سمحت تظاهرات العام 2011 في عدد من الدول العربية الكشف عن غفلة الأنظمة السياسية في التعامل مع التنظيمات الإسلامية الحركية سواء من الناحية السياسية والأمنية، أو السياقات اللازمة والضرورية التي تتصل بسُبل مواجهة تمدّد تلك الأفكار، وكذا وأدِ قدرتها نحو ضخ أعضاء جُدد إلى تكويناتها التنظيمية، مما جعل البلاد التي عُرفت ما أُطلق عليها “الربيع العربي” حواضن لعدد من التنظيمات التكفيرية ومنصّة انطلقت من خلالها أعمالاً إرهابية عابرة للحدود.

بدت تونس وهي تزيح نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، تئنّ تحت وطأة ولادة عدد غير محدود من التنظيمات الراديكالية خاصة في ظل غياب مؤسسات الدولة وتمكّن “حركة النهضة” ذراع “الإخوان المسلمون” في تونس من حكم البلاد والقبض على مؤسساتها أن تخبر ما اصطلح على تسميته بظاهرة السلفية الجهادية.

تونس والسلفية الجهادية

تستمد السلفية الجهادية في تونس منهجها الفكري من مصادر مختلفة إذ تشكّلت من خلال تيارات إسلامية عديدة، سيما ما استمدّته من أفكار سيد قطب “التكفيرية” ومنهجه في استخدام القوة والعنف ضد الدولة وتفكيك أو هدم مؤسساتها وكذا أدبيات جماعة “الإخوان المسلمين”.

احدى المظاهرات ضد “الإخوان المسلمين” (حركة النهضة) في تونس- “إنترنت”

يذهب البعض إلى اعتبار أن السلفية الجهادية برزت كتيّارٍ مستقل عن التيار السلفي الدعوي والتقليدي في إطار ظرف إقليمي ودولي خلال نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي وذلك بعد عودة “الأفغان العرب” لبلادهم بينما تشكّل داخل تلك التنظيمات التكفيرية عددا كبيرا من الشباب التونسي الذي اكتسب الخبرات التنظيمية القتالية والميدانية في معسكرات أفغانستان وقت الحرب ضد الاتحاد السوفياتي.

جاء تأسيس أول حركة سلفية في تونس عام 1988 وحملت اسم “الجبهة الإسلامية التونسية” وترأس الجبهة كلٌّ من محمد خوجة، ومحمد علي حراث، وعبدالله الحاجي، بينما كانت توجهات الجبهة الإسلامية قريبةً فكرياً وسياسياً وتنظيمياً من الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، وقد صنّفتها وزارة الخارجية الأميركية ضمن “المنظمات الإرهابية العالمية”. بيد أن الهيكل التنظيمي لهذه الحركة قد تلاشى بعد هجرة أغلب قادتها إلى المنفى واعتقال البعض الآخر في تونس خلال عقد التسعينات بتهمة الإرهاب.

نفّذ التيار الجهادي مجموعة من العمليات الإرهابية والهجمات المسلحة الفردية خلال فترة حكم الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، مثل عملية تفجير الكنيس اليهودي بواسطة سيارة مفخخة في جزيرة جربة جنوب شرق تونس، في نيسان/ أبريل العام 2002 وقد راح ضحيتها عدد من السُّياح الألمان. كما حدثت مواجهات بين العناصر المسلحة والتكفيرية والجيش التونسي في الضاحية الجنوبية لتونس، نهاية العام 2006 والتي عُرفت بأحداث “سليمان” وقد نفذها تنظيم أطلق على نفسه اسم “جند أسد بن الفرات” بينما راح ضحية العملية الأخيرة عناصر من الجيش التونسي و أعقبتها حملة اعتقالات واسعة شملت المئات من الجهاديين.

“النهضة” ضالعة بالإرهاب!

في هذا السياق تؤكد النائبة التونسية فاطمة المسدي أن علي العريض هو المسؤول الأول في ملف التسفير خاصة على مستوى التعيينات والترقيات الأمنية التي حدثت في ذلك الوقت. وتابعت المسدي حديثها لـ”الحل نت” أن تلك التعيينات والترقيات الأمنية ساهمت بشكل مباشر وفعّال في ملف التسفير والتعاون مع الإرهابيين وكذا في مسألة الحصول على جوازات السفر المدلّسة، فضلاً عن تسهيل عمليات إدخال وإخراج المقاتلين عبر المطارات.

لم تتردد المجموعات الإسلاموية في خداع قطاع هام من النخبة السياسية والاجتماعية من خلال الادعاء بأنها حركة دعوية وإصلاحية وليست حركة عنف وتدمير، بيد أن نشاطها وممارساتها العنيفة ذات الطابع الإرهابي، تفنّد تلك الادعاءات وتكشف زيفها.

تضيف صاحبة بلاغ ملف التسفير للأجهزة الأمنية والقضائية في تونس أن علي العريض أيضاً هو مسؤول عن العديد من الوقائع التي هددت الأمن القومي لتونس عبر تفكيك منظومة الأمن داخل الحدود وإطارات دخول الأجانب للبلاد، خاصة ما يتّصل بمسألة المراقبة الحدودية، فضلاً عن تدخله في اختيار القيادات الأمنية واستبعاد الكفاءات وتعيين أصحاب الولاءات التي تسهّل كافة الإجراءات التي تيسّر الأهداف الخاصة بتنظيمات الإسلام السياسي.

الأكاديمي التونسي عبد اللطيف الحناشي يشير في كتابه” السلفية التكفيرية في تونس” أنه كان من الملفت أن تضحي تونس من بين الدول التي اندفع شبابها مبكراً للانخراط في هذا النشاط السلفي الجهادي والتكفيري على المستوى الإقليمي والدولي وصولاً إلى النشاط المحدود في تونس، ثم الاندفاع القوي الذي تجلّى بعد مطلع العام 2011 والذي منح لهؤلاء حرية النشاط والتمدد منذ صدور العفو التشريعي على رموز هذه المجموعات وقياداتها التنظيمية في حين لم تتردد هذه المجموعات في خداع قطاع هام من النخبة السياسية والاجتماعية من خلال الادعاء بأنها حركة دعوية وإصلاحية وليست حركة عنف وتدمير، بيد أن نشاطها وممارساتها العنيفة ذات الطابع الإرهابي، تفنّد تلك الادعاءات وتكشف زيفها.

ويؤكد الحناشي في كتابه أن خطراً حقيقياً يتمثل في حاضر ومستقبل الدولة الوطنية، وهي تواجه أزمة تنامي تلك الجماعات السلفية التكفيرية التي “نشطت في مجتمع يبدو أن له قابلية للتطرّف وذلك في ظل قدرتهم على حشد آلاف التونسيين من الشباب وهو ما أثبتته إحصائيات وزارة الداخلية التونسية التي تكشف يومياً عن عشرات الخلايا الإرهابية فضلاً عن المجموعات التي تمكنت مؤسسات الدولة المعنية من حظر سفرهم  للاشتباه في رغبتهم بالانخراط في جبهات الصراع”.

إلى ذلك يشير الكاتب التونسي مراد علاله أنه يمكن اعتبار إصدار قاضي التحقيق عدد 12 المكلّف بالبحث في ملف التسفير بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب بطاقة إيداع بالسجن في حق نائب تنظيم “حركة النهضة” علي العريض، خطوة متقدمة في إطار البتّ فيما يُعرف بملفات عشرية حكم الإسلام السياسي في تونس، مما يعده علاله في سياق تصريحاته لـ”الحل نت”، أنها خطوة تحمل دلالات كثيرة، لعل أبرزها أن القاضي المتعهد بالملف توصّل بعد التحقيق مع علي العريض “القيادي النهضوي”، إلى ما جعله يغيّر قرار الاحتفاظ إلى قرار الإيداع بالسجن وسيكون ذلك وفق القانون ولمدد قد تطول لأشهر حتى يتمّ استكمال الأبحاث مع مختلف المشتبه بهم في القضية والذين يُقدّرون بالمئات، وختمها والشروع في المحاكمة التي قد تطول بدورها.

يذهب علاله أن علي العريض يتحمّل في تقديرنا المسؤولية السياسية في ملف التسفير وغيره من الملفات ذات الصلة بالأمن القومي للدولة التونسية باعتباره كان ضمن الفريق السياسي الذي يضطلع بأعباء الحكم، بل أكثر من ذلك كان بين 13 آذار/ مارس من العام  2013 و29 كانون الثاني/ يناير من العام 2014، رئيساً للحكومة المؤقتة وقبلها وزيراً للداخلية بين 24 كانون الأول/ ديسمبر 2011 و13 آذار/مارس 2019، هي الفترة الحالكة التي تغوّل فيها الإرهاب وعبث فيها الارهابيون.

ضحايا تونسيين وغير تونسيين

وأعتقد والحديث ممتد للمصدر ذاته أن القضاء التونسي اليوم هو الوحيد القادر، والمطلوب منه تحديد المسؤولية الجزائية من عدمها، والقضاء العادل والناجز هو الذي لا يطيل أمد المحاكمة ويوفّر جميع ضمانات المحاكمة العادلة، ولا يتم ذلك إلا بتواصل تعافي القضاء وتحرّر القضاة وتحمّلهم لمسؤولياتهم في إنصاف العباد والبلاد، خصوصاً في هذه الملفات ذات البعد الأمني والتي كانت كلفتها باهظة وراح ضحيتها كثير من التونسيين وحتى غير التونسيين.

يشير الصحفي التونسي مراد علاله، أن المعلومات بخصوص ملف التسفير شحيحة وما رُشّح إلى حدّ الآن على لسان بعض المسؤولين أو على ألسنة فريق الدفاع من محامي علي العريض وقيادات أخرى في تنظيم “النهضة” إلى جانب النائبة فاطمة المسدي التي بادرت بتقديم الشكاية سنة 2021، تعكس على قلّتها خطورة ما كان يحدث في مفاصل الدولة حيث كشفت تقديرات مختلفة أن عدد الشباب المغرّر بهم والذين تم تسفيرهم عبر ليبيا وتركيا تراوح وفق مصادر رسمية وأخرى غير رسمية بين 2400 و8 آلاف تونسي عدد منهم سافر من المطار وبجواز سفر.

ومن بين النقاط التي اتُّهم فيها مباشرة علي العريض بحكم المسؤولية الوظيفية والقانونية على الأقل، الترقيات الوظيفية التي أجراها في وزارة الداخلية التونسية خلال الإشراف عليها وبعض من وردت أسماؤهم في القائمة من بين الموقوفينَ في نفس القضية.

يجب التأكيد على المسؤولية السياسية للإسلام السياسي وعلى رأسها “النهضة” الإخوانية، صوب ملف التسفير ونقل المقاتلين لبؤر التوتر والاقتتال وكذا كل ما حصل في البلاد من مشاكل وأزمات على خلفية تمسّكها المطلق بالسلطة والحكم.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الدوافع الحقيقية من تصنيف “أنصار الشريعة” كتنظيم إرهابي عندما أصبح رئيساً للحكومة والحال أن الجميع يعلم العلاقة المميزة التي كانت تجمع هذا التنظيم بتنظيم “النهضة”.

نحو ذلك يشير العميد السابق في “الحرس الوطني التونسي”، علي الزرمديني، أنه قبل كل شيء يجب الإقرار والتأكيد ودون لبس على المسؤولية السياسية للإسلام السياسي وعلى رأسها “حركة النهضة” الذراع السياسي لجماعة” الإخوان المسلمون” في تونس، صوب ملف التسفير ونقل المقاتلين لبؤر التوتر والاقتتال وكذا كل ما حصل في البلاد من مشاكل وأزمات على خلفية تمسّكها المطلق بالسلطة والحكم.

ومن جانب آخر يضيف الخبير الأمني علي الزرمديني في سياق تصريحاته التي خصّ بها “الحل نت” أنه يجب النظر والتدقيق إزاء عدد من الشخصيات القيادية في “حركة النهضة” خاصة تحليل شخصية القيادي علي العريض، الذي تولى منصب وزير الداخلية خلال الفترة الزمنية التي بدت فيها ظاهرة تسفير المقاتلين نحو سوريا وليبيا والعراق مرتبطة بتونس وكذلك فكر ابنه هشام الذي يحمل فكراً قريباً من الدواعش (تنظيم داعش الإرهابي).

من الصعب النظر إلى هذا الملف والقضاء التونسي يفحص كافة الملفات والوثائق المرتبطة به بعيداً عن كون علي العريض من صقور “حركة النهضة”، ما يجعله يخطو بثبات نحو أهداف الإسلام السياسي داخلياً وإقليمياً ودعم كافة التنظيمات الإسلاموية في الشرق الأوسط خلال تلك الفترة غير أنه كان يحرص على الظهور كحمل وديع عند تقلده  السلطة.

 لكنه دائماً كان يشكل الغطاء الخلفي لكل الأطراف التي تولت المسائل الميدانية وكذا إلى جانب إشرافه المباشر على التخطيط والإعداد دون أن يبدو في صدارة المشهد.

يلفت علي الزرمديني العميد السابق في “الحرس الوطني التونسي” أن علي العريض يُخفي حقداً دفيناً على المؤسسة الأمنية في تونس واستطاع أن يحيط نفسه بعناصر بارزة من الأمن الموازي وكانت تجمعه لقاءات أمنية في مقر الحركة وغيرها بهدف تسهيل كافة مهمات قيادات “النهضة” لتسهيل تدخّلاتهم والحصول على وثائق رسمية لتسفير المقاتلين خارج البلاد وكذا دوره الفعّال في إعفاء قيادات أمنية بارزة لتدعيم أهدافهم في اختراق الجهاز الأمني وتيسير كل تحركاتهم مثلما كان الحال في واقعة تهريب أخطر عنصر إرهابي (أبو عياض) من جامع الفتح بتونس العاصمة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات