في الوقت الذي تتخبّط فيه سوريا على عدة مستويات، بجانب غرقها في أكبر الأزمات في التاريخ الحديث، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو حتى اجتماعية إلى حد ما، تستمر الأزمة الزراعية التي تمثل أحد ركائز الاقتصاد السوري، وخاصة المحصول الزراعي الاستراتيجي؛ القمح والشعير. فمن ناحية، ثمة تداعيات مناخية وموجة جفاف شديدة تضرب هذا القطاع، ومن ناحية أكثر وطأة غياب الدعم الحكومي للمزارعين في إنقاذ مواسمهم الزراعية من الاحتراق. فكل هذه العوامل تضع في نهاية المطاف المحصول الاستراتيجي في مكان خطر.

هذا العام تأخر هطول الأمطار، مما أدى إلى إحجام عدد من المزارعين عن زراعة أراضيهم في الموسم الحالي، بالإضافة إلى تأخر تأمين مادة المازوت بالكميات المطلوبة لجميع المزارعين في العديد من المحافظات السورية بسبب تعثر الحكومة السورية وعجزها عن توفير المحروقات والدعم بشكل عام للقطاع الزراعي.

بالاستناد إلى ما ذُكر، فإن هذا يدفع المرء إلى طرح بعض التساؤلات هنا، حول تأثير الجفاف والتغير المناخي على الزراعة بسوريا، وفشل حكومة دمشق في دعم الفلاحين حيال ذلك، وكيف تساهم هذه الحكومة في “تصفير” إنتاج الموسم الزراعي بالبلاد، وأخيرا انعكاسات ذلك على الفلاحين والزراعة والحركة الاقتصادية ككل.

جفاف غير مسبوق

في السياق، أكد رئيس “اتحاد الفلاحين” في محافظة السويداء، سمير البعيني، لصحيفة “الوطن” المحلية، أن تأخر هطول الأمطار أدى إلى إحجام عدد من المزارعين عن زراعة أراضيهم في الموسم الحالي يُضاف إليه التأخير في تأمين مادة المازوت بالكميات المطلوبة لجميع المزارعين على ساحة المحافظة.

البعيني أوضح للصحيفة المحلية يوم الخميس الماضي، أن واقع المحاصيل الاستراتيجية من القمح والشعير لا يبشر بالخير في ظل هذه الظروف وينذر بكارثة تشابه واقع المحاصيل الحقلية للعام الماضي والتي لم تتجاوز نسبة ما تم جنيه منها الـ 10 بالمئة من الأراضي المزروعة نتيجة قلة الهطل المطري.

كذلك أقر المسؤول الحكومي بفشل دمشق عن تأمين المحروقات للمزارعين، حيث قال “إنه نتيجة للنقص في مادة المازوت” إضافة إلى موجة الصقيع التي أصابت المحاصيل في فترة الإنبات والتي أدت جميعها إلى خروج أكثر من 85 بالمئة من تلك المحاصيل من نطاق عملية الحصاد.

بالنظر إلى لفت البعيني إلى الظلم الذي لحق بمزارعي المحافظة جراء النقص في مادة المازوت الموزعة لزراعة المحاصيل الحقلية والتي لم تتجاوز الـ 600 ألف ليتر من أصل مليون و200 ألف ليتر، والذي يعود الشح بالمادة الموردة، إضافة إلى عدم تزويد لجنة المحروقات لاتحاد الفلاحين بمخصصاته من المادة والبالغ 15 بالمئة من نسبة الكميات الموردة إلى المحافظة يوميا، فهذا يعني أن حكومة دمشق تساهم، إلى جانب العوامل الطبيعية من التغير المناخي، في تعميق أزمة المزارعين وتصفير مواسمهم. ومن الواضح أنها غير قادرة على تأمين العناصر الأساسية للزراعة لهذا القطاع المتهالك بالفعل نتيجة السنوات الماضية من الحرب والدمار والجفاف، بحسب مراقبين.

قد يهمك: مواد جديدة على قائمة الدعم في رمضان.. هل تنجح “التموين” السورية في تقديمها؟

تكاليف الإنتاج بشكل عام في أي قطاع بسوريا، باتت أغلى من المبيع، نتيجة تدهور الليرة السورية مقابل النقد الأجنبي واستيراد نسبة كبيرة من المواد الأولية من الخارج وبالعملة الأجنبية، بالإضافة إلى عدم وجود دعم حكومي، إلى جانب استغلال واحتكار التجار والسماسرة في تسويق البضائع، وفق مراقبين.

كذلك، لا يمكن التغاضي عن تأثير ارتفاع أسعار المشتقات النفطية بنسبة 130 بالمئة مؤخرا، مثل المازوت الذي يدخل في عملية الإنتاج، وكذلك أجور النقل، والقطاعات الأكثر تضررا نتيجة هذا الأمر، هو القطاع الزراعي وخاصة مزارعي الخضار والأشجار المثمرة.

رئيس الاتحاد، البعيني، أكد عدم حصول الجرارات الزراعية كذلك على مخصصاتها من مادة المازوت والذي يفرض بالضرورة وضع خطة لتوزيع المحروقات على تلك الجرارات وذلك بتقسيم الأراضي حيث يتم توزيع المادة على مزارعي المحاصيل الحقلية خلال الفترة الحالية على أن يتم خلال الأشهر القادمة توزيع مخصصات الجرارات على مناطق زراعة الأشجار المثمرة والتي لم تحصل على اليسير من مخصصاتها في العام الماضي، ما انعكس سلبا على تخديمها من حيث الحراثة والرش.

فضلا عن أن المزارعين يغامرون ضمن الظروف الحالية بزراعة أراضيهم رغم أن كثيرا منهم قد علِم مسبقا بإمكانية عدم الحصاد أو عدم الحصول على مردود إنتاجي يمكّنهم بالحد الأدنى من تغطية تكاليف مستلزمات الإنتاج التي أثقلت كاهلهم.

هل تنقذ الحكومة ما يمكن إنقاذه؟

في المقابل، نوّه رئيس الاتحاد، البعيني، إلى ضرورة العمل على تأمين مخصصات خطة زراعة الحمّص خلال الأيام القادمة مع مخصصات خطة الأشجار المثمرة خاصة التفاح والعنب، وإلا فإن واقعها لن يكون أفضل من واقع محصولي القمح والشعير، لافتا إلى أن مخصصات خطة تلك المحاصيل مجتمعة على ساحة المحافظة سنويا تبلغ 8 ملايين لتر من المازوت لم يتم تأمين أكثر من مليونين و800 ألف لتر منها العام الماضي.

المزارعون يقولون إذا بقي الحال على ما هو عليه، أي في ظل غياب الدعم الحكومي، فستنخفض كمية الزراعة في عموم البلاد. إذ ليس من المعقول أن يفلح الفلاح وفي النهاية يخسر رأس ماله، فتكاليف الزراعة باتت غالية جدا، من البذور والأسمدة والفلاحة والمازوت، فضلا عن الأضرار التي تتعرض لها المحاصيل جرّاء موجات الجفاف والعواصف المطرية في فصل الشتاء.

بالتأمل في رأي الخبراء، فإنهم يعتقدون أن الحكومة السورية شبه مفلسة وبالتالي غير قادرة وفي الأصل ليس ضمن خططها دعم القطاع الزراعي أو إنقاذ بعض المحاصيل الزراعية من الانقراض، وذلك لعدم قدرتها على دعم وتطوير الخطط الآنية بل والمستقبلية لهذا القطاع، إضافة إلى أن دمشق لا تستطيع أن تدعم وتحل أكبر الأزمات في البلاد والتي تتمحور حول تدهور الليرة السورية أمام النقد الأجنبي، ليأتي اليوم ويدعم قطاع آخر لا يوليه أي أهمية أساسا.

تأكيدا على ذلك، فقد باتت العديد من الأراضي الزراعية في عموم سوريا وتحديدا منطقة الغاب، شبه خالية وغير مزروعة، ذلك لأن تكاليف العملية الإنتاجية فاقت قدرة الفلاح، والمصارف الزراعية الحكومية لا تموّل، بالتالي كيف سيدبر الفلاح أموره، خاصة وأن طنّ السماد قبل رفع سعره كان بـ 75 ألف ليرة سورية وبالواقع كان يُباع بـ 300 ألف، وبعد الرفع الأخير وصل سعره إلى أكثر من 350 ألف.

قد يهمك: أزمة الكهرباء.. كيف تحولت لسبب يؤرق نوم السوريين وجيوبهم؟

خاصة وأن منطقة الغاب الزراعية تُعد من المناطق المهمة في تزويد البلاد بالمحاصيل الاستراتيجية كالقمح والشوندر والتبغ، بالإضافة إلى المحاصيل الأساسية كالزيتون والبصل والثوم واليانسون والبطاطا وغيرها، ويأتي تضرر قطاع الري الحكومي فيها، إلى جانب تراجع مستوى الزراعة ككل، ليفاقم أزمة الزراعات المرويّة.

التداعيات على المزارعين والاقتصاد

على الرغم من اعتراف رئيس “اتحاد الفلاحين” في السويداء، بأن الحكومة لم تقم بتأمين المحروقات للفلاحين، إلا أن “مديرية زراعة” المحافظة زعمت أنه لتاريخه تم تنفيذ نحو 81 بالمئة من خطة زراعة القمح و 92 بالمئة من خطة زراعة الشعير، من كامل الخطة الزراعية لكلا المحصولين والبالغ نحو 55 ألف هكتار. في نفس الوقت اعترفت بأن نقص الهطل المطري انعكس على العملية الزراعية رغم أن المحاصيل الحقلية التي تمت زراعتها ما زالت بأمان حاليا وأقرت أيضا أنها تبقى مهددة باليباس في حال استمر توقف الأمطار.

من جانب آخر، المواسم الشتوية في مناطق شمال شرقي سوريا وعلى رأسها موسم القمح الذي يُعد موسم رئيسي في المنطقة، مُهددة نتيجة الانخفاض المطري، لأنها تحتاج في هذا الوقت لريّ كثير لتعويض انحباس الأمطار وارتفاع درجات الحرارة.

عدد من مشاريع الري الزراعي في كلا من دير الزور والرقة، خرجت عن الخدمة نتيجة انخفاض منسوب مياه نهر الفرات، حيث بلغت نسبة الانخفاض في دير الزور وحدها منذ بداية شهر شباط/فبراير الفائت أكثر من 40 بالمئة، ما أثّر على عمل المحركات الزراعية التي تعتمد على السحب من أقنية التوريد المائي، وأصبحت بحاجة إلى تعزيل مستمر لإيصال المياه إلى مضخات السحب، وذلك وفق تصريح لمدير الموارد المائية بدير الزور المهندس محمد الرجب، لصحيفة “الوطن” المحلية، مؤخرا.

إنّ مياه الصرف الصحي التي تنتهي في مجرى نهر الفرات، إضافة إلى الملوثات النفطية، أسباب تؤدي إلى التلوث البيئي للأنهار، ويزداد هذا التلوث كلما اقتربنا من المدن. وانخفاض مستوى المياه في مجرى النهر، خصوصا في أشهر الصيف، سيؤدي إلى نفوق الثروة السمكية والكائنات الحية الأخرى، وفق خبراء البيئة، حيث تتسبب الأحياء النافقة أيضا بتلوث عضوي كبير.

هذا فضلا عن أن تلوث النهر يؤدي أيضا إلى مشكلات صحيّة للسكان الذين يعتمدون عليه في الزراعة والشرب، بسبب انخفاض كفاءة محطات المعالجة، إذ تصبح المياه غير صالحة للشرب، كما تنتقل الملوثات عبر مياه الري إلى المزروعات، وقد انتشر العام الماضي مرض “الكوليرا” وكانت مدينة دير الزور من أكثر المدن تضررا نتيجة هذا الأمر، وكل هذا يجري، وسط غياب الحكومة من القيام بمسؤولياتها تجاه هذه الكوارث، التي ربما قد تلحق بالبلاد نتائج مأساوية.

الفلاحون في مناطق شمال وشرق سوريا يستخدمون مياه الفرات للري، وإذا انخفض منسوب المياه في النهر، فسيتعين عليهم الاستغناء عن جزء من الأراضي الزراعية والمحاصيل المزروعة مما سيؤدي على خسائر اقتصادية كبيرة.

سوريا البلد الذي يعاني من أزمة قمح مزمنة منذ عام 2011، وتراجع المحصول من 3 ملايين طن عام 2011 إلى مليون ونصف المليون طن العام الماضي، وخلال الأسابيع الأخيرة تجددت أزمة القمح اللازم لتصنيع الخبز، واضطرت الحكومة إلى رفع سعر الخبز والمعجنات التي تنتجها الأفران الخاصة، بحسب صحيفة “الشرق الأوسط”.

وزير الزراعة السورية محمد حسان قطنا، كان قد أعلن أن الزلزال الذي ضرب البلاد في 6 شباط/فبراير الماضي، تسبب بأضرار كبيرة على شبكات الري الحكومية في منطقة الغاب بالشبكتين الرئيسيتين “ج1 وج2” حيث تصدعت جدران الأقنية لأنها ترابية مبطنة بالبيتون، وبالتالي باتت كلها متهالكة.

يبدو أن حكومة دمشق هي المسؤولة الأولى عن تداعي هذا القطاع، فقد قال خبراء التنمية الزراعية في أوقات سابقة إن ضعف الإنتاجية في الزراعة، يعود إلى معاناة البلاد من أسوأ إدارة موارد في تاريخ البشرية، إذ لا يوجد بلد مكتفٍ من كل شيء مثل سوريا لكن دون جدوى.

منذ ما يقرب من عامين وتشهد سوريا جفافا شديدا نتيجة التغيرات المناخية وحجز تركيا لحصة سوريا من مياه نهر الفرات، الأمر الذي أثّر على القطاع الزراعي بأكمله، وأصبح في أسوأ مراحله، ووسط غياب الدعم الحكومي وارتفاع تكلفة المستلزمات الزراعية مثل البذور والأسمدة والمحروقات وغيرها، مما دفع نسبة كبيرة من المزارعين، وخاصة في الجزيرة السورية، بالتفكير والمجازفة في الزراعة مرة أخرى، ولكن نتيجة شحّ الأمطار، فإن المواسم في خطر شديد وبالتالي إن حصل هذا بالفعل وصُفرت المواسم كما السنوات الماضية، فإن هذا سيؤثر بشكل كبير على سلّة الغذاء السورية، فضلا عن ركود الأسواق وانتشار البطالة وتدهور الوضع الاقتصادي في عموم البلاد، مما قد يعكس نتائج سلبية على كافة مناحي الحياة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.