في أعقاب فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، والحديث عن وضع موسكو لـ”خارطة طريق” حول عملية “التطبيع” مع دمشق، إلا أن الأوضاع في المنطقة على ما يبدو تتجه نحو مفترق طرق والعودة نحو النقطة الأولى. إذ إن تركيا التي كانت تُعتبر حليفا للمعارضة السورية، تبدو الآن وكأنها تستخدم قوتها ونفوذها للتفاوض مع دمشق على تسوية تناسب مصالحها الاستراتيجية والأمنية.

تلك الدلائل تعززت بنشر تقرير صحيفة “يني شفق”، المقرّبة من الحكومة التركية، يكشف عن أربعة شروط وضعتها أنقرة على دمشق للمضي قدما في عملية “التطبيع”. حيث يأمل الأتراك في الحصول على إجابات “مُرضية” من الحكومة السورية حول تلك المطالب التي قدّمتها.

هذه المطالب تتضمن تقدما في العملية السياسية في سوريا بطريقة شرعية وصحية، بما في ذلك صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات عامة تشمل جميع السوريين في جميع أنحاء العالم. كما تشترط تركيا تأمين عودة اللاجئين السوريين بضمانات كتابية لسلامتهم. ولا تقتصر المطالب على الجانب السياسي فقط، فتركيا تصرّ على التعاون بخوض عملية عسكرية في شرق البلاد، من خلال إنشاء مركز تنسيق عسكري يضم تركيا وروسيا وإيران والجيش السوري.

في هذا السياق، يتضح أن أردوغان أعاد وضع شروط جديدة لمساومة دمشق بهدف تحقيق مصالحه الإقليمية والاستراتيجية في المنطقة ومساومة دمشق على عملية عسكرية، أو أن خروج الجيش التركي من سوريا بات بلا موعد، وهنا تثار تساؤلات حول اعتبار انسحاب الجيش التركي من سوريا مرهوناً بحل مشكلة الإرهاب التي تدّعيها تركيا من طرف واحد، وكيف يمكن تحليل تلك الشروط الأربعة ومدى إمكانية تحقيقها في إطار “التطبيع” بين البلدين، وما تأثير هذه الشروط على جهود حل الأزمة السورية بشكل عام، وهل ستزيد من الفجوة بين الأطراف المتنازعة أم أنها قد تمهّد لتحقيق تقدم في العملية السياسية.

شروط تربك مسار “التطبيع”

مع استمرار الحرب الدائرة في سوريا لأكثر من عقد من الزمان، ظهر سابقا تحرك تركيا باتجاه عملية “التطبيع” مع دمشق كإشارة واضحة على أن المصالح الاستراتيجية والأمنية تأخذ الأولوية في مواجهة التغيرات السياسية والعسكرية المستجدة في المنطقة. وأن النتائج المحتملة لهذه المفاوضات قد تشكل نقطة تحول في المشهد السوري، حيث قد ينعكس ذلك على العلاقات الإقليمية والدولية بشكل عام.

الوفد السوري إلى اللقاء الرباعي يجري مباحثات ثنائية مع الجانب الروسي - إنترنت
الوفد السوري إلى اللقاء الرباعي يجري مباحثات ثنائية مع الجانب الروسي – إنترنت

إلا أن عودة مرحلة المفاوضات إلى نقطة الصفر، برزت بعد حديث الصحيفة التركية، عن الشروط الأربعة التي تمّ طرحها خلال الاجتماع الرباعي الذي جرى في العاصمة الكازاخستانية نور سلطان، على هامش الجولة العشرين من محادثات “أستانا” والتي جرت في 21 حزيران/يونيو الفائت.

مصدر الصحيفة، ذكر أن الوفد التركي تساءل خلال الاجتماع عن الجهة التي ستضمن أمن المنطقة عندما ينسحب الجيش التركي، وهل يمكن لدمشق إبقاء “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) تحت السيطرة، مضيفا أنه “عندما نسأل عن ذلك، لا يمكنهم الإجابة”.

علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني، للشؤون الدولية، لفت أمس الاثنين، إلى أن المشكلة الأساسية بين أنقرة ودمشق تكمن في جزء من السياسات التركية تجاه سوريا، مشيرا إلى أنه “لا بد لتركيا من معرفة أن وجودها في جزء من الأراضي السورية لن يمكّنها من تحقيق أهدافها، وبعض هذه الأهداف غير مقبول كونها ضد سوريا”.

في وقت سابق أكد الرئيس التركي، أن جيش بلاده لن ينسحب من الأراضي السورية، وفي مقابلة مع قناة “سي إن إن انترناشيونال”، بيّن أن بلاده أعددت مشاريع لبناء مساكن في سوريا من أجل عودة قرابة مليون لاجئ وسيضمن عودة اللاجئين إلى بلدانهم.

حديث أردوغان يتقاطع مع الشروط التي ذكرتها الصحيفة التركية، والتي تصرّ فيها أنقرة على عملية عسكرية في شمال شرق سوريا، وتقديم دمشق تعهدا مكتوبا بضمان سلامتهم، فضلا عن ربط انسحاب قواته المتمركزة في أكثر من 125 موقعا داخل البلاد، حيث يُعد الجيش التركي ثاني أكبر حجم نفوذ خارجي في الخريطة السورية بعد إيران.

“خارطة طريق” غير مكتملة

رغم سلسلة الاجتماعات التي حصلت بين أنقرة ودمشق، منذ مطلع العام الحالي، سواء السياسية أو الاستخباراتية والدفاعية، إلا أن الطرفين لم يصلا إلى نقطة توافق حتى الآن. وحول ذلك يشير الباحث السياسي المتخصص في الشؤون التركية، طوزون باهشيلي، في حديثه لـ”الحل نت”، إلى أن أنقرة ترى انسحابها من سوريا أمرا غير واقعي.

وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران ودمشق يحضرون اجتماعا في موسكو، حول سوريا - إنترنت
وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران ودمشق يحضرون اجتماعا في موسكو، حول سوريا – إنترنت

الحديث الذي تم تسريبه من الصحيفة التركية بأن انسحاب الجيش التركي من سوريا مرهونٌ بحل مشكلة الإرهاب، يشير بحسب باهشيلي إلى أن تركيا تعتبر وجود مجموعات إرهابية مثل “قسد” مصدر قلق كبير وهو ادعاء من طرف واحد لا تتفق معه بقية الأطراف. وفي سياق عملية “التطبيع” مع دمشق، تسعى تركيا إلى إنشاء مركز تنسيق عسكري مع روسيا وإيران والجيش السوري لمكافحة الإرهاب بشكل مشترك، وهذا يلفت إلى أن تركيا تعتزم معالجة قضية الإرهاب بحضور قواتها العسكرية كجزء من عملية “التطبيع” الشاملة مع دمشق.

من خلال تحليل الشروط الأربعة التي وضعتها تركيا، يتضح أنها تهدف إلى تحقيق أهداف معينة. حيث تعكس المطالبة بإحراز تقدم في العملية السياسية وصياغة دستور جديد رغبة تركيا في إشراك المعارضة التي تدعمها داخل المنظومة السياسية السورية. 

كما أن الدعوة إلى انتخابات عامة بمشاركة جميع السوريين تشير إلى تطلع أنقرة بتمثليها محليا من خلال المعارضة التي احتوتها خلال السنوات السابقة، كما يسلط شرط عودة اللاجئين السوريين الضوء على اهتمام تركيا باستخدام ورقة اللاجئين لاستمرار تواجد قواتها داخل سوريا.

علاوة على ذلك، يرى باهشيلي أن التأكيد على التعاون في مكافحة الإرهاب والأهمية التي توليها تركيا لهذا الشرط، هو دلالة على أن الحكومة التركية لم تقبل بـ”خارطة الطريق” التي وضعتها موسكو، خصوصا أنها لا تشمل حلا للوجود الأميركي وحلفائه في شمال شرق سوريا، وأنقرة تريد الوصول إلى هذه المنطقة لضمان تحقيق أهدافها ليس في سوريا فقط إنما وصولا للعراق.

من المرجح وفقا لحديث باهشيلي أن يكون لدمشق ردود فعل متباينة على الشروط التي فرضتها تركيا. وذلك لأن المطالبة بإحراز تقدم في العملية السياسية وصياغة دستور جديد لن تتماشى مع أهداف سوريا الخاصة بالاستقرار والسيادة، كما أن الشروط الأخرى، مثل عودة اللاجئين والتعاون ضد “قوات سوريا الديمقراطية”، قد تشكل تحديات. 

قد تنظر سوريا إلى هذه الظروف على أنها تدخّل في شؤونها الداخلية أو على أنها تقوض تحالفاتها الاستراتيجية. ولذلك فإن مدى تأثير هذه الظروف على العلاقات بين البلدين سيعتمد على الجهود الدبلوماسية والتسويات التي تمت خلال عملية التفاوض.

الفجوة تتسع

سابقا فرضت موسكو نوعا من التكتم على مجريات اللقاءات التي حصلت بين الدول الأربع حول عملية “التطبيع”، واكتفت وزارة الدفاع الروسية بالتشديد على أن “الروح الإيجابية التي سادت النقاشات”، إلا أن حديث أنقرة عن أربعة شروط يعني أنها كانت تستخدم الاجتماعات كأداة للضغط السياسي في الانتخابات الرئاسية وأيضا على الأطراف الأخرى المشاركة في الأزمة السورية.

الوفد السوري إلى اللقاء الرباعي يجري مباحثات ثنائية مع الجانب الروسي - إنترنت
الوفد السوري إلى اللقاء الرباعي يجري مباحثات ثنائية مع الجانب الروسي – إنترنت

الباحث السياسي، وليد طوقان، أوضح لـ”الحل نت”، أن الشروط التي فرضتها تركيا تشير إلى أنها تتوافق مع مصالحها الاستراتيجية في سوريا فقط. ومن المتوقع أن يتأثر موقف دمشق من هذه الظروف بتقييمها لتداعياتها على سيادة سوريا واستقرارها. وقد ترى الحكومة السورية في بعض الشروط تعدّيا على شؤونها الداخلية، بينما قد تتماشى أخرى مع أهدافها الخاصة. 

أيضا بحسب طوقان فإنه يمكن أن تؤثر هذه التطورات على الظروف الميدانية في سوريا. إذ يشير طلب أنقرة بإنشاء مركز تنسيق عسكري يضم الدول الأربع إلى تحولات في ديناميات الصراع، بما في ذلك التغييرات في السيطرة الإقليمية لمختلف الجماعات، وستعتمد النتيجة الدقيقة على مدى التعاون وتنسيق الاستراتيجيات والقدرة على التغلب على التحديات السياسية واللوجستية الحالية.

في هذا السياق، يعتقد طوفان أن استعداد الأطراف المتصارعة للدخول في حوار وتسوية ليس وارد الآن، إذ إن الظروف الحالية تشير إلى زيادة الفجوة بين الأطراف بسبب اختلاف وجهات نظرهم، إذا فسرت شروط أنقرة بشكل قطعي، ويمكن أن تغلق الطريق لإحراز أي تقدم في العملية السياسية.

قد تختلف السيناريوهات المستقبلية بعد هذه التطورات حسب تنفيذ عملية “التطبيع” ونجاحها؛ ومع ذلك يبدو أن أردوغان يسعى إلى إفشال التوصل إلى اتفاق وخلق عقبات كبيرة أمام عملية “التطبيع”، وقد يؤدي ذلك إلى مزيد من التوترات وربما تصعيد الصراع. ومن الواضح أن عملية “التطبيع” المحتملة بين تركيا وسوريا ستشكل تحدّيا هاما خصوصا أنها عادت الآن إلى نقطة الصفر مرة أخرى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة