لم يكن وضع الطلاب الجامعيين في سوريا في أفضل حالاته حتى يعصف بهم عددٌ من الأزمات من زيادة الرسوم الجامعية إلى مصاريف التنقل والتعليم ككل، وبالتالي هذا الأمر فاقم من أوضاعهم الحياتية أكثر مما هي عليها، ووضعهم أمام تحدّيات جمّة. فبين الحين والآخر تتدهور قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، وترتفع معها أسعار المشتقات النفطية، مما يؤثر بشكل مباشر على عجلة الحياة المعيشية بشكل عام.

ولا شك أن كافة الطلاب في الجامعات السورية يتأثرون بموجات الغلاء المتتالية وارتفاع أسعار المواصلات وغيرها من الأزمات الخدمية والاقتصادية. لكن وضع الطلاب في مناطق شمال وشرق سوريا وتحديدا في محافظة الحسكة يُعتبر خاصا إلى حدّ ما، نظرا لأنهم يسلكون مسافات طويلة سفرا إما جوا عبر الطائرة أو برا عبر حافلات النقل “البولمان”، من مدنهم إلى أماكن جامعاتهم الموجودة في مدن بعيدة عنهم كالعاصمة دمشق ومدن حلب وحمص واللاذقية أو حتى طرطوس.

في الواقع، السفر من مدن الحسكة مثل قامشلو/القامشلي وعامودا وديريك/المالكية وغيرها إلى دمشق أو حلب أو الساحل السوري يكلّف الكثير، مما يزيد الأعباء المالية على هؤلاء الطلبة. ولذلك تجدهم يزورون عائلاتهم مرة أو مرتين فقط في السنة ويقضون بقية الفترة في أماكن جامعاتهم، وذلك لتجنب دفع تكاليف إضافية.

غير أن قرار رفع شركات الطيران والباصات من رسوم التذاكر بالتزامن مع زيادة المصاريف المعيشية واللوازم التعليمية، وضع عددا من طلبة مناطق شمال شرقي سوريا أمام تحديات وظروف صعبة، خاصة أولئك الذين ليس لهم أقارب في المغترب ولا يتلقّون أيّة حوالات مالية، أو الوضع المالي لعوائلهم هشّ، وبالتالي فإن هذا الأمر برمّته دفع نسبة من الطلاب إلى اتخاذ قرارات مصيرية حول مستقبلهم، فمنهم من قرر ترك الجامعة والالتحاق بسوق العمل أو السفر إلى أربيل أو أوروبا أو خيار الزواج كهروبٍ من واقع مرير لبعض الطالبات، ونسرد هنا بضعَ حالات منها في التقرير التالي.

تكاليف الطيران

خلال الفترة الماضية، رفعت شركات الطيران أسعار تذاكر السفر بين القامشلي والعاصمة دمشق، حيث وصل سعر التذكرة الواحدة عبر شركة “السورية للطيران” لنحو 590 ألف ليرة سورية، بعدما كانت بـ 450 ألف ليرة، لكن بالتزامن مع وجود ضغط كبيرة على شركات الطيران من ناحية حجز الطلبات، صار الناس يحجزون عبر وسطاء وسماسرة وبأسعار أعلى من تلك المذكورة، وهذا ما أكّدته مصادر محلية الخاصة لموقع “الحل نت”.

وأضافت هذه المصادر أيضا أن هؤلاء السماسرة، هم إما عساكر وضباط يعملون في مطاري القامشلي أو دمشق أو أشخاص متنفذين، ويتقاضون مبالغ إضافية مقابل حجز تذاكر للمسافرين، خاصة المستعجلين منهم سواء الطلاب أو المرضى أو أي شخص قد تكون لديه حاجة مُلحّة للحصول على أوراق أو جواز سفر سريع من العاصمة.

المصادر الخاصة أشارت إلى أن شبكة السماسرة لا تقتصر فقط على العساكر والضباط المتنفذين، بل هناك موظفون يعملون في المطارَين، ويقومون بالحجز للمدنيين مقابل مبالغ مالية، وأحيانا تكون هذه المبالغ كبيرة. كما تقوم شبكة الوسطاء هذه بإجراء الحجوزات عبر شركات الطيران العامة والخاصة، بما في ذلك الخطوط الجوية السورية “السورية للطيران”، و”أجنحة الشام”، وطائرات الشحن “اليوشن”. وتبلغ التكلفة للشخص الواحد عبر “اليوشن” نحو 150 ألف ليرة سورية، وأحيانا أكثر في أوقات الذروة.

هذا وقامت شركة “أجنحة الشام” للطيران برفع أسعار تذاكرها أيضا، حيث وصل سعر التذكرة الواحدة إلى 850 ألف ليرة سورية للدرجة العادية، ونحو 1,250,000 ليرة سورية لدرجة رجال الأعمال، ونظرا لكثرة عدد المسافرين إلى العاصمة دمشق يتم الحجز بأسعار أعلى من المذكورة، وذلك عبر شبكة من الوسطاء والسماسرة تتحكم في الحجوزات، بحسب مصادر محلية خاصة أكدت لـ”الحل نت”.

“السفر” أفضل من الجامعة!

من ناحية أخرى، ونتيجة لتراجع قيمة الليرة السورية إلى مستويات تاريخية خلال الأشهر الثلاثة الماضية، حيث يُقدّر الدولار الواحد اليوم بأكثر من 13 ألف ليرة سورية، ومن ثم ارتفاع أسعار المشتقات النفطية، ما أدى إلى ارتفاع أجور النقل برّا أيضا، سواء عبر باصات “البولمان” أو السيارات الخاصة “الفانات” بين المحافظات السورية، وخاصة بين القامشلي- دمشق، والقامشلي- اللاذقية، والقامشلي- حلب، حيث يصل سعر التذكرة الواحدة عبر “البولمان” إلى ما بين 70-80 ألف ليرة سورية للدرجة العادية و125 ألف لدرجة “رجال الأعمال”، وأحيانا يكلف أكثر وذلك حسب أعداد المسافرين، وفق ما أكدته إحدى شركات النقل لـ”الحل نت”.

في ظل ارتفاع تكاليف السفر والمواصلات بشكل عام، وكذلك مصاريف الجامعة من السكن والمأكل ومستلزمات الدراسة، الأمر الذي وضع العديد من الطلاب أمام تحديات وظروف مادية صعبة. يقول الطالب سربست أحمد (اسم مستعار)، إن تكاليف المعيشة ترتفع بين الحين والآخر بالنسبة له ولجميع الطلاب، بسبب تدهور الليرة وارتفاع تكلفة كل شيء تاليا.

سربست، طالب في السنة الثالثة في كلية الطب البشري بجامعة دمشق، وهو من سكان مدينة القامشلي. اختار إكمال تعليمه الجامعي لأن فرعه من الفروع الجيدة والمهمة في البلاد، رغم أن والده ووالدته مدرّسان في إحدى المدارس الحكومية، ورواتبهما هزيلة (نحو 250 ألف ليرة شهريا لكل واحد منهم)، لكنهما قررا إرسال ابنهما الأكبر إلى الجامعة وتحقيق طموحهما في هذا الفرع الذي يحظى باحترام المجتمع بشكل عام وبحسب ما يعتقدان.

سربست يضيف لـ”الحل نت”، إن ارتفاع أجور السفر والمواصلات بشكل عام، إضافة إلى زيادة المصاريف الجامعية زاد من معاناة أهله المادية، وهو ما وضعهم أمام خيارات صعبة، خاصة وأن والديه يعملان في إعطاء الدروس الخصوصية إلى جانب وظيفتهم حتى يستطيعوا تمرير حياتهم المعيشية ودفع مصاريفه الجامعية، فيقول ” أهلي بصعوبة بالغة يؤمّنون مصاريفي الشهرية، عبر إعطاء دروس خصوصية وأحيانا والدي يستدين من أقاربه، وأنا أصرف شهريا ما يقارب المليون ليرة وأحيانا أكثر، ما عدا مصاريف المحاضرات والأبحاث الجامعية وتكاليف السفر في كل فصل دراسي، وهذا مبلغ كبير على عائلي حقيقة”.

ولذلك يفكر سربست حاليا وبشكل جدّي مع عائلته في بيع منزلهم الوحيد في القامشلي والسفر إلى أوروبا وتحديدا ألمانيا. فمن ناحية سيؤمن مستقبله، ومن ناحية أخرى سيوفر الأعباء المالية على أسرته، خاصة وأنه كل سنة يصرف ما يقارب الـ1500-2000 دولار، وإذا تم جمع كل سنوات التعليم فسيكون مساويا لتكاليف السفر إلى أوروبا. وعلى أية حال، سيسافر هو وغيره مثل أقاربه الذين سافروا عندما تخرّجوا من الجامعة، بسبب قلّة فرص العمل الجيدة لهم، وإن وجدت فستكون بأجور منخفضة ولجميع التخصصات، على حدّ تعبير الطالب الجامعي.

الزواج خيار لبعض الطالبات!

من جهتها تقول إحدى طالبات كلية العلوم في جامعة دمشق والمتحدرة من مدينة ديرك/المالكية، إنها لم تتمكن من إكمال تعليمها الجامعي، نظرا لأن المصاريف المالية تزداد يوما بعد يوم. وخاصة تكاليف السفر وكذلك تكاليف السكن والمأكل والتنقل بين الجامعة ومنزلها الذي استأجرته مع زملائها في منطقة زورآفا/وادي المشاريع بدمشق.

الطالبة جين المصطفى (اسم مستعار)، تضيف لموقع “الحل نت”، أنها أنفقت العام الماضي ما يقارب الـ 10 ملايين ليرة سورية على تكاليف السفر والسكن والمستلزمات المدرسية في دمشق. وتقول “استأجرت مع ثلاثة من زملائي منزلا من غرفتين ومنتفعاته بتكلفة 700 ألف ليرة شهريا في منطقة وادي المشاريع، تدفع كل واحدة منا 175 ألف شهريا، هذا ما عدا مصاريف الذهاب إلى الجامعة، حيث أُنفق ما بين ألفين وثلاثة آلاف يوميا، وأحيانا 15 ألفا أثناء انقطاع السرافيس واضطرارنا إلى ركوب سيارات الأجرة، تاكسي الركاب، فالعثور على سرفيس هذه الأيام أصبح مسألة حظ”.

وأشارت الطالبة نفسها إلى أنه بالتزامن مع ارتفاع تكلفة كل شيء، وخاصة مصاريف السفر والإيجار، أصبح من الصعب على أهلها إرسالها إلى الجامعة وإكمال تعليمها، إذ يرون أن الحصول على شهادة جامعية في سوريا أصبح أمرا غير ذا قيمة، وأنه لم يعد هناك مستقبل لجيل الشباب في هذا البلد ويجب عليها العمل بدلا من الدراسة.

في ظل كل هذا، ارتأت جين أن خيار الزواج من شخص مقيم في أوروبا هو الأفضل لها. فمن ناحية تتخلص من الحياة البائسة في سوريا وتخفف العبء المادي عن عائلتها التي تعاني من ظروف مادية بائسة كغيرها من العوائل السورية. ومن ناحية أخرى، ستسافر إلى بلد فيه الأمن والأمان والمستقبل، وربما تستطيع إكمال دراستها هناك، وفق ما تعتقد جين ونسبة كبيرة من فتيات سوريا اليوم.

حال سربست وجين، يشبه حال نسبة كبيرة من الطلاب في شمال وشرق سوريا، وهو ليس ببعيد عن حال الطلاب في المحافظات الأخرى. ولهذا السبب، فإن نسبة كبيرة من الطلاب يتركون مقاعدهم الدراسية ويتّخذون خيار السفر بداعي العمل أو الزواج أو ما إلى ذلك.

والبعض منهم يعملون إلى جانب دراستهم الجامعية، وخاصة أبناء دمشق والساحل السوري. ويتبين أن هناك طلاب شباب يعملون في المطاعم والمقاهي لتغطية نفقاتهم الجامعية، ومنهم الطالبات اللاتي يعملن في إعطاء الدروس الخصوصية لطلاب المرحلة الابتدائية، أو العمل في مكاتب الجامعة، أو القيام بالتسويق الإلكتروني، أو ما شابه ذلك.

وسط كل ذلك، آلت حال الجامعات السورية إلى تدهور ملحوظ خلال السنوات العشر الماضية وباتت في أدنى المستويات نتيجةً لتزايد تكاليف التعليم وتراجع مستوى الخدمات من الكهرباء والمياه والمحروقات، بجانب ارتفاع مستوى الفساد والتجاوزات بحقّ الطلبة، وقلة الموارد وجمود المناهج التعليمية، وعسكرة الحرم الجامعي وهجرة الأدمغة، وبالتالي تدمير نظام التعليم العالي لمستويات غير مسبوقة.

ومن الواضح أن القضية التي تفرض ضغوطا أكبر على قطاع التعليم العالي اليوم، هي هجرة العقول من الأكاديميين والطلبة نتيجة تزايد الأعباء المادية، والتهديد الأمني الذي يواجهه بعض الأفراد، وعسكرة الجامعات التي لها اليد العليا في السيطرة على مفاصل التعليم العالي من الفساد والتزوير والتلاعب بالشهادات مقابل تلقي الرشاوى، إلى جانب ابتزاز واستغلال الطالبات وليس انتهاءً بالترويج للمخدرات بين الطلاب، وهو ما سيترتب عليه آثار سلبية كبيرة، من عجز الأكاديميين والمؤسسات التعليمية في إعادة بناء المجتمع السوري ورسم مستقبل جديد للبلاد، بالإضافة إلى عزوف وترك الآلاف من الطلاب المقاعد الجامعية، إمّا بالهجرة أو الزواج خارج حدود سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات