “صندوق النقد الدولي”، من دون معرفة إذا ما كان ذلك سيضاعف من ديون البلاد المرتفعة في الأساس، وإذا ما ستكون هناك إمكانية في تسديده. الأمر الذي يهدد مستقبل استقرار الدولة التي تعاني من الاضطراب.

فقد هوت العملة الباكستانية الروبية منذ الأربعاء الماضي، لتصل الروبية عند 230 مقابل الدولار آنذاك، قبل أن تستمر في الهبوط لليوم الثاني على التوالي لتصل عند 255 مقابل الدولار الواحد، وهو انخفاض تاريخي على مستوى العملة الباكستانية، في غضون ذلك وبعد ساعات أكد “البنك المركزي” الباكستاني أن العملة انخفضت بنسبة 9.6 بالمئة مقابل الدولار الأميركي.

ذلك جاء بعد إلغاء الحد الأقصى لسعر الصرف، وفي الوقت الذي تشهد فيه باكستان وضعا اقتصاديا صعبا إذ لم تعد احتياطات النقد الأجنبي تكفي إلا لسداد قيمة الواردات لمدة ثلاثة أسابيع تقريبا في ظل مساع تبدو بلا نهاية للتعامل مع الديون الخارجية، في حين تسعى حكومة إسلام أباد للحصول على حزمة إنقاذ ضرورية من “صندوق النقد الدولي”.

باكستان وأزمة الروبية أمام الدولار

الحكومة التي أشارت أثناء ذلك إلى استعدادها للامتثال للشروط الصعبة التي وضعها “صندوق النقد الدولي” للشريحة التالية من حزمة الإنقاذ الخاصة به، تسعى للحصول على قسط حاسم قدره 1.1 مليار دولار من “الصندوق”، وهو جزء من حزمة الإنقاذ البالغة 6 مليارات دولار لتجنب التخلف عن السداد، وذلك بعد توقف محادثات خطة الإنقاذ مع “صندوق النقد الدولي” في الأشهر الماضية.

في السياق، وعلى الرغم من الأسباب التي أدت بالروبية إلى الانهيار، والتي عزاها مختصون إلى التأخير في إحياء محادثات إنقاذ “صندوق النقد الدولي” وسط استنفاد احتياطيات النقد الأجنبي، تبرز أسئلة عدة حول مصير البلاد والخطوات التي من شأنها إنقاذه من أزمته المالية التي يمكن أن يؤدي تأثيرها على أسعار السلع الاستهلاكية لتهديد مصير الدولة، وإذا ما كان قرض “صندوق النقد الدولي” يمكنه بالفعل انتشال البلاد من مخاطر انهيار العملة المحلية.

اقرأ/ي أيضا:  تفاقم الوضع الاقتصادي بلبنان.. هل يزيد من المخاطر الأمنية؟

مشهد يضع باكستان حاليا أمام واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في البلاد وسط نقصان احتياطيات النقد الأجنبي، ما أثار ذلك مخاوف من تخلف باكستان عن السداد، وفي وقت يؤكد فيه رئيس الحكومة شهباز شريف، أن حكومته مستعدة للالتزام بالشروط الصعبة لـ “صندوق النقد الدولي” لإحياء حزمة الإنقاذ المعلقة منذ أشهر عدة، والبالغة 6 مليارات دولار.

للحديث عن عمق الأزمة الباكستانية المالية، وتداعياتها، شرح الخبير الاقتصادي بلال علامة في حديث لموقع “الحل نت”، ذلك بالقول إن ما تمرّ به باكستان يشبه لحدّ كبير ما تمر به لبنان، لكن الفرق إن إسلام آباد تُعتبر عاصمة لدولة كبرى ذات عدد سكاني كبير، وحتى مدة قريبة لنحو عقد وأقل من ذلك كانت تلعب دورا استراتيجيا في المنطقة، لكنها بدأت تخسر دورها مقابل صعود دولة منافسة وجارة لها مثل الهند، ومع هذه الخسارة وعدم انخراطها في محور معين، تركها ذلك ترزح تحت الأعباء المالية لتأمين العملة الأجنبية.

الأمر الذي أدى، بحسب علامة إلى دفع باكستان إلى عدم القدرة في تأمين حاجتها ما دفعها إلى الاستدانة، وفي غضون ذلك خسرت باكستان الدعم السعودي الذي كان يساعدها في سداد ديونها مع تغير السياسية الخارجية السعودية، ما أدى لعجز باكستان نهائيا في سداد ديونها والوقوع تحت العجز، وهذا بالتوازي مع تأثيرات أزمة “كورونا” والتحول العالمي الذي لم تتمكن باكستان من مجاراته. 

عجلة الديون 

وسط هذا المشهد، بيّن الخبير الاقتصادي، أن احتمالات النمو في الباكستان سقطت ودخلت في مرحلة الانكماش والتراجع الاقتصادي، ما دفعها مجددا إلى الاستدانة ليُفاقم ذلك من ديونها إلى حدّ لا يمكن تداركه، في مقابل الشح بالسلع الاستهلاكية الأساسية التي تحتاجها الدولة وتنامي التضخم وتأثيره على مستوى السلع الرئيسية، لتغرق في الأزمة المالية.

على هذا النحو، ومع لجوء باكستان إلى “صندوق النقد الدولي” لإنقاذ الموقف، لفت علامة إلى أن اللجوء إلى “صندوق النقد” من قبل بعض الدول يمثل إعلان عودة إلى الطلب، ما يعني أن ذلك سيتيح إعادة تموضعها على الخارطة الدولية، لسبب أن الاتفاق مع “صندوق النقد” من الجانب المالي قد لا يكون بأهمية إعادة رسم الثقة والسياسات، وتسوية الأسباب التي تؤدي إلى العجز، مبينا أن ذلك قد يمثل سببا رئيسيا في إعادة تموضع باكستان على الخارطة العالمية مما يسمح لها خلال فترة من عودة صادراتها وعلاقاتها ودورها الاستراتيجي الذي سيتم رسمه انتشال حالها من الازمة الحالية.

علامة أكد أن إخراج باكستان من المشكلات التي أصابتها سيكون من خلال الاتفاق مع “صندوق النقد الدولي”، وذلك على قدر ما يمكن أن يحمله الاتفاق من رضا دولي على أداء باكستان لاحقا، ما سيمهّد إلى إعادة ربطها بمحيطها والعالم، وإتاحة المجال لها في استعادة دورها والتغطية على عجزها والفجوة المالية التي لديها.

اقرأ/ي أيضا: الانفتاح العربي على العراق.. نقطة شروع لتوازنات دولية جديدة؟

في غضون ذلك خسرت الروبية 24,11 في السوق الرسمية بين البنوك لتصل إلى 255,43 روبية مقابل الدولار، وذكرت “توب لاين سكيوريتيز” للوساطة المالية، أن التراجع في قيمة الروبية البالغة نسبته 9,6 بالمئة يعد ثاني أكبر هبوط في جلسة واحدة، وسجل التراجع السابق الرسمي البالغ 240 روبية في تموز/يوليو 2022 عندما تدهور الاقتصاد الباكستاني الذي يواجه صعوبات منذ زمن بعيد بفعل حالة الفوضى السياسية والفيضانات المدمرة.

نتيجة تلك المعاناة، كانت حكومة رئيس الوزراء السابق عمران خان، قد تفاوضت في العام 2019، على حزمة إقراض بمليارات من الدولارات من “صندوق النقد الدولي”، لكن الاقتصاد تراجع عندما تخلى خان، عن تعهده بخفض الدعم والتدخلات السوقية التي خفّفت أزمة تكاليف المعيشة، فيما تردد رئيس الوزراء الحالي شهباز شريف بالإيفاء بشروط القرض في ظل تراجع شعبيته.

هذا وقد كان الحد الأدنى لسعر الصرف قد ألغي بالتشاور مع “البنك المركزي” الباكستاني، حسبما قال رئيس رابطة شركات صرف العملات الباكستانية ظفار باراشا لوكالة الصحافة العالمية “فرانس برس”، في حين تشير التأكيدات إلى أنه من المتوقع أن يرتفع التضخم أكثر في البلاد، في وقت علقت فيه آلاف حاويات الشحن المحملة بالمواد الخام اللازمة من أجل الصناعة والمواد الغذائية والمعدات الطبية في ميناء “كراتشي” إثر رفض المصارف ضمان تعاملات الموردين بالدولار.

أزمات متتالية

أزمة العملة تتزامن مع أزمة انقطاع الكهرباء في باكستان، حيث شهدت انقطاعا للكهرباء في كامل مناطق البلاد هذا الأسبوع نتيجة إجراء لخفض التكاليف، وهو أمر تفيد تقديرات بأنه كلّف قطاع صناعة الأقمشة وحدة 70 مليون دولار، إذ تحدث مسؤولون خلال تصريحات صحفية، قائلين إن المصانع مثل مصنعي المنسوجات تغلق حاليا أو تقطع ساعات العمل للحفاظ على الطاقة والموارد، بينما تفاقمت الصعوبات الاقتصادية والتجارية بسبب انقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء البلاد واستمر الانقطاع أكثر من 12 ساعة.

على الجانب الآخر، وفي الأسواق يتواصل غلاء الأسعار في ظل امتناع البنوك عن تدبير النقد الأجنبي للمستوردين، فيما تصاعدت تحذيرات جمعيات شركات الطيران والشركات الأجنبية من أنها قد لا تعيد الدولارات إلى البلاد بسبب ضوابط رأس المال المفروضة لحماية الاحتياطيات الأجنبية المتضائلة، وفق ما جاء في صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية.

في الأثناء، انخفضت الاحتياطيات الأجنبية لدى باكستان إلى أقل من 5 مليارات دولار، أي أقل من شهر كامل من الواردات خلال الشهر الجاري، ولا تزال حكومة شريف في مأزق مع “صندوق النقد الدولي” بشأن إعادة إحياء حزمة مساعدات بقيمة 6 مليارات دولار والتي توقفت العام الماضي.

الاضطرابات الاقتصادية تأتي في الوقت الذي تستعد فيه باكستان لانتخابات يجب إجراؤها هذا العام، والمنافس الرئيسي لنواز شريف هو رئيس الوزراء السابق عمران خان، الذي أُطيح به العام الماضي وتعرض لمحاولة اغتيال، لكنه لا يزال يحظى بشعبية كبيرة، ويلقي كلا الزعيمين باللوم في الأزمة الاقتصادية على الآخر.

يُشار إلى أن باكستان كانت قد حصلت على تعهدات من مانحين دوليين بلغت أكثر من 8 مليارات دولار في مؤتمر جنيف الذي عقد في بداية الشهر الجاري، ولكنها تظل تعهدات وليست أموالا فورية ستصل لإنقاذ البلاد من أزمتها الحادة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.