بينما معظم السوريين داخل البلاد منهكون بالسعي لتأمين قوت يومهم، هناك أشخاص آخرين يعيشون حياة وردية، وكأنهم في بلد لا يعاني من أي أزمة أو آثار حرب مثل سوريا، وربما إحدى جوانب هذه الحياة التي تبدو لامعة هو الذهاب إلى الحفلات الغنائية والمطاعم وغيرها من الأماكن التي أصبحت شبه محرّمة على السواد الأعظم من السوريين، بسبب تدني مستوى الرواتب والأجور، وتصاعد أزمة الغلاء.

بعض التقارير تشير إلى أن حضور حفلة لمطرب من الدرجة الثالثة أو الرابعة لأسرة مكونة من أربعة أفراد يكلف راتب موظف حكومي لأربع سنوات في سوريا، ذلك لأن أجر حضور الحفلات أصبح الآن محسوبا بالدولار كغيره من السلع في سوريا، لتبقى رواتب وأجور المواطنين بالليرة السورية فقط وبنِسب قليلة جدا.

حضور حفلة أصبح ترفا

في اجتماع عائلي هادئ على ضوء الليدات الباهت، وسط غياب الكهرباء لساعات طويلة، يقول أحد المواطنين لموقع “غلوبال نيوز” المحلي يوم أمس الإثنين، “عاتبتني الأسرة على هذه الرتابة المملة في حياتنا التي لانعرف فيها الخروج من البيت إلا للعمل أو لشراء المواد الغذائية الأساسية، فقلت لهم كلامكم صحيح وحقكم في رقبتي اطلبوا وتمنوا، فقالوا نريد أن تأخذنا إلى إحدى الحفلات الموسيقية، ولاسيما أننا لم نعد نستمع ونشاهد المطربين والمطربات بسبب الانقطاع المستمر للكهرباء”.

أحد الحفلات الغنائية في سوريا- “مواقع التواصل الاجتماعي”

أفراد العائلة اقترحوا على والدهم بأن يحضروا حفلة لمطرب أو مطربة من الدرجة الثالثة أو الرابعة، يعني بعيدا عن حفلات ميادة الحناوي وهاني شاكر وشمس الغنية، نجوى كرم وناصيف زيتون وغيرهم من الأسماء الجيدة في الوسط الفني والذين يحيون حفلات بين الحين والآخر في سوريا، وحتى لو كانت حفلة لأحد المطربين ممن حظرتهم نقابة الفنانين من إقامة الحفلات في سوريا.

إلا أنه وبعد بحث وتدقيق وتمحيص تبين بأن حفلة تلوح في الأفق، “وع قد بساطنا سنمد رجلينا كما يقول المتل”، وفي التفاصيل وجد بأن بطاقة الدخول للشخص الواحد تبلغ مليوني ومئتي ألف ليرة سورية للشخص الواحد، وأن حضور عائلة المواطن ذاته، المكونة من أربعة أشخاص يكلف راتبه لأربع سنوات بالتمام والكمال، “مع احتمال بأن نستطيع شراء كازوزه لكل منا في نهاية الحفلة بشرط ألا نشتريها من مكان الحفلة وإنما من كولبة عالطريق….فهل هذا معقول” يقولها المواطن للموقع المحلي، ساخرا من الواقع المعيشي في البلاد.

المواطن ختم حديثه بتساؤل أصبح من الضروري أن تجيب عليه الحكومة بكل شفافية ووضوح، قائلا “أسأل نفسي، هل تذاكر الحفلات غالية لدرجة أنهم يلتهمون راتب أربع سنوات، أم أن الراتب أصبح ضئيلا إلى هذا الحد المخجل أم الأمرين معا لكنني حتى الآن لم أعثر على الجواب”. 

هذا التقرير أثار نوعا من السخط بين المتابعين، فعلّق بعضهم ساخرا من قيمة الراتب الذي لم يعد يكفي المواطن سوى ليومين، فقالوا ” كلمة راتب تقال للمبلغ المعادل للجهد والوقت .. نحن هنا أمام حالة، مجاملة، لما كان الراتب عشرة آلاف ليرة كنا نسهر كل شهر على الأقل مرة احنا والعائلة وعازمين كم شخص معنا وكنا نطلب عالطاولة لحم مشوي ومقبلات ومشروبات ساخنة وباردة ونطلع مبسوطين ونفكر بالسهرة التالية بأي مكان ومع مين بس هلأ يا حسرة الراتب ماعاد ينشرى فيه كيلو لحمة”.

بينما انتقد آخرون الحكومة السورية حيال تدني مستوى الرواتب بالقول، ” السبب هو ضألة الراتب إلى حد تجاوز ما هو مخجل. حال هذه العائلة حال الكثيرين من السوريين في الداخل، إن لم نقل معظمهم.. الحفلات والسهرات الغنائية صارت للتجار وحيتان البلد والمغتربين وغيرهم”.

الحفلات الغنائية للأثرياء

منذ صيف 2019 وبعد هدوء الجبهات في محيط العاصمة دمشق وقبلها حلب وحمص، عادت الحفلات الغنائية لمطربين مشهورين إلى سوريا، ثم توقّفت خلال انتشار وباء “كوفيد 19” لتعود بعدها مرّة أخرى على نطاق أوسع في عام 2022.

بدأت هذه الحفلات من بوّابة سهرات ثقافية في مهرجانات كانت تُقام سابقا في سوريا، مثل مهرجان قلعة دمشق، لتنتقل بعدها على شكل حفلات تنظّمها شركات الإنتاج والتوزيع السورية.

الصيف الماضي، استضافت العاصمة دمشق، ومدنا أخرى مثل حلب وحمص عدّة حفلات لمطربين عرب مشهورين، ولكن بينما تأتي هذه الحفلات في البلد الذي يتصدّر “قوائم البؤس” من حيث الأسوأ في المعيشة والدخل والسعادة، وبينما يعيش أكثر من 80 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر حسب الإحصاءات الأممية، تُظهر هذه الحفلات حالة الشرخ الطبقي الاقتصادي الذي يعيشه السوريون في داخل بلادهم.

وسط غلاء الأسعار بشكل “خيالي”، تمّ تداول أسعار بطاقات حفل “عيد السيدة” بوادي النصارى بريف حمص الذي أقيم في الصيف الماضي، الأمر الذي أثار استياء وغضب الكثير من السوريين، حيث كان لافتا أن ثمن بعض البطاقات بلغ نصف مليون ليرة سورية.

صفحات على منصة “فيسبوك”، انتشرت فيها إعلانات ترويج الحفلات التي أقيمت في 14 من آب/أغسطس 2022، في وادي النصارى بريف حمص الغربي، لمغنين سوريين ولبنانيين. وبحسب ما تم تداوله، تتدرج البطاقة للحفل الواحد من 200 ألف ليرة سورية، إلى 400 ألف و500 ألف لنجوم لبنانيين وسوريين، أما حفلات المطربين الشعبيين، بدأ سعر البطاقة من 75 ألفا إلى 250 ألف ليرة سورية، في وقت شهدت جميع فنادق المنطقة حجوزات مكتملة قبل موعد العيد بأسبوعين.

حفلة ناصيف زيتون في مهرجان ليالي قلعة دمشق سابقا-“مواقع التواصل الاجتماعي”

من بين الفنانين اللبنانيين الذين شاركوا في الحفلات، فارس كرم ورامي عياش وزياد برجي، حيث وصلت سعر بطاقة حفلة كرم إلى 500 ألفا، أما عياش وبرجي فكانت تُباع بـ 350 ألفا.

أما الفنانين والمغنين السوريين، وفيق حبيب وعلي الديك وأخوه حسين الديك، فقد وصلت سعر بطاقة حفلة وفيق إلى 400 ألفا، أما علي الديك فوصلت إلى 275 ألفا، و حسين الديك فكانت تُباع أعلى فئات بطاقات حفلته بـ 350 ألف ليرة سورية.

كما أحيا ناصيف زيتون في الـ 24 تموز/يوليو من العام الفائت، فعاليات مهرجان “ليالي قلعة دمشق”، والمهرجان كان برعاية “وزارة السياحة ووزارة الثقافة السورية”، ومحافظة دمشق وشركة “سيرتيل”، أما التنظيم فكان من شركة “مينا للفعاليات الثقافية والفنية” التي تقوم بتنظيم هذا الحفل منذ عام 2018.

أسعار البطاقات تراوحت بين 25 – 35 ألف ليرة سورية تبعا لصف الحضور، ووصلت إلى 150 ألف ليرة لدرجة الـ”في آي بي”، لكن وفق تقارير صحفية سابقة، فقد وصل سعر بطاقة ناصيف زيتون في السوق السوداء بأكثر من 200 ألف للحضور بالصفوف الأخيرة التي سعر تذكرتها في الأساس، كان مقدرا بـ 25 ألف ليرة فقط.

في ذلك الوقت تفاعل عدد كبير من السوريين مع هذه الإعلانات بتعليقات ساخرة وغاضبة، حيث كتب أحدهم “يشتري المرء شوال من السكر، وكم علبة متة، وبزيد معي”، وأضاف آخر بشكل ساخر من رواتب الموظفين “على أساس الشعب السوري طفران وفقير ومامعو ياكل، إذا سعر البطاقة لأقل واحد بنص راتب الموظف أو يمكن هني ما بدهم الموظفين..”.

تعليقات أخرى جاءت مختلفة فيما يخص أسعار البطاقات، قائلين “معقول في حدا بيدفع نص مليون ليحضر وديع الشيخ أو وفيق حبيب وبهاء اليوسف”. وفي السنوات الماضية وحتى اليوم انخفضت مستوى السياحة في البلاد بشكل كبير.

بالنظر إلى هذه الأرقام فإنها لا تتناسب أبدا مع رواتب ومداخيل المواطنين، الذي يبلغ متوسطه مابين الـ 140-180 ألف ليرة سورية، وبالتالي هذه الحفلات الترفيهية كغيرها من التصييف في الساحل السوري والشاليهات باتت مقتصرة على المغتربين والطبقة المخملية فقط.

“الفن الهابط” يحاصر مدينة المعارض

من المفارقات في تاريخ سوريا أن يتم إحياء أضخم حفل موسيقي في أكبر المعارض بسوريا بعد السيدة فيروز، بعض المغنين الشعبيين الذين ليس لهم تأثير فني كبير.

قديما كانت فيروز هي التي تُحيي حفل مدينة المعارض بدمشق، واليوم بعد إعادة افتتاح هذه الحفلات، يتصدر عرضها بعض المطربين الشعبيين مثل بهاء اليوسف السوري و”دي جي” كلوي اللبنانية.

هذا الأمر سبق أن انتقده كثيرون من السوريين، واليوم أعربوا أيضا عن مدى تراجع مستوى الفن والإبداع في البلاد، بالإضافة إلى إثارة حفلة “دي جي” كلوي، جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ اعتبروه انفصالا عن الواقع السوري، خاصة كمية الكهرباء والإضاءة الموجودة، حيث أثيرت الحفلة شهية السوريين للكهرباء المفقودة بشكل شبه كلي في البيوت.

قبل أسابيع، أحيت “دي جي” كلوي حفلا شهد إقبالا كبيرا من الشباب السوري وفق الفيديوهات التي تم تداولها عبر مواقع السوشيال ميديا. والحفلة أقيمت على أرض المعارض القديمة بدمشق وتراوح سعر البطاقة بين 50 و100 ألف ليرة سورية، وفق موقع “سناك سوري” المحلي مؤخرا.

إزاء ذلك، أعرب البعض على مواقع التواصل الاجتماعي عن دهشتهم من كمية الكهرباء الموجودة في حفل “دي جي” كلوي، وسط ساعات التقنين الطويلة التي يعيشون فيها بالتزامن مع حلول فصل الصيف، وارتفاع درجات الحرارة تدريجيا. كما وانتقدوا هكذا نوعية من الحفلات في بلد يعاني من جملة من الأزمات.

مدينة المعارض بدمشق- “سانا”

من جانب آخر، انتقد آخرون إحياء مثل هكذا حفلات التي اعتبروها تدعيما للفن الهابط، ولفتوا إلى ضرورة جلب فنانين لهم تاريخ فني عريق كالسيدة فيروز أو حتى بعض الفنانين القديرين الآخرين، معلقين بالقول “إس الله على أيام فيروز لما كانت بالسبعينيات بتغني بالمعرض نفسه، شام أنتِ المجد لم يغب، ويا شام عاد الصيف”.

كما وأشاروا إلى مدى التفاوت بين السابق والوقت الراهن، “حاليا أرض مدينة المعارض صارت لحفلات الدي جي، ومطربين شعبيين من قبيل علي الديك وبهاء اليوسف الي بغني أغانٍ هابطة جدا، مثل حبي دبي، ولحالي أحلالي وعلوا أنساكي”.

المنظمون لهذه الحفلات افتتحوا موسم الصيف الجاري بحفلة “دي جي” وليس بحفلات مطربين وفنانين كما في الصيف الفائت، وربما لعدم قدرة الناس على دفع التذاكر التي من المفترض أن تكون أعلى سعرا بالنسبة لأي مطرب قادم من خارج سوريا.

بعض التقارير المحلية أشارت إلى أن أسعار تذاكر الحفل كانت أكثر من المُعلن عنه، حيث كانت تباع بعض البطاقات في السوق السوداء ما بين 200 ألف و500 ألف ليرة سورية، وهو يمثّل ضعفين إلى خمسة أضعاف راتب الموظف الحكومي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات