الزلزال المدمّر الذي ضرب كلّ من تركيا وسوريا قبل أيام، دمر مناطق واسعة من البلدين، وقتل أكثر من 26 ألف شخص حتى اللحظة، ومن المتوقع أن يرتفع العدد، حيث لا تزال عمليات البحث تحت الأنقاض جارية إلى اللحظة من قِبل فرق الإنقاذ.

على وجه التحديد في سوريا، فقد تم تدمير أحياء ومدن بأكملها في العديد من المحافظات الشمالية والشمالية الغربية السورية، من حلب واللاذقية وإدلب وحماه، وسوريا بلد منهك ومدمّر أصلا على خلفية الحرب الدائرة منذ ما يقرب من 11 عاما. وجراء هذا الزلزال، سارعت العديد من الدول إلى مدّ يد العون للسوريين، وخاصة العربية منهم. وبينما يعاني السوريون وسط كل هذا، وطبقا لمحللين، تسعى الحكومة السورية إلى تحقيق مكاسب جمة من الزلزال الذي دمّر أجزاء كبيرة من البلاد، وتضغط من أجل رفع العقوبات عنها من جهة وإرسال المساعدات الخارجية عبر بواباتها حصريا للتحرر تدريجيا من العزلة الدولية المفروضة عليها وإعادة تعويم نفسها من جهة أخرى.

إلا أن الخارجية الأميركية رفضت مقترح اغتنام فرصة الزلزال للتواصل مع دمشق، قائلة إنها ستستمر في تقديم المساعدة للسوريين في المناطق التي تسيطر عليها دمشق من خلال المنظمات غير الحكومية في الميدان وليس من خلال الحكومة السورية، وتشير البيانات الأميركية إلى عكس ما تزعمه دمشق من أن العقوبات الأميركية تقف عائقا أمام تقديم المساعدات للشعب السوري.

كذلك، تأكيدا على عدم صدق الحكومة السورية فيما تزعمه بخصوص العوائق الأميركية أمام المساعدات الإنسانية، أعلنت “وزارة الخزانة الأميركية”، أن عقوبات الولايات المتحدة المفروضة على سوريا لن تُطبّق على المعاملات الخاصة بتقديم المساعدات المتعلقة بالزلزال حتى الثامن من آب/أغسطس 2023.

الوزارة أوضحت في بيان، أن هذا الترخيص سيكون ساري المفعول لمدة 6 أشهر، مشيرة على وجه التحديد إلى أنه يُسمح بتحويل الأموال من وإلى سوريا. وبالتالي، فإن هذا القرار الاستثنائي يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات، لا سيما أن هذا القرار الأميركي يعود لعام 2004 على خلفية اتهام الحكومة السورية بتهديد الأمن القومي الأميركي من خلال دعمه لتنظيمات إرهابية في لبنان والعراق، وهذه التساؤلات تتمحور حول مدى استفادة منكوبي الزلزال السوري من هذا القرار، وفيما إذا كانت الحكومة السورية ستستفيد منه أم أن التشديد الغربي سيكون صارما، بجانب  نتائج وتبعات هذا الاستثناء الأميركي سواء على الشعب السوري أم الحكومة، وتأثيره على سعر الصرف.

لمساعدة منكوبي سوريا

الوزارة الأميركية، قالت في بيان يوم أمس الجمعة إن “مكتب مراقبة الأصول الأجنبية” التابع لوزارة الخزانة (أوفاك) منح ترخيصا عاما يسمح لمدة 180 يوما، أي 6 أشهر، ابتداء من اليوم وحتى الساعة 12:01 صباحا بتوقيت الساحل الشرقي للولايات المتحدة يوم 8 آب/أغسطس 2023، مشيرة على وجه التحديد إلى تحويل الأموال من وإلى سوريا.

النائب الأول لوزير الخزانة، أديوال أدييمو، قال “في الوقت الذي يتحرك فيه الحلفاء الأجانب والشركاء الإنسانيون لمساعدة المتضررين، أريد أن أوضح أن العقوبات الأميركية على سوريا لن تعرقل الجهود المبذولة لإنقاذ حياة السوريين”، مضيفا “بينما تحتوي برامج العقوبات الأميركية بالفعل على استثناءات قوية للجهود الإنسانية، تُصدر وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز أكثر على ما هو مطلوب لإنقاذ الأرواح وإعادة البناء”.

أدييمو بيّن أن هذه العقوبات ضد سوريا كانت تنطوي في السابق على عدد من الاستثناءات المتعلقة بتقديم المساعدة الإنسانية من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، وأن الترخيص الممنوح، لا يغطي الإجراءات المتعلقة ببيع النفط السوري والمنتجات البترولية في الولايات المتحدة، كما أنه لا ينطبق على الأشخاص الذين أشارت السلطات الأميركية إلى ممتلكاتهم سابقا على أنها ممتلكات محظورة.

قد يهمك: العقوبات والحملة الممنهجة.. مخاوف من استغلال دمشق للزلزال سياسيا؟

العديد من المراقبين يعتقدون أن هذا القرار الأميركي إيجابي، ولكن في حال ذهبت كل المساعدات المالية لمن يستحقها ولمنكوبي الزلزال المدمّر الذي ضرب سوريا، لكنه سيكون سلبيا إذا تلاعبت الحكومة السورية بهذه المساعدات المالية وسيّسستها. خاصة وأن هذه الحكومة شبه منهارة اقتصاديا، وأي مساعدة قد تؤدي إلى تعزيز نفوذها في البلاد، لذلك من الضروري تشديد الرقابة الغربية على هذا الأمر، لما له من تداعيات سلبية بشكل عام.

قانون منذ عام 2004

بعض السياسيين السوريين المعارضين، يقولون أن هذا القرار يعود لعام 2004، والوارد في قرار الخزانة الأميركية هو استثناء من أنظمة العقوبات السورية التي صدرت بتاريخ 12 أيار/مايو عام 2004، الجزء /542/ من الكود الفيدرالي للعقوبات “سي إف آر” وذلك على خلفية استمرار دمشق في تهديد الأمن القومي والسياسة الخارجية والاقتصاد للولايات المتحدة، وقد تم تجديد حالة الطوارئ هذه في عام 2010، ومن ثم تم تمديدها لمنتصف عام 2023 الجاري، بحسب ما نشره “البيت الأبيض”، منتصف العام الفائت.

السياسيون يعتقدون أن القرار الأميركي هو مقدمة لتفعيل آلية الحماية المدنية الأوروبية، التي طلبت الحكومة السورية رسميا من “المجلس الأوروبي” تفعيلها، والتي ستسمح بوصول التدفقات المالية المعدّة للإغاثة عبر بوابات دمشق البنكية، ولكن ضمن المراقبة وإثبات أنها لن تُستخدم في أي شيء آخر غير الأعمال الإغاثية.

في هذا السياق يرى الكاتب والمحلل السياسي السوري حسن النيفي، أنه “يمكن التأكيد أصلا أن العقوبات الاقتصادية الأميركية ليست مفروضة على الدولة السورية والشعب السوري، بل تشمل الرئيس السوري، وحفنة من رجاله وبعض الشركات التابعة له والذين يموّلون آلة القتل منذ سنوات عديدة “.

النيفي، بحسب تقديره لموقع “الحل نت”، أنه لا شك في أن “النظام يحاول استغلال المأساة السورية من أجل رفع الحصار المفروض على زمرته، وللأسف تلقى بعض الردود من بعض الدول العربية”.

بيان الوزارة الأميركية يشير أن تخفيف العقوبات وحده لا يمكن أن يعكس التحديات الهيكلية طويلة الأمد والتكتيكات الوحشية للحكومة السورية، لكنه يمكن أن يضمن أن العقوبات لا تمنع المساعدة المنقذة للحياة اللازمة بعد هذه الكارثة. وفي 7 من شباط/فبراير الجاري، أكدت الخارجية الأميركية في بيان مصور باللغة العربية أن العقوبات الأميركية لا تمنع وصول المساعدات الإنسانية للشعب السوري، وذلك ردا على دعاية وسائل الإعلام الموالية لحكومة دمشق.

هذا وكانت أول عقوبات اقتصادية تفرضها الولايات المتحدة الأميركية على الحكومة السورية في عام 1979، حيث اتهمت الخارجية الأميركية الحكومة في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد بدعم الإرهاب المقصود به الإشارة إلى المنظمات الفلسطينية في سوريا ولبنان.

منذ عام 2011 أصدرت الإدارات الأميركية المتعاقبة سلسلة من العقوبات طالت كيانات وأشخاصا مسؤولين في الحكومة السورية وداعمين لها، إضافة إلى كيانات حكومية، على خلفية استمرار السلطات الحاكمة في دمشق بقمع المنتفضين ضده.

قبل أيام، أعلن “الاتحاد الأوروبي” عن تمويل جديد بقيمة 3.5 ملايين يورو لصالح المتضررين في كل المناطق السورية، بحسب ما ذكرته البعثة الأوروبية في سوريا يوم الخميس الماضي. وقالت البعثة إنها فعّلت آلية الحماية المدنية التابعة للاتحاد الأوروبي، بعد تلقي طلب من دمشق يخص ذلك، وتشجّع دول الاتحاد على إرسال المساعدات للسوريين. وجدّد الاتحاد الأوروبي التزامه بمساعدة السوريين من خلال شركائه على الأرض، وبالأخص في هذا الوقت العصيب على الرغم من “التحديات المتزايدة على جانبي الحدود”.

النهب والمراوغة

دمشق طالبت مرارا بنقل المساعدات لجيب فصائل المعارضة السورية في الشمال الغربي عبر بواباتها وليس عبر الحدود التركية. وقال آرون لوند الخبير في الشؤون السورية لدى مؤسسة “سنشري” “من الواضح أن هناك نوعا من الفرص يسعى الأسد لاستغلالها من هذه الأزمة، وهي إما أن تعملوا معي أو من خلالي”.

من جانبهم، الدول الغربية تتجنب التعامل مع الأسد، عازيا ذلك إلى ما يعتبره أسلوبا وحشيا تنتهجه حكومته خلال الحرب الدائرة منذ ما يزيد على 11 عاما، التي أودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص وشردت أكثر من نصف السكان وأجبرت الملايين على النزوح إلى الخارج. لكن الخطوط الأمامية ظلت لسنوات من دون تغيير، بينما يسيطر الأسد المدعوم من روسيا وإيران على الجزء الأكبر من الدولة المنقسمة.

لكن حتى الآن لم تُظهر القوى الغربية ما يفيد باستعدادها لتلبية هذا المطلب أو التعامل مع حكومة دمشق مرة أخرى، لكن ما يخدم موقف الأسد هو صعوبة إرسال مساعدات من تركيا إلى منطقة شمال غربي سوريا التي تسيطر عليها قوى المعارضة.

بالعودة إلى المحلل السياسي السوري، فإنه يعتقد أن القرار الأميركي باستثناء جهود إغاثة منكوبي الزلزال في سوريا من العقوبات لمدة 6 أشهر “غير مصيب”، وعزا ذلك، بأن الحكومة السورية، وبقيادة الأسد ستحاول استثمار أي جانب مالي لصالح نظامه وليس لصالح الشعب، بمعنى أن ثمة طرق ملتوية ستتّبعها الحكومة السورية، عبر العديد من رجالها وشركاتها التابعين لها بشكل غير مباشر.

قد يهمك: الزلزال يكثف من المساعدات والاتصالات العربية مع دمشق.. بوابة لإعادة العلاقات؟

العديد من النشطاء المقيمين في مناطق الحكومة السورية، قالوا إن المساعدات التي وصلت إلى سوريا من عشر دول بعد الزلزال، تُقدر بمئات ملايين الدولارات، لكنها لم توزع للمتضررين حتى اليوم، وإنه تم توزيع مساعدات قديمة ومهترئة على المتضررين. وتاريخ الحكومة السورية مليء بهذا النوع من الاستحواذ على المساعدات الدولية، إذ كشفت العديد من التحقيقات الغربية، كيف تقوم دمشق بسرقة المساعدات الأممية المقدمة للشعب السوري المنكوب.

هذا وتتالت شكاوى السوريين بمناطق سيطرة دمشق خلال الأيام الماضية حول سرقة المساعدات الدولية، وربط توزيع المساعدات بمجموعات تابعة للسلطات. والعديد من المراقبين يقولون إنه طالما هذه الحكومة هي من قامت بقتل وتهجير شعبها، فإنه من الصعب الوثوق بها، وبالتالي لن تتهاون هذه الحكومة في استغلال المساعدات وكل القرارات الأممية لا سيما القرار الأميركي في صالحها، خاصة وأن هذه الحكومة منهارة اقتصاديا.

العديد من الخبراء قالوا إن المساعدات التي تأتي من “الأمم المتحدة” والمانحين والدول العربية في الآونة الأخيرة، تصل معظمها إلى مناطق حكومة دمشق، وحذّروا من عدم وصولها لمستحقيها.

في حين يخشى السوريون من أن دمشق قد تنهب وتمنع من إيصال المساعدات إليهم، قال المصطفى بنلمليح كبير مسؤولي الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سوريا “ستستمر الأمم المتحدة وشركاؤها في البحث عن سُبل لتوسيع نقاط الوصول وضمان وصول المساعدة إلى الفئات الأكثر ضعفا”، وأضاف “ضمان وصول المساعدات إلى من هم في أمسّ الحاجة إليها يتطلب إرادة سياسية من جميع الجهات الفاعلة”.

التبعات على سعر الصرف

في المقابل، بلغت المساعدات النقدية فقط، بحسب تصريح عضو “مجلس الشعب” عن محافظة ريف دمشق، عبد الرحمن الخطيب، النقدية 4 مليارات و483 مليون ليرة سورية من أهالي محافظة ريف دمشق، عدا عن المواد الغذائية والحرامات، حيث تجاوزت قيمة المساعدات العينية أكثر من ملياري ليرة سورية.

المصرف التجاري بدمشق أعلن أيضا عن فتح حسابين لاستقبال تبرعات متضرّري الزلزال، الأول يعود لاتحاد غرف التجارة والثاني لاتحاد غرف الصناعة السورية، مبينا خلال بيان، أن الحسابات المفتوحة تتلقى أيضا الحوالات الخارجية من قبل المتبرعين سواء عن طريق المصارف المرخّص لها التعامل بالقطع الأجنبي التي لديها حسابات فعّالة في الخارج أو شركات الصرافة العاملة في سوريا.

في السياق كتب الخبير الاقتصادي الدكتور كرم شعّار على صفحته الشخصية على منصة “فيسبوك”، أن “المصرف المركزي السوري” سيعطي “الأمم المتحدة” سعر صرف عادل ومطابق لسعر السوق الموازية أو السوداء كما تسمى. حيث كان هذا السعر خلال السنوات الأربع الماضية في بعض الأحيان أقل بنحو 50 بالمئة من سعر الصرف في السوق السوداء. وهذا يعني خسارة أكثر من 150 مليون دولار سنويا من أموال المساعدات الغربية لسوريا.

لذلك، فإن القرار الأميركي سيساهم أيضا في إيصال المبالغ المالية لسوريا عبر القنوات الرسمية، بنفس سعر السوق السوداء، وهو أمر إيجابي ويرطّب من حالة الاحتقان الاقتصادي للشعب السوري، بحسب تقدير الخبير الاقتصادي.

إجمالا، ووسط فيض من التعاطف الدولي مع السوريين الذين عانوا الكثير، فإن حكومة دمشق، التي كانت ولا تزال تحاول الاستفادة من المساعدات وكل القرارات الدولية لصالحها وإضفاء الشرعية عليها، بجميع الطرق الملتوية الممكنة، ولكن يبقى الرهان على مدى قدرة الرقابة الغربية على منع هذا الاستغلال، حيث سيتضح كل هذا في الفترات المقبلة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.