في الوقت الذي أبدت فيه السعودية مرونة كبيرة في عودة علاقاتها مع إيران، أملا في تجاوز النقاط الخلافية ووضع حد للقضايا التي تشعل صراعات بين الطرفين وتلقي بظلالها على المنطقة، لم يستمر وقتا طويلا حتى أججت إيران ملفا خلافيا تاريخيا، حيث أعلنت مؤخرا استعدادها بدء التنقيب في حقل “الدرة” الغازي الذي تتمسك الرياض والكويت بحقهما “الحصري” فيه، الأمر الذي جدد التوترات بين الجانبين، وفتح باب السؤال عن ما وراء طموحات طهران في تأجيج الوضع حاليا.

فعلى وقع إعلان إيران الأحد الماضي، تمسكها بما وصفته بـ “حقوقها” في حقل “الدرة”، وذلك في حال عدم تواجد رغبة لدى السعودية والكويت للتوصل إلى “تفاهم” بشأنه؛ جددت السعودية والكويت، أمس الأربعاء، التأكيد على ملكيتهما المشتركة للثروات الطبيعية في حقل الدرة المتنازع عليه، والذي يعرف باسم “آرش” في إيران، ويعود النزاع حوله إلى عقود طويلة.

النزاع حول حقل “الدرة” بين إيران والكويت إلى ستينيات القرن الماضي، حينما منح كل طرف حق التنقيب في حقول بحرية لشركتين مختلفتين، وهي الحقوق التي تتقاطع في الجزء الشمالي من الحقل، وعلى مدى أعوام أجرت إيران والكويت مباحثات لتسوية النزاع حول منطقة الجرف القاري على الحدود البحرية بين البلدين، إلا أنها لم تؤد إلى نتيجة.

هكذا علق ترسيم الحدود بشأن حقل “الدرة”

على هذا الأساس، ظل ترسيم الحدود البحرية في هذه المنطقة عالقا لعقود منذ أن منحت إيران امتيازا بحريا للشركة النفطية الإنكليزية الإيرانية التي أصبحت لاحقا “بي بي”، فيما منحت الكويت الامتياز إلى “رويال داتش شل”، ويتداخل الامتيازان في القسم الشمالي من الحقل المليء بالاحتياطات من الغاز، والتي يقدر القابل للاستخراج منها بنحو 200 مليار متر مكعب، وفق “فرانس برس”.

حقل “الدرة” اكتشف في منتصف الستينيات، في وقت لم تكن الحدود البحرية معروفة بشكل جيد، ولم يكن الغاز يعتبر من الأصول الاستراتيجية المهمة التي تسعى الدول للحصول عليها، وفق تقرير لـ “معهد الشرق الأوسط” في واشنطن، وفي ذلك الوقت منحت الكويت وإيران امتيازات بحرية متداخلة بسبب هذه الحدود البحرية غير المرسومة،

 بينما أنشأت الكويت والسعودية ما يعرف باسم “المنطقة المحايدة المقسومة”، في منطقة الحدود البرية والبحرية والتي تضم حقولا نفطية هامة، من أبرزها “الخفجي” و”الوفرة”، وتم توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم لتقسيم المنطقة المحايدة وتقسيم المنطقة المغمورة المحاذية لها، بيد أن حقل “الدرة” يقع في الجزء البحري من المنطقة المحايدة شمالا، لكنه في تفسير طهران، يمتد أيضا إلى مياهها.

وسط ذلك لم يتم الاتفاق حتى الآن على الحدود الشرقية للمنطقة التي تحدد حقل “الدرة”، وهو ما تسعى الأطراف المعنية إلى إنجازه منذ عقود، لكن تنقيب إيران في الحقل في عام 2001، دفع الكويت والسعودية إلى إبرام اتفاق لتطوير الحقل وهو ما اعترضت طهران عليه ووصفت الصفقة بأنها “غير شرعية”.

لكن اللافت في الموضوع، هو عودة إثارة إيران للقضية في الوقت الحالي، خصوصا بعد وقت قليل من المصالحة مع السعودية، وإذا ما كانت تبحث عن مكتسبات جديدة، وما السيناريوهات التي تسعى لها من وراء ذلك.

في هذا الصدد يقول المختص بالشأن الإيراني، عارف نصر، في حديث مع “الحل نت”، إنه من الواضح أن الجانب الإيراني لا يمتلك لا تاريخيا ولا حاليا حصة ذات بعد استراتيجي في حقل الدرة، وإنما في أقصى الحالات إذا ما حصل تقسيم ما، فربما لن تكون حصة إيران أكثر من 5 بالمئة.

أبعاد سياسية تحملها إيران ضد الكويت والسعودية

إثارة هذا الأمر يحمل أبعادا سياسية، والجانب السياسي يكمن في عدة أبعاد، الجانب الأول يتعلق بالخلاف الخليجي الإيراني الذي لم يحل بعد وإنما هناك تهدئة بحسب نصر، الذي يردف بأن هذه التهدئة فيما يبدو لم تذهب بالشكل الذي ربما كان يريده الجانبين.

حقل “الدرة” الذي تتنازع عليه إيران والسعودية والكويت/ إنترنت + وكالات

بحسب نصر، فإنه على مستوى الملف النووي هناك تهدئة لكن عمليا لم ينته الخلاف بشكل جذري، ومن هنا يتضح أن الجانب الإيراني يريد أن يتعامل مع هذا الملف كورقة ضغط لا أكثر، فيما يضيف، “يبدو هناك محاولة لإحداث شرخ بالموقف الخليجي الموحد من إيران، ما يفتح الباب لمناقشة بعض الملفات الحدودية التي تكون خارج دائرة إيران الكويت السعودية، مثل قضية الجانب العراقي والخلاف الحدودي مع الكويت”.

نصر يتابع، أنه قد تكون إيران تلعب على هذا الأمر باعتباره أيضا ورقة ضغط في ملفات عالقة وتستطيع اكتساب بعض الملفات، أو ربما تجعل الجانب الكويتي يتنازل عن بعض الملفات التي تتعلق بالغاز والكهرباء.

المختص بالشأن الإيراني، يوضح أنه هنالك مشروع لإمداد العراق عبر الكويت بالغاز لتوليد الكهرباء وهذا ما يخشاه الجانب الإيراني، ومن هنا يمكن أن نصل لنتيجة مفادها أن إيران تريد أن تتعامل مع هذا الملف كورقة سياسية رابحة لشق الصف الخليجي الموحد وليكون عاملا لمفاوضات بعدية مع دول الجوار.

أما مؤشرات الموضع على مستوى البعد الداخلي، فوفقا لنصر يبدو أن الجانب الإيراني لا يمتلك رؤية موحدة بخصوص الملفات المتعلقة بالخليج، “بمعنى أننا نشهد إجراءات سياسية دبلوماسية حذرة ولو أنها تدعي وتريد التعاون، لكن على مستوى “الحرس الثوري” هنالك استفزازات تجلت مؤخرا باحتجاز سفن الشحن وناقلات النفط في مضيق هرمز.

الأمر الذي دفع بحسب نصر، بالولايات المتحدة الأميركية بتعزيز وجودها العسكري في مياه الخليج العربي، أي بمعنى أن سلوكيات “الحرس الثوري” تشير إلى أنه لديه مسار مختلف عن المسار السياسي الإيراني المعلن، وهذا يؤكد وجود خلافات داخلية أو على الأقل عدم اتفاق موحد بين التيار الأصولي الذي بات يحكم بشكل جذري كل مفاصل الدولة الإيرانية.

يشار إلى أنه في آذار/مارس العام الماضي، طالبت إيران بـ “حقها” في الاستثمار بحقل الدرة، بعد أيام من توقيع السعودية والكويت وثيقة لتطوير الحقل، في خطوة جاءت بهدف تنفيذ مذكرة تفاهم كان قد وقعاها، في كانون الأول/ديسمبر عام 2019، وتضمنت العمل المشترك على تطوير واستغلال حقل الدرة.

مسار تصاعد التوترات بشأن حقل “الدرة”

فبعد أيام من المصالحة التاريخية بين إيران والسعودية في بكين، في آذار/مارس الماضي، أجرت الكويت وإيران محادثات بشأن حدودهما البحرية في منتصف الشهر ذاته، في حين توقعت مجلة “إيكونومست” البريطانية حينها، أن تحسن العلاقات بين إيران من جانب، والكويت والسعودية من جانب، يمكن أن تعيد إحياء جهود إجراء محادثات مشتركة حول القضايا الحدودية.

توتر جديد بين السعودية وإيران والكويت بسبب تنقيب الغاز بحقل “الدرة” المتنازع عليه/ إنترنت + (AFP)

المجلة البريطانية أوضحت، أن حل قضية ترسيم الحدود البحرية التي طال أمدها قد يؤدي إلى إزالة التوترات المحيطة بخطط المملكة والكويت لتطوير الحقل، وقد تؤدي إلى زيادة صادرات الكويت من الغاز على المدى الطويل، مشيرة إلى أن الكويت ترغب في الاستفادة من الوضع الجيوسياسي المعتدل بشكل متزايد في الخليج لتعزيز تطوير حقول الغاز البحرية.

وسط ذلك، وفي الثالث من تموز/يوليو الماضي، أعلنت وزارة الخارجية الكويتية في بيان رسمي، أن الدولة الخليجية تجدد الدعوة لإيران للبدء في مفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية مع الكويت والسعودية كطرف تفاوضي واحد، وشدد البيان، على أن المنطقة البحرية الواقع بها حقل الدرة للغاز تقع بالمناطق البحرية لدولة الكويت وأن الثروات الطبيعية فيها مشتركة بينها وبين السعودية ولهما وحدهما “حقوق خالصة فيها”، وفقا لوكالة رويترز.

بعد يومين من تصريح الخارجية الكويتية، نقلت وكالة الأنباء السعودية، في 5 تموز/يوليو الماضي، عن مصدر في وزارة الخارجية القول، إن ملكية الثروات الطبيعية في “المنطقة المغمورة المقسومة”، بما فيها حقل الدرة بكامله، هي ملكية مشتركة بين المملكة ودولة الكويت فقط.

كما أضافت أن تجدد دعواتها السابقة للجانب الإيراني للبدء في مفاوضات لترسيم الحد الشرقي للمنطقة المغمورة المقسومة بين المملكة والكويت كطرف تفاوضيٍ واحد مقابل الجانب الإيراني، وفقا لأحكام القانون الدولي، لكن بعدها بأسبوع قال وزير النفط الإيراني، جواد أوجي، في 12 تموز/يوليو الماضي، إن وزارة الخارجية في بلاده ستتابع موضوع حقل غاز “الدرة” بحسب ما نقلته “رويترز”.

لكن في تصعيد من قبل الكويت، قال وزير النفط الكويتي، سعد البراك، في مقابلة مع قناة “سكاي نيوز عربية”، في 27 تموز/يوليو، إن الكويت ستبدأ التنقيب والإنتاج في حقل “الدرة” للغاز من دون انتظار ترسيم الحدود مع إيران، وذلك إلى جانب تمسك السعودية بموقفها بأن الحقل لا يضم سوى حقها إلى جانب الكويت، الأمر الذي يبدو أنه ذاهبا إلى مراحل جديدة من التصعيد إذا ما تراجعت إيران عن موقفها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات