في الفترات الحالية وتحديدا خلال شهر أيلول/سبتمبر من كل عام، يقوم السوريون بتجهيز مؤنة الشتاء “المونة”، إلا أن ارتفاع الأسعار بشكل كبير عن العام الماضي في الأسواق السورية، خاصة بعد رفع الحكومة أسعار المشتقات النفطية وتدهور الليرة السورية، الأمر الذي زاد من تكلفة تحضيرها، وبالتالي اضطرار العديد من العائلات السورية إما الاستغناء عنها أو اللجوء إلى طرق بديلة لتوفيرها، كالقروض والجمعيات والحوالات الخارجية.

تُعد “المونة” من أساسيات التخزين في كل مطبخ سوري، ومن أشهر المواد التي تُخزّن، هي “المكدوس والمخللات والمربيات واللبنة”. كما يُعتبر التموين في المنازل السورية ثقافة قديمة، تتعلق بأنواع من المأكولات المرتبطة بالتراث السوري، وتقوم على تخزين مواد غذائية موسمية بكميات كبيرة، مثل تجميد الخضار أو تجفيفها أو عصرها بالملح لاستخدامها في فصلي الشتاء والربيع، فالخضار نادرة حينها، وتوضع هذه المواد المخزّنة في مكان مخصص داخل البيت يُسمى “بيت المونة”.

المونة وسحب القروض

في السياق، يبحث أحد المواطنين، 58 عاما، وهو عسكري متقاعد، في كل تجمع عائلي عن أحد أقربائه الموظفين في القطاع العام، كي يكفله في إصدار قرض 400 ألف ليرة سورية بدون فائدة، الذي سبق وأعلنت عنه “وزارة المالية السورية”، بغية توفير جزءٍ من تكاليف “المونة” لأسرته.

العسكري المتقاعد يضيف “سيبقى من راتبي 35 ألف ليرة سورية فقط في حال حصلت عليه”، ويقول لـ”تلفزيون الخبر” المحلي، معبرا عن حيرته بين حاجته للقرض لتأمين مستلزمات مونة الشتاء وبين بقايا الراتب التي لن تكفيه ثمنا للخبز.

الرجل المتقاعد أشار في حديثه للتلفزيون المحلي مؤخرا إلى أن هذا القرض الثاني الذي يقوم بسحبه خلال أقل من عام، حيث اضطر في الصيف الماضي لإصدار أولهما للقيام ببعض الإصلاحات في منزله وإعداد “المونة من مكدوس وملوخية و برغل” لعائلته.

حول سحب القرض، يعزو الرجل نفسه بقوله “الراتب لا يكفي لمدة أسبوع واحد هذا العام، نظرا للغلاء الكبير في أسعار المواد الغذائية، فكيف يمكن أن ندفع مئات الآلاف لتجهيزات المونة، لذلك لا بدّ من البحث عن قروض أو الاستدانة من أحد الأشخاص بالفائدة”.

خلال العامين الماضيين، حلَّ موسم “المونة” ضيفا ثقيلا على العديد من العائلات السورية، ويبدو أن الأمر سيتكرر ولكن بشكل أكبر هذا العام، نتيجة الارتفاعات القياسية في الأسعار التي باتت أكبر من القدرة الشرائية للكثيرين من مجاراتها، وهذا سيدفع البعض إما إلى إلغاء صناعة “المونة” نهائيا، أو تقليص مخصصاتهم منها وجعلها ضئيلة جدا، لتقتصر على تموين أهم المواد، مثل “المكدوس والجبنة”.

الجمعيات والحوالات الخارجية

كما أن إحدى الطرق التي يستخدمها السوريون لتغطية تكاليف “المونة” هي اللجوء إلى قريب أو صديق مقيم في الخارج، ليُرسل لهم حوالة مالية قد تنقذهم من براثن ارتفاع الأسعار في فصل الشتاء. وفي هذا الصدد يقول أحد سكان العاصمة دمشق أنه لو لم ترسل له أخته المقيمة في ألمانيا حوالة مالية بقيمة 300 يورو، لما تمكّن من توفير تكاليف “المونة” لعائلته.

الشخص ذاته يعمل سائق على إحدى “السرافيس” على خط وادي المشاريع-جسر الرئيس. وأردف في اتصال هاتفي لموقع “الحل نت”، أنه نادم جدا على عدم خروجه من سوريا واللجوء إلى دولة أوروبية مثل الكثير من أقاربه وأصدقائه، إذ لم يكن يتصور أن يصل الوضع في سوريا إلى هذا الحد من السوء والتعاسة.

كما أشار في حديثه إلى أن الدخل من عمله لا يكاد يكفي لإعالة أسرته المكونة من 5 أفراد، فيقول “راتبي عالسرفيس يادوب مكفي معيشة عيلتي وبالقلة كمان، ونحن مستغنين عن كتير أكلات ومصاريف تانية، ولولا مساعدات أخواتي الموجودين في أوروبا لما تمكنت من تدبير أمور أسرتي، خاصة وأن مصروف بنتي الجامعي يدفعها عمها المقيم في هولندا”.

من جهتها، قالت باسمة، 45عاما، وهي موظفة في إحدى المؤسسات الحكومية في ريف دمشق في حديث لـ”تلفزيون الخبر” “اعتدت حجز دور شهر أيلول/سبتمبر أو تشرين الأول/أكتوبر بعد الاشتراك في جمعية سنوية أقمتها مع إخوتي وزملائي في العمل”.

باسمة تقول للموقع المحلي “أنقذتني الجمعية منذ سنوات في تأمين متطلبات المدارس لأطفالي ودفع تكاليف المونة، لكنني وبسبب الوضع الاقتصادي الصعب أخذت دورين، ومع ذلك يبدو أن المبلغ لا يكفي فالأسعار تتغير كل يوم”.

هذا ويبدو أن شهر أيلول/سبتمبر بات ثقيلا على النسبة الأكبر من السوريين، أصحاب الدخل المحدود، كونه يحمل ضربتين موجعتين على جيوبهم، أولها “المونة” وثانيها بدء العام الدراسي مع كل ما يحمله من أعباء مالية كبيرة من مستلزمات دراسية ومصاريف النقل وغيرها.

تكاليف المونة

عادة ينطلق موسم المؤونة من منتصف شهر آب/أغسطس من كل عام، نظرا لكثرة المنتجات الزراعية اللازمة، وتعد هذه الفترة من العام غنية بمثل هذه المنتجات كالباذنجان والفليفلة والبندورة الملوخية والبامياء.

حول ذلك تقول إحدى السيدات، إن أسعار مستلزمات “المونة” هذا العام مرتفعة جدا، وخصوصا “المكدوس” الذي يتصدر سُلّم الأولويات حيث بات القليل منه يحتاج إلى ميزانية مستقلة لتجهيزه، لافتة إلى أن الأمر لا يتعلق بأسعار الباذنجان والفليفلة فقط وإنما يتعداه إلى أسعار الجوز حيث تجاوز ثمن الكيلو منه الـ 125 ألف ليرة سورية، وكذلك لتر الزيت الأبيض والذي بات أكثر من 30 ألف ليرة، والثوم بـ 30 ألفا، ما يعني أضعاف ما كانت عليه الأسعار في العام الماضي، حسبما أوردته صحيفة “تشرين” المحلية مؤخرا.

بالتالي فإن فاتورة تجهيز مونة “المكدوس” لوحدها وعلى أصولها وبكميات كافية قد تصل إلى المليون ليرة تقريبا، “إذاً فعن أي مؤونة نتحدث” تضيف السيدة للصحيفة المحلية.

كما لا يقتصر الحديث عن صنفٍ دون غيره فارتفاع الأسعار ينسحب أيضا على أصناف عديدة من المؤونة، كالبرغل الذي تجاوز سعره الـ 10 آلاف ليرة والبامياء 8000 والكشكة التي يحتاج تجهيزها إلى اللبن والذي وصل سعره إلى 7000 ليرة والملوخية بـ 25 ألفا، وغيرها الكثير من الأصناف التي اعتادت الأُسر تجهيزها في مواسمها كمؤونة للشتاء.

على الرغم من الزيادة التي أصدرها الرئيس السوري بشار الأسد، مؤخرا على رواتب الموظفين، إلا أن  قائمة المؤن المتعلقة بموسم الشتاء تُعد تحدّيا بسبب تأثير الارتفاع الجارف للأسعار على القدرة الشرائية والحياة اليومية للمواطن البسيط.

سُلّم رواتب الموظفين الحكوميين الجديد والعلاوات السنوية، لا تكفي لصناعة كيلو واحد من طبق “المكدوس” السوري، حتى أن بعض الأطباق الشعبية أيضا مثل اللبنة باتت تتفوق في بعض الأحيان على رواتب الموظفين الحكوميين.

أصبح تكلفة عمل 10 كيلو لبنة للمونة الشتوية لأسرة مكونة من 5 أشخاص يتجاوز 600 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل سعرها قيمة رواتب الموظف لمدة 3 أشهر وقد يتجاوزها أحيانا.

لذلك، فإن تكلفة “المونة”، بعد ارتفاع الأسعار والرواتب، باتت تكلف نحو 4 ملايين ليرة سورية، وسط تراوح رواتب الموظفين ما بين 200-260 ألف ليرة سورية. ولهذا يبدو أن القادرينَ على تأمين هذه الإمدادات الغذائية الشتوية هم إما الأغنياء والميسورينَ، أو أولئك الذين يحصلون على حوالات خارجية من أقاربهم أو أصدقائهم في الخارج.

في مقابل كل ذلك، لا شك أن نسبة كبيرة من الأُسر السورية ستُحرم من صناعة “المونة” في منازلها هذه السنة، نتيجة غلاء الأسعار وتدني الرواتب، وبالتالي سيواجهون أعباء معيشية قاسية خلال فصل الشتاء، ومن ثم سيضطرون إلى تقنين احتياجاتهم وتقليل وجباتهم الغذائية قدر المستطاع.

رغم أن “المونة” تشكل جزءا مهما من ثقافة الادخار لدى العائلات، إذ تتم الاستعانة بها في أيام الشتاء الطويلة لتقليل النفقات، حيث توصف بصمام أمانٍ في البيوت، بيد أن الكثيرين يخشون من أن تتعرض هذه الثقافة للانقراض تباعا بعد أن بدأت تتناقص عاما بعد آخر وتتراجع من على سلّم الأولويات، فيما يُعدّ الانقطاع الطويل للكهرباء سببا رئيسا في تخلي البعض عن ثقافة المؤونة، وخصوصا المنتجات التي تحتاج إلى تفريز، وهذا ما دفع البعض لاعتماد سياسة التجفيف بالنسبة للخضار ولكن بكميات محدودة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات