ثروة العراق المائية تواجه خطر الجفاف بشكل غير مسبوق، وتهدد أرضه بمزيد من التصحر وتراجع المساحات الخضراء، فرغم استمرار الحكومة العراقية في استخدام جميع الأساليب الدبلوماسية من خلال الحوار مع دول المنبع؛ تركيا وإيران لإطلاق كميات أكبر من المياه في الأنهار، خاصة نهري “دجلة والفرات”، من أجل توسيعهما حسب احتياجات البلاد، خلال السنوات الماضية، وتحديدا العامين الماضيين، إلا أن كلّ هذه الجهود فشلت في الوصول إلى حلّ يرضي الأطراف.

يبدو أن لا حلول وأطر قريبة إزاء هذه الكارثة، حيث أصبحت أزمة ندرة المياه من التحديات التي تواجه الحكومات العراقية في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى، بل وباتت تهدد الأزمة المائية المواقع المدرجة في قائمة التراث العالمي، بسبب موجة الجفاف الحادة من جهة وتراجع منسوب نهري “دجلة والفرات” وروافدهما من جهة أخرى نتيجة حبس تركيا لحصة العراق من هذه الأنهار.

رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال مؤتمر صحافي عقده مؤخرا، أقرّ بأن العراق يواجه تحديات المناخ وارتفاع نسبة التصحر، وهناك مواقع مدرجة في لائحة التراث العالمي مهددة بسبب شح المياه، وأن بغداد تنتظر من “الأمم المتحدة” دعم الجهود لمواجهة تلك التحديات.

كذلك، كشف شياع السوداني قبل يومين، عن الإعداد لرؤية للعمل المناخي لغاية العام 2030، إلى جانب دعوات الدول الصديقة ومنظمات “الأمم المتحدة” لدعم العراق في مواجهة آثار التغيرات المناخية. من هذا المنطلق لا بد من طرح أبرز آثار التغيرات المناخية على العراق وتساؤلات حول حبس تركيا لنهري “دجلة والفرات” وتداعياته، وإذا ما ثمة تحديات وعقبات حول خطة العراق لمواجهة التغيرات المناخية ومدى نجاحها.

قدرات العراق على احتواء تغيرات المناخ

شياع السوداني قال في كلمة له خلال افتتاح مؤتمر العراق للمناخ الذي عُقد في البصرة يوم الأحد الماضي، “سندعو لمؤتمر إقليمي يُعقد في بغداد قريبا، لتعزيز التعاون والتنسيق المشترك، وتبادل الخبرات والبرامج بين دول الإقليم في مواجهة التأثيرات المناخية”، مضيفا بحسب “وكالة الأنباء العراقية” (واع)، “ماضون في توقيع عقودٍ لإنشاء محطات توليد الطاقة من المصادرِ المتجددة، لتغطي ثلث حاجتنا من الكهرباء بحلول العام 2030”.

كذلك أطلق رئيس الوزراء خلال المؤتمر، “مبادرة كبرى لزراعة 5 ملايين شجرة ونخلة في عموم محافظات العراق”، مبينا أن “افتتاح مؤتمر العراق للمناخ، سيؤسس مرحلة جديدة لمواجهة الآثار الشديدة للتغيرات المناخية على العراق”.

شياع السوداني يرى أن التغيرات المناخية التي تمثّلت بارتفاع معدلات درجات الحرارة، وشُحّ الأمطار، وازدياد العواصف الغبارية، مع نقصان المساحات الخضراء، كانت السبب الرئيس بتهديد الأمن الغذائي والصحي والبيئي والأمن المجتمعي، وعلى إثرها تضرر أكثر من 7 ملايين مواطن، وعانت مناطقهم الجفاف، ونزحوا بمئات الألوف لفقدانهم سبل عيشهم المعتمدة على الزراعةِ والصيد، ولا سيما في منطقة الأهوار العراقية.

بينما يرى المراقبون أن هذه الخطة بدون دعم دولي حقيقي، وتحديدا منظمات “الأمم المتحدة”، لن تنجح، ولن تأتي بأي نتائج وثمار إيجابية للعراق في مواجهة تداعيات التغير المناخي، خاصة وأن الوضع العراقي مأزوم على عدة مستويات، لا سيما السياسية، بالنظر إلى هيمنة بعض الأطراف على المشهد العراقي من عدة مسارات، وتحديدا الجانب الإيراني.

قد يهمك: تفاعلات عراقية تركية لاحتواء أزمة المياه.. ما النتائج؟

كذلك، مع تسبب الجانب التركي بانخفاض منسوب نهري “دجلة والفرات”، سيواجه العراق بشكل عام آثارا سلبية كبيرة، من حيث تدمير القطاع الزراعي، حيث توجد أعداد كبيرة من المشاريع الزراعية تعتمد على مياه هذه الأنهار. ومن ثم سيؤثر ذلك حتما على الثروة الحيوانية وتاليا على الوضع الاقتصادي ككل.

هذا وتأتي المياه إلى الأهوار من نهري “دجلة والفرات”، اللذين يوفران بيئة طبيعية للأسماك والطيور والحيوانات، وتُعد الأهوار نقطة استراحة وتوقف لآلاف الطيور المهاجرة بين سيبيريا وإفريقيا، فضلا عن مناظرها وطبيعتها الخلابة، التي تجعلها من أبرز المناطق السياحية العراقية.

عليه، فإن الأضرار التي لحقت ولا تزال بالمنطقة وحدوث الجفاف فيها سيؤدي إلى تدهور القطاع السياحي أيضا، وليس فقط قطاع الزراعة والثروة الحيوانية. لذلك فإن الأضرار الناجمة عن هذا الجفاف الحاد من جميع النواحي سيكلف البلاد أضرارا اقتصادية كبيرة، مما قد يؤدي إلى تفاقم الوضع العراقي العام أكثر فأكثر.

العقبات والتحديات

في السياق، تتزايد المخاوف من حدوث جفاف كامل في الأهوار العراقية، بسبب ارتفاع درجات الحرارة وشحّ الأمطار بفعل ظاهرة التغير المناخي التي تضرب مفاعيلها العراق بقوة منذ سنوات. ويُعد العراق خامس الدول الأكثر تضررا من التغيرات المناخية العالمية وفق وزارة البيئة العراقية.

بالنظر إلى أن أزمة المياه في العراق تُعتبر من التحديات التي تواجهه في القرن الـ21، وهي مشكلة عالمية لها آثارها وانعكاساتها السلبية على التنمية المستدامة، وتُعد المياه مصدرا حيويا واستراتيجيا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن ذلك يهدد أمن المياه بالعراق بشكل جدي وحقيقي اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا سيما وأن هذه الأزمة تتفاقم مع تزايد أعداد السكان في العالم وترتبط بمشكلات أخرى، بخاصة التغير المناخي والاحتباس الحراري ومشكلات بيئية أخرى.

بالتالي ونظرا لحجم وكبر الأزمة، ترأس شياع السوداني قبل نحو أسبوع جلسة للجنة الوطنية العليا للمياه بحضور وزراء الموارد المائية والإعمار والإسكان والبلديات والزراعة والبيئة وأمين عام مجلس الوزراء والمديرين العامين في الوزارات القطاعية وممثلين عن هيئة المستشارين. حيث شهدت الجلسة مناقشة الشحّ المائي في العراق وآثاره على الواقع الإنساني والزراعي وآليات دعم وزارة الموارد المائية في خططها المعدة لمعالجة الأزمة، فضلا عن مناقشة الجهود الدبلوماسية في هذا الإطار.

صحيح أن شحّ المياه أزمة عالمية ولا تقتصر على العراق فقط. لكن موارد العراق وقدراته في التعامل مع آثار التغير المناخي ضعيفة وليست بمستوى الدول الكبرى التي تمتلك قدرات كبيرة ومتطورة لمواجهة هذه التغيرات. فمثلا بغداد ليست لديها الخبرات الكبيرة للعمل على إدارة المياه بشكل مدروس ومخطط وهي بحاجة إلى خبراء من الخارج، فضلا عن ضعف ميزانيتها في التخفيف من أزمة ندرة المياه وتأثيراتها في الواقع الزراعي، حيث أن اللجوء إلى تقنية معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها في الري وإزالة التجاوزات على مياه الأنهر مكلفة.

قد يهمك: أزمة المياه في شرق سوريا.. الجفاف يعرقل محاصيل الشتاء؟

كذلك مطلوب من الحكومة العراقية والجهات المعنية منح قروض معقولة للفلاحين الذين يستخدمون الآليات الحديثة في الري من خلال اعتمادهم على الري بالرش والري بالتنقيط، فضلا عن دعمهم بالأدوات اللوجستية المتطورة، ولكن هذا يبقى رهن قيام بغداد بشكل حقيقي وجدي، ذلك لأن الكلام النظري لوحده غير كافٍ، فالتطبيق على أرض الواقع فقط كفيل بالحد من أزمة الجفاف وتخفيف تغيرات المناخ.

تركيا شريكة بأزمة الجفاف بالعراق!

في المقابل، أكد وزير الموارد المائية العراقي، عون ذياب، أن الوضع المائي في العراق مقلق، فقد تحول العراق من بلد فيه وفرة من المياه إلى بلد على شفا الجفاف، وبلاد الرافدين لم تعد كما كانت سابقا حيث تحول نهري “دجلة والفرات” إلى قنواتٍ مائية تتحكم بها السدود التركية لا أكثر.

العديد من المنظمات الدولية أطلقت إزاء الممارسات التركية تحذيرات، ومنها “اليونسكو” التي أشارت إلى أن نهر “دجلة” سيجف خلال عام 2030 إذا لم يتحرك المجتمع الدولي، خاصة مع استمرار تركيا بحبس حصة العراق من النهر ذاته. كذلك حذر ذياب، من جفاف نهر “الفرات” إذا استمرت تركيا في سياستها المائية، مبينا “لم نصل إلى اتفاق في شأن نهر دجلة”، وفق تقارير.

ذياب قال في مقابلة صحافية إن “مخزون المياه في العراق قليل وإن هناك اتفاقا بينه وتركيا وسوريا يخص نهر الفرات لتوزيع المياه بين الدول الثلاث”، موضحا أنه “تم الاتفاق على إطلاق 500 متر مكعب في الثانية من تركيا إلى العراق وسوريا ولكن أنقرة امتنعت عن تجهيز هذه الكمية، فما تجهزه حقيقة هو نصف الكمية المتفق عليها”، مشيرا إلى أن النظام المائي في العراق يعاني من اخفاقاتٍ كثيرة، وأن النقص في الوارد المائي وصل إلى أكثر من 60 بالمئة مقارنة بالأعوام السابقة.

ذياب أردف أن “نهر الفرات سيجف إذا استمرت تركيا بهذه السياسة، وفي خصوص نهر دجلة لم نتوصل إلى اتفاق محدد بالأرقام مع أنقرة في شأن حصة بغداد من مياه النهر، وتم التوصل إلى توقيع اتفاق مع الرئيس رجب طيب أردوغان على أن تزود بلاده العراق بكمية معقولة من المياه، لكن للأسف لم يتم الاتفاق على هذه الكمية”، لافتا إلى أن، “مبدأ تقاسم الضرر بين دول المصب والمنبع قد تم الاتفاق عليه مع تركيا، لكن الأخيرة لم تطبق هذا المبدأ معنا، مما أدى إلى وقوع الضرر الأكبر على العراق”، مؤكدا أن “أنقرة لم تفتح أي من سدودها بعد كارثة الزلزال لأنها تعتمد على توليد الطاقة الكهربائية من السدود وهي آمنة من الزلازل”.

ضعف الجانب القانوني؟

شياع السوداني، يقول إن حكومته تقوم في الوقت الراهن بجملة من المعالجات القانونية والتنفيذية تعتمد على الحوار مع دول المنبع وعلى المصالح المشتركة والتعاون مع المنظمات الدولية في هذا المجال. وخلال كانون الثاني/يناير الماضي جرت اتصالات دبلوماسية عراقية تركية لحل أزمة نقص المياه الحادة التي يعاني منها العراق.

بعض التقارير تقول إن ثمة اتفاق 1982، أو ما يسمى “قانون البحار” الذي صادق عليه العراق عام 1985، وتوجد محكمة مختصة بذلك وفق هذه الاتفاق، مقرها هامبورغ، وتتكون الدول المنظمة لهذا الاتفاق من 196 دولة منها العراق وتركيا، إذ أعطت المادة “297” من هذا الاتفاق الحق للدول المتضررة باللجوء إلى هذه المحكمة في حال استعصاء الحلول الثنائية. ويمكن للعراق أن يطلب مساعدة الولايات المتحدة وفق المادة “27” من الاتفاق الاستراتيجي لعام 2008. إلى جانب أحقيتها باللجوء إلى “محكمة العدل الدولية”، لأخذ حقوقها من المياه.

لكن المراقبين يرون أن البيئة الداخلية العراقية غير مهيئة لدعم الحكومة في تصعيد هذا الملف والضغط على تركيا، والأخيرة تفهم وتدرك أن الجبهة الداخلية العراقية مشتتة ولا تستطيع أن تتفق على اتفاقات استراتيجية التي من شأنها أن تمكّن الحكومة العراقية من تصعيد هذا الملف والمطالبة به على نطاق واسع.

كما يرى المحللون أنه حتى لو أقرت تركيا اتفاقا مع العراق بشأن أزمة المياه، فإنها لن تلتزم به، بالنظر إلى أنها ترى نفسها متسلطة على العراق. وهذه الأخيرة ليس لها طموحاتها الوطنية والإقليمية، وبالتالي فإن الضغط والابتزاز التركي سيستمر إلا إذا أصبحت الدولة العراقية قوية وقادرة على تصعيد القضية وأخذ حقوقها وفق القوانين الدولية. لذلك، على الحكومة العراقية أن تتبع مسارين؛ الأول تشكيل جبهة وطنية معنية بقضية المياه، والثاني هو أن تنفتح الحكومة العراقية على القوانين الدولية في هذا الشأن، بالإضافة إلى حل مشاكلها السياسية الداخلية.

هذا ويعاني العراق بشدة من نقص المياه، لا سيما بسبب سد “إيليسو” التركي الذي بُني عند منبع نهر “دجلة”، والسدود التركية الأخرى التي بُنيت على روافد أصغر. وسد” أتاتورك” الذي بني على منبع نهر “الفرات”، كما وتمنع تدفقه إلى الأراضي السورية منذ أكثر من عامين، مما أدى إلى انخفاض منسوب الأنهار إلى مستوياتٍ تاريخية، وهو ما يؤثر على حياة الملايين من السكان في البلدين.

في العموم، فإن استمرار تداعيات التغير المناخي دون وجود حلول وخطط حقيقية وفعّالة، إلى جانب استمرار تركيا بحبس حصة العراق من نهري “دجلة والفرات”، سيُبقي العراق ضعيفا أمام تركيا ويفقده الكثير من حيازته للدفاعات المائية، وسيؤثر ذلك على العديد من قطاعات الحياة، من الزراعة والثروة الحيوانية، وبالتالي الإضرار بالوضع الاقتصادي والمعيشي ككل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.