في 17 آب/أغسطس 2021، الرئيس الصيني شي جين بينغ، ترأس الاجتماع العاشر للجنة المالية والاقتصادية المركزية في الحزب “الشيوعي” الصيني، ووجه رسائل مهمة للشعب الصيني بكل وضوح، بأن الحكومة لا تستطيع تحمّل كل شيء، ومسؤوليتها الرئيسية ستكون تعزيز تنمية المشاريع وتلبية الاحتياجات الخاصة، وحتى عندما تتحسن الأمور المالية للدولة لن نُسرف هذه الأموال على الضمان الاجتماعي والدعم الحكومي.

من هذا المنطلق، الحكومة السورية ليست “بابا وماما”، هذه جملة قيلت داخل قبة مجلس الشعب في سوريا، في جلسة خاصة لتبرير سياسة الحكومة الجديدة، واتباع سياسة الدولة الصينية مع شعبها حول الدعم والخدمات الاجتماعية.

رغم أنه من المعلوم، أن الحكومة في أي دولة هي مؤسسة تخدم المجتمع، ولا تستبد به، ومسؤولة عن تأمين حقوق المواطن في الأمن والحرية والعدالة، كما أن الحكومة مسؤولة عن تأمين حق المواطن في الحياة الكريمة، وذلك بتوفير الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والماء والكهرباء، وهذه الخدمات ليست نعمة أو هبة من الحكومة، بل هي واجب وحقّ للمواطن، إلا أن الحكومة السورية تريد أن تُنهي هذا الواجب وهذا الحق، بحجة أنها تريد أن تعلّم المواطن أن يعتمد على نفسه، وتريد أن تقارن نفسها بالصين، التي اتبعت سياسة مماثلة، لكن هل هذه المقارنة عادلة.

زمن جديد من الاعتماد على الذات.. كيف سيتأقلم المواطنون؟

في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بسوريا منذ سنوات، تبحث الحكومة السورية عن سُبل لتخفيف العبء عن خزينتها وتحسين أدائها، ومن بين هذه السُّبل، تدرس الحكومة إصدار تشريع جديد يقضي بإلغاء أو تقليص كافة أشكال الدعم والرعاية الاجتماعية التي كانت تقدمها للمواطنين، والتي تشمل الخبز والوقود والكهرباء والصحة والتعليم وغيرها.

طبقا لما توصل له “الحل نت” من معلومات حصرية، يصاغ في الوقت الراهن تشريعٌ سيُعرض على مجلس الشعب، مفاده اتباع سياسة الدولة الصينية مع شعبها، في أن كل مواطن يعتمد على نفسه وينسى الدعم الحكومي بشكل نهائي، وليس على السوريين الانتظار من الحكومة أن توفر لهم ضمان اجتماعي، فالحكومة ستعمل على توفير أساسيات الدولة فقط، بدعوى أن الرفاهية تولّد الكسل.

عدة أسئلة تُثار إذا ما تم قبول المشروع، أبرزها كيف سيتعايش السوريون مع الحكومة التي ترفض دعمهم، وهل سيواجه السوريون الحكومة، بالقول لا نريد بابا وماما، نريد حقوقنا، وهل تخلي الحكومة عن السوريين سيمكّنهم من البقاء على قيد الحياة بدون دعم، وما هي البدائل أمام السوريين ، وهل هناك أمل.

الحكومة تبرّر هذا التشريع بأنه يستند إلى نموذج صيني ناجح، يعتمد على مبدأ أن كل مواطن يعتمد على نفسه ولا ينتظر من الدولة أن توفّر له ضمان اجتماعي، وتزعم الحكومة أن هذا التشريع سيحفّز المواطنين على العمل والإبداع والإنتاج، وسيخلق منافسة صحية في السوق، وسيُزيل ظاهرة الكسل والتسول والاستهلاكية. 

كما تدّعي الحكومة أن هذا التشريع سيُسهم في تخفيض التضخم والفقر والبطالة، وزيادة الإيرادات والاستثمارات والنمو، ولكن هل هذه المبررات صحيحة، وهل هذا التشريع مناسب للوضع السوري، وكيف سيردّ المواطنون على هذا التشريع.

 تغير في مسار التنمية.. هل ينجح؟

اعتماد النموذج الصيني الذي أضر بالاقتصاد الصيني فعلا، وجعل من الشعب الصيني يكتنز الأموال ولا يصرفها ضمن اقتصاد الدولة والذي أدى لانخفاض “اليوان” الصيني لأدنى مستوياته خلال العام الجاري أمام الدولار، إلا أنه في الوقت ذاته لا يتناسب مع الوضع السوري، بحسب الخبير الاقتصادي، ماجد الحمصي.

الحكومة السورية الدعم
الحكومة السورية الدعم

فالصين لديها اقتصاد قوي ومتنوع، ولديها سوق عالمية وإقليمية، كما أن الصين لديها نظام سياسي مستقر وفعّال، ولديها رؤية استراتيجية وطموحة، والأهم من ذلك، فإن الصين لديها شعب متعلم ومثابر ومبدع، يسعى للتقدم والتطور.

أما سوريا بحسب حديث الحمصي لـ”الحل نت”، فهي دولة محاصرة، لديها اقتصاد متدهور ومتحجّر، ولديها سوق مغلقة ومحدودة، كما أن سوريا لديها نظام سياسي فاسد وفشل مؤخرا، ولديها رؤية ضبابية وانعزالية، والأسوأ من ذلك، فإن سوريا لديها شعب مضطهد ومقهور ومحروم، يسعى للبقاء على قيد الحياة.

من المهم أن نفهم أن هذا التغيير الجذري في سياسة الحكومة ليس مجرد تغيير في السياسة الاقتصادية، بل هو تحول في العقلية الجماعية للمجتمع، فمنذ سنوات عديدة، اعتاد السوريون الاعتماد على الدعم الحكومي في مجموعة من الجوانب الحياتية، بدءا من التعليم والصحة وصولا إلى الدعم الاجتماعي والاقتصادي، والآن يجدون أنفسهم أمام حقيقة صعبة؛ أن الحكومة لن تكون الراعي لهم بعد الآن.

لكن هل هذه السياسة مناسبة للوضع السوري، وكيف سيتأقلم المواطنون مع هذا التغيير، لا يمكن الإجابة على هذه التساؤلات بشكل قطعي طبقا لتقديرات الحمصي، فالوضع في سوريا معقّد ومتغير، ويتأثر بعوامل عديدة، مثل الحرب والانهيار الاقتصادي وسياسات الحكومة التقليدية.

يبدو أن هذه السياسة لا تستند إلى دراسات علمية أو استطلاعات رأي، بل إلى قرارات فردية أو جماعية غير مبررة، فلا يوجد دليل على أن هذه السياسة قد نُقشت مع المجتمع المدني أو المؤسسات المختصة أو حتى اللجنة الاقتصادية في مجلس الشعب، كما لا يوجد دليل على أن هذه السياسة قد دُرست تأثيراتها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والإنساني.

علاوة على ذلك، يبدو أن هذه السياسة لا تأخذ في الحسبان حقائق مؤلمة، مثل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والغلاء في سوريا، فكثير من المواطنين لا يستطيعون تأمين احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والماء والدواء والتدفئة، فكيف سيستطيعون الاعتماد على أنفسهم دون أي دعم من الدولة، كما أن كثير من المواطنين لا يملكون المهارات أو الفرص أو الحوافز للعمل والإنتاج، فكيف سيستفيدون من هذه السياسة.

خلل تراكمي

في ظل هذا السياق، يبدو أن هذه السياسة للحكومة السورية لا تقارن بين الحالات بشكل عادل، فالصين ليست مثالا مناسبا لسوريا، وهذا السيناريو الجديد يفرض تحديات كبيرة على السوريين، ويجب عليهم البحث عن وسائل جديدة لتلبية احتياجاتهم الأساسية وضمان استمراريتهم في الحياة بكرامة.

رئيس الوزراء المهندس حسين عرنوس، ذكر في مجلس الشعب، أمس الأحد، أن الشرائح ذات الدخل المحدود على وجه الخصوص تعاني من تراجع القوة الشرائية لدخولها، وبالتالي كان من الضروري اتخاذ الخطوات الممكنة لتعزيز القوة الشرائية للشرائح ذات الدخل المحدود ولا سيما شريحة العاملين في الدولة.

عرنوس أشار إلى أنه ثمة صيغ دعم موروثة منذ عدة عقود تقوم على منح الدعم بشكل شموليّ، دون تمييز بين من يستحق ومن لايستحق، بين من يستحق قليلا ومن يستحق كثيرا، وأرسى هذا الدعم الشموليّ الكثير من الصعوبات سواء لجهة القدرة التمويلية للدعم، أو لجهة الشفافية والكفاءة في الإنفاق على هذا الدعم في ظل تسرّب جزء منه إلى السوق السوداء، في ضوء الصعوبات البالغة التي ترافق قنوات توزيعه.

انطلاقا من حقيقة عدم القدرة على الاستمرار بهذا الوضع السائد الذي يستنزف موارد الدولة، وعدم القبول به، كان لا بدّ بحسب عرنوس من اتخاذ خطوات ضرورية وحتمية لمعالجة هذا الخلل التراكمي، نحو صيغ أكثر كفاءة وأكثر عدالة.

مرحلة جديدة من اللادولة؟

من خلال المشروع الجديد يرى الحمصي، أن سوريا ستنتقل لمرحلة جديدة من اللادولة، وهذا المصطلح يشير إلى حالةٍ من الفوضى والانهيار التي تعيشها سوريا بسبب الحرب والتدخلات الخارجية والفساد والانقسامات، وفي هذه المرحلة تفقد الدولة سيادتها وشرعيتها وقدرتها على توفير الأمن والخدمات للمواطنين، وتتحول إلى مجرد أداة للمصالح الخاصة.

وفقا لتقرير “البنك” الدولي، من المتوقع أن يرتفع معدل التضخم في سوريا إلى 104.7 بالمئة في عام 2023، بعد أن بلغ 100.7 بالمئة في عام 2022، وسيظل التضخم مرتفعا بسبب انتقال أثر أسعار الصرف واستمرار نقص الغذاء والوقود والمزيد من تقليص الدعم، كما أشار تقرير آخر إلى أن معدل التضخم في سوريا تجاوز 16 ألف بالمئة منذ عام 2011.

في حين أن البطالة وفقا لتقرير “جمعية العلوم”، وصلت في سوريا إلى 31.4 بالمئة في عام 2023، بزيادة عن 29.8 بالمئة في عام 2022، وأشار التقرير إلى أن هذه النسبة تشمل فقط الأشخاص الذين يبحثون عن عمل، ولا تشمل الأشخاص الذين فقدوا أملا في إيجاد عمل أو اضطروا للعمل في قطاعات غير رسمية.

علاوة على ذلك، فإن الفقر وفقا لتقرير “البنك” الدولي، ارتفعت معدلاته في سوريا ارتفاعا مطّردا منذ بداية الصراع، وهذا ما يعكس تدهورا في فُرص كسب العيش والتآكل التدريجي لقدرة الأسرة على التكيف، وأوضح التقرير أن نحو 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وأن نحو 60 بالمئة منهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي.

لذا فإن مستقبل سوريا الاقتصادي لعام 2024 غير مبشّر بالتّحسن، لا سيما مع التوجه الجديد للحكومة التي تواجه صعوبات كبيرة في تحصيل الإيرادات وتغطية المصروفات، خاصة مع تدهور قيمة الليرة السورية وارتفاع تكاليف استيراد المواد الأساسية مثل الغذاء والطاقة.

مع تزايد مرارة الواقع الاقتصادي في سوريا والمشروع الجديد للحكومة، يبدو أن المئات من الشباب والعائلات السورية ستكون مهووسة بالسفر إلى الخارج بهدف الذهاب إلى بلد يوفّر لهم الأمن والاستقرار المعنوي والمادي، ورغم أن تكاليف الهجرة عالية، إلا أن هذا الأمر لن يثنيهم حتى عن بيع ممتلكاتهم من أجل السفر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة