الظروف المعيشية الصعبة في البلاد، وتحديدا موجة الغلاء الأخيرة التي صاحبت شهر رمضان، فرضت نفسها على طقوس رمضان هذا العام، لدرجة أنها وصلت إلى العديد من التقاليد الرمضانية التي تحمل في طياتها معاني الألفة وصلة الأرحام والتكافل الاجتماعي وغيرها من الالتزامات الاجتماعية، التي تكافح للاستمرار ولو في حدودها الدنيا، في ظل الالتزامات المالية التي أصبحت تتطلبها هذه العادات، والتي تعتبر مرهقة لشريحة واسعة من السوريين.

الحرب في سوريا أثرت بشكل كبير على أبنائها، ونالت من العادات الاجتماعية وتقاليد رمضان، فيما طغت الأزمة الاقتصادية والمعيشية على ما تبقى من الموائد وعادات الأكل والشرب التي تغيرت بشكل كبير في فترة قياسية لتلائم جيوب المواطنين الهزيلة.

تغيير العادات الاجتماعية

نحو ذلك، تأتي صلة الأرحام في قائمة العادات الواجبة في رمضان، فعلاوة على كونها شعيرة دينية واجبة وموروثا اجتماعيا موجودا أصلا، تكتسي صلة الأرحام في شهر رمضان طابعا ذا قدسية أكثر، لكنه وبالرغم من قدسية هذا الواجب إلا أن الظروف الاقتصادية الصعبة وارتفاع الأسعار القياسي ضيّق الخناق على هذا الواجب.

بعض الآراء ترى أن تأثيرات الارتفاع القياسي للأسعار وضعف القدرة الشرائية، طالت كثيرا من الطقوس والعادات الرمضانية في سوريا ومنها محافظة درعا التي تعد واجبا دينيا واجتماعيا خلال هذا الشهر وفي مقدمتها صلة الأقارب والأرحام، الذين تشكل صلتهم من قبل الآباء والأخوة بل والأعمام والأخوال أنموذجا في التواصل والبر، وفق تقرير لصحيفة “تشرين” المحلية، مؤخرا.

فيما أشار البعض الآخر إلى أن الظروف الحالية حالت دون قدرة الكثيرين على الوفاء بهذا الواجب على الوجه الأكمل، وإنما اقتصاره على الحدود الدنيا، وتقليص ما كان متّبعا في مواسم سابقة، سواء أكانت هذه الصلة تتعلق بتوزيع مساعدات مادية أو وجبات للإفطار أو ولائم تخصص للأقارب، وهي عادات ظلت طقسا بطعم الألفة والمودة لا يكتمل الشهر دونه.

بسبب الصراع الدائر في البلاد ومن ثم تأزيم الوضع المعيشي بشكل مهول، برزت تغييرات أخرى على العادات الاجتماعية بين السوريين في الداخل، مثل تقليص الزيارات بين الأقارب والأصدقاء في وقت الإفطار أو في السهرات التي تخفف من عبء الصوم طيلة اليوم، بجانب إلغاء الخيم الرمضانية تدريجيا، ومؤخرا أُلغيت هذه الخيم في مدينة حلب، التي تشتهر بهذه الطقوس ويمارسها الصائمون وهو تقليد رمضاني قديم ومن أهم معالم هذا الشهر، بحسب الباحثين الاجتماعيين.

قد يهمك: عزوف عن شراء “الشاورما”.. أيقونة الأطباق السورية مهددة بالانقراض؟ – الحل نت

الأحوال المعيشية الصعبة فرضت أيضا على تقاليد أخرى مثل عزوف الكثيرين حتى من ميسوري الحال عن إقامة “الولائم” ولا سيما في شهر رمضان، والذي يُعتبر من أبرز الطقوس، نتيجة للتكاليف المرتفعة للمنتجات والسلع الغذائية، وسط تدني القدرة الشرائية وتضاعف التضخم لمستويات كبيرة في الليرة السورية.

العادات والتقاليد “تقاوم”!

في المقابل، تختلف أشكال صلة الرحم في الشهر الفضيل  من شخص لآخر وذلك باختلاف الحالة المادية، وحسب قول الخبيرة الاجتماعية نسرين عمران للصحيفة المحلية، فإن كثيرين من أصحاب الدخل المحدود وخصوصا فئة الموظفين الحكوميين، باتوا يكتفون بدعوة الأخوات للإفطار مرة واحدة في الشهر وعلى مآدب متواضعة، وذلك من باب الالتزام بهذا الطقس الذي يُعد واجبا، وأيضا من باب الحرص على عدم تركه مهما كلّف الأمر حتى لو اضطر البعض للاستدانة للوفاء به.

كما أن الأمر يبدو مختلفا لدى فئة أخرى من الميسورين ماديا والتي ما زالت تحرص على الالتزام بهذا الواجب الاجتماعي على أكمل وجه وتوزيع دائرته عبر أشكال متعددة من البذل كالمساعدات المالية وولائم الإفطار والوجبات التي تقدم بشكل شبه يومي، خصوصا إذا كان الأب أو الأخ مقتدرا فعندها يجب أن يكون البذل مضاعفا بل ويسمو لدرجة الواجب في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تَفرض أشكالا مضاعفة من التكامل الاجتماعي.

من العادات المتوارثة خلال شهر رمضان أيضا، “السكبة” للجيران، والتي تدل على التكافل الاجتماعي والإحسان إلى الجار، حيث اعتاد الجيران تبادل الأطباق الرمضانية التي يتم إعدادها وهي من العادات المحببة ولها دلالات اجتماعية عميقة، فضلا عن أنها فأل خير للتآلف والتراحم، خصوصا أن مِن الجيران مَن هم من أصحاب الدخل المحدود.

على الرغم من استمرار هذه العادة المحببة إلى حد ما ومحافظتها على خصوصيتها، إلا أنها باتت خجولة بعض الشيء بفعل عدم قدرة البعض على إعداد وجبات بكميات أكبر فائضة عن الحاجة، نظرا للظروف الاقتصادية الصعبة، وعدم قدرة العوائل على طبخ أكلات مقتدرة يوميا.

السكان يقولون، في السابق لم يكن يمر يوم من أيام رمضان من دون أن يرسل الجيران “السكبة” لبعضهم البعض، بحيث كانت العائلة تجلس على مائدة الإفطار حتى تكون مليئة بالأكلات المتنوعة، إلا أن معظم عادات السوريين ومن بينها “السكبة”، منذ بداية الأزمات في البلاد، تغيّرت وتبدلت وصارت تُمارس بشكل خجول، وإذا بقيت الأوضاع المعيشية في تدهور مستمر، فإن هذه العادات الاجتماعية معظمها ستتلاشى حتما.

كما أن التداعيات الاقتصادية وصلت إلى السهرات الرمضانية ولمّة الأصدقاء، والتي تراجعت بعض الشيء وكادت تخلو من مستلزماتها الرئيسية كأطباق الحلويات الذي يشتهر به هذا الشهر، منها “القطايف والكنافة وعقال الشايب” ومما جادت ربات المنزل بتحضيره من عصائر وأطباق حلويات محلية الصنع.

العزوف عن أشهر الأكلات

طبخُ أشهى المأكولات وتعدد الأصناف في الموائد الرمضانية تشكّل جوهر العادات والطقوس في رمضان، إلا أن هذه الأمور تبددت وتراجعت منذ سنوات عديدة، حتى باتت اليوم حكرا على فئة محددة من ميسوري الحال في سوريا، بالنظر إلى الفجوة الواسعة بين الرواتب وغلاء المعيشة.

المواطنين باتوا يقنّنون من احتياجاتهم اليومية، ليقتصر شراؤهم على الأساسيات والضروريات من السلع الغذائية، بينما غدت اللحوم والحلويات والموالح وسلع أخرى من الرفاهيات والكماليات، إذ غابت هذه الأصناف عن الموائد في رمضان. وبات السوريون يستبدلون اللحوم بمنتجات جديدة، مثل منتج “كفتة بديل اللحمة” الذي اكتسح أسواق دمشق، وهو منتج نباتي مصنوع من دقيق بروتين الصويا، نظرا لارتفاع أسعار اللحوم بحيث بات يفوق قدرة شرائح كبيرة من المواطنين.

نتيجة للأوضاع المعيشية المزرية، ظهرت “عادات أكل” جديدة لدى السوريين عموما، إذ بات الجزارون يبيعون العظام بالكيلوغرام، وبأسعار تصل للآلاف الليرات السورية، ذلك لأن نسبة كبيرة من السوريين باتوا يشترون هذه العظام كبديل للحوم.

ما يزيد من عبء الوضع المعيشي، هو تدهور قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية يوما بعد يوم، وتراجع قيمة الرواتب والأجور تزامنا معها، فضلا عن عدم قيام الحكومة بوضع حلول أو أُطر علّها تنتشل المواطن من براثن الفقر الذي يقبع فيه منذ سنوات عديدة.

عليه، فإن الوضع الاقتصادي الصعب في سوريا، والذي يزداد سوءا بالتدريج، يبدو أنه يلقي بظلاله على شهر رمضان وغيره من المناسبات، ويُفقد السوريين أشهر العادات والتقاليد والطقوس، سواء من تراجع مستوى صلة الرحم أو إلغاء خيم رمضان أو امتناع المواطنين عن شراء الكثير من الأصناف الغذائية، أو اختفاء الكثير من العادات الخاصة برمضان والأعياد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات