حسب الرؤية التاريخية تُعد مراحل الحروب والتوترات السياسية فرصة ذهبية للعديد من الفصائل السياسية غير المشروعة والملفوظة بشكلٍ ما، وهذا ما يبرع فيه الإسلام السياسي على اختلاف تياراته، فالإسلام السياسي رغم اختلاف تياراته إلى ذلك الحدّ الذي يجعل البعض يدعوه بإسلامات سياسية، إلا أنه يلتقي في العديد من المواضع، ولعل أهمها دخوله عادة من الأبواب الخلفية، ويبرر ذلك إغلاق الأبواب المشروعة أمامه في العديد من الأحيان، للتّخوف المعتاد منه لإعلانه عادةً فساد الآخر عقائدياً ويربطه بالدور الوطني والنضالي، وغياب هذا عن الآخر وتمثّله فيه.

والظروف والتوترات السياسية الكبرى التي تصنعها حرب غزة الآنية، ويكملها الانقسام السوداني وحالات العنف التي هي أشبه بالحرب إن لم تكن كذلك، والدور الرئيس الذي يلعبه “الإخوان المسلمون” في حرب السودان، أسفرت عن محاولات الإسلام السياسي للعودة للمشهد السياسي العالمي مرة أخرى، خاصة أنه قد تم لفظه في الآونة الأخيرة بعد أن تولّى إدارة العديد من الدول مثل مصر وتونس والمغرب بعد عام 2011 وفشل إلى حدّ لفظه اجتماعياً وسياسياً. وفي السودان فقد مارس الحكم السياسي طوال ثلاثين عاماً حتى خرج من السلطة بثورة عنيفة، ومنذ ذلك الوقت وهو يسعى للعودة مرة أخرى إلى المشهد السياسي في السودان.

الإسلام السياسي ومنعطف حرب غزة

استغل الإسلام السياسي ومناصريه العمليات العسكرية التي قدّمتها الفصائل الفلسطينية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأعادوا عمليات الترويج لمشروعها السياسي، وزايدوا على كل الدول التي لم تتدخل في الحرب الطاحنة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة، ففي مصر لم يكن التركيز حول القضية وما يمكن أن يتم تقديمه لها على مستوى الدعم اللوجستي والمعنوي بقدر ما كان على إثبات عدم وقوف الإدارة السياسية بجانب فلسطين ودخول مصر الحرب، وكذلك في العديد من الدول، ومن الغريب أن مثل هذه الانتقادات لا توجّه لتيار الإسلام السياسي في تركيا ممثلاً في رجب طيب أردوغان، الذي قدم دعماً لوجستياً وربما عسكريّاً لإسرائيل في هذه الحرب، واكتفى بالتنديد في خطاباته ورفع الشعارات الحماسية.

فالإسلام السياسي رأى فيما قدّمه يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر منجزاً يمكن أن يعيد تقديم نفسه من خلفه، وفي تصريح للباحث بقضايا الفكر العربي المعاصر بـ”مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان”، سهيل الحبيب لـ “الحل نت”، ابدى موافقته حيال استغلال الإسلام السياسي للأزمات المعاصرة قائلاً: ربما يعتقد الإسلاميون أن المنجز العسكري المبهر لـ”كتائب عزالدين القسّام” الجناح العسكري لحركة “حماس”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 سيعيدهم إلى الواجهة، باعتبارهم قوى سياسية تحمل “آمال الأمة” في الخروج من واقعها المتردّي، وذلك بعد الانتكاسات التي أصابت تجاربهم في بلدان الثورات العربية خلال العشرية الماضية.

وفي تقدير الحبيب، فإن الإسلاميين، بهذا الضرب من الاعتقاد، يسقطون في ذات الفخ الذي سقطوا فيه بعد النتائج الكبيرة التي حصدوها في “الانتخابات الشعبية” التي أعقبت الحراكات الشعبية سنة 2011 ولا ينظرون إلى أبعد من رؤية العين.

ويبدو أن النتائج السياسية لحرب غزة ستكون حاسمة في الإجابة عن مدى قدرة الحركة الإسلامية على “قيادة مسار حقوق الشعب الفلسطيني نحو حلّ ينصفه، ويعيد له حقوقه أو على الأقل جزء منها”، وفق تقدير الباحث في قضايا الفكر العربي المعاصر.

فالمكاسب العسكرية عادة ما تكون مقدمات للمكاسب السياسية التي تتوجها وتجعل لها فاعلية على الأرض، لذا على الإسلام السياسي أن يملك خريطة سياسية قادرة على تجاوز الإطار القائم ومحاولة تحقيق المكاسب السياسية المرجوة من هذه العمليات، التي راح فيها دماءٌ وأرواحٌ كثيرة، وعن مستوى الأداء السياسي أجاب سهيل الحبيب، بأن “المشترك بين تجارب حكم الإسلاميين في بعض الدول العربية بعد انتخابات شعبية في العشرية الماضية ومعركة غزة اليوم هو اختبار الأداء السياسي للإسلاميين ومدى فاعليته، بما في ذلك أداء خطابهم الموجّه إلى العالم في حرب غزة بالذات، وفشل الإسلاميون في اختبار الحكم وأثبتوا أنهم لا يمثلون بدائل إيجابية حقيقية من الأنظمة التي وقع إسقاطها”.

ولا يمكن أن نحسم المكاسب والخسارات السياسية في حرب غزة الآن، حيث أنها لا زالت قائمة ولا زالت المفاوضات والعمليات السياسية والعسكرية قائمة، ولكن في نظر سهيل الحبيب، “الخطاب القسّامي فشل في الترويج للقضية الفلسطينية، باعتبارها قضية تحرّر عادلة بمنظور القِيم الحقوقية الكونية، واستغلت إسرائيل الخطاب الديني لكسب أنصار”. وذلك في انتظار اتضاح معالم الوضع السياسي الذي سيسود بعد وقف الحرب والذي يمكن أن يهيئ لنا الإجابة عن سؤال: إلى أي مدى يمكن للأداء القتالي، مهما كانت بطولته وشجاعته، أن يؤتي نتائج إيجابية بدون فكر سياسي عقلاني مازالت الأيديولوجيا الإسلامية بعيدة عنه إلى حدّ الآن؟

العودة للمشهد السياسي بالسودان

يختلف وضع الإسلام السياسي في السودان ممثلًا في “الإخوان” عن باقي الدول، من حيث إنه هو النظام التي تمت الثورة عليه، فقد حكم “الإخوان” ثلاثين عاماً سيطروا من خلالها على بنية الدولة، من الخدمة العامة والاقتصاد، و احتكروا الأموال والمعادن، والزراعة، والاستيراد والتصدير، وكل شيء تقريباً، وكانوا متغلغلين في أجهزة الدولة، ولفظه المجتمع السوداني وقام بثورة أيلول/سبتمبر عام 2018 التي أطاحت بـ”النظام الإخواني”. ومنذ ذلك الحين وتترقب جماعة “الإخوان” وقت عودتها إلى المشهد السياسي، وظلوا يعملون خلال الثلاث أو الأربع سنوات التي قضتها الحكومة الانتقالية على عرقلة الانتقال الديمقراطي.

جماعة الإخوان يسعون لتصدر المشهد السياسي مجدداً في السودان عبر ميليشياتها المسلحة- “الصورة من الإنترنت”

 وحسب ما صرّح به الكاتب والباحث السوداني، عبد الجليل سليمان، لـ “الحل نت”، فإن مساعي الإسلام السياسي للعودة إلى المشهد السياسي في السودان لم تنقطع قط حتى بعد إطاحتهم من الحكم مباشرة، عبر الثورة الشعبية المشهودة في عام 2018، ومنذ إطاحتهم في نيسان/أبريل عام 2019 وهم يعملون بجِد للعودة إلى المشهد السياسي عبر ضباطٍ بالجيش وأجهزة الأمن المخابراتية والاستخبارات العسكرية، فجماعات الإسلام السياسي وعلى رأسهم “الإخوان المسلمين” عبر ذراعها السياسي “حزب المؤتمر الوطني”، عملوا على تصفية الأجهزة الأمنية من الكوادر العسكرية المهنية المختلفة وأبدلوها بكوادرهم المؤدلجة، وأعطوهم جرعات قليلة من التدريب العسكري ورتب عسكرية كبيرة.

وبجانب ذلك خلقوا ميليشيات عسكرية وموّلوها، وأصبحت موازية للجيش وأقوى منه، “مثل قوات الدعم السريع التي أُنشئت بموجب قانون 2013 وتم شرعنتها في سنة 2017 بواسطة برلمان حكومة عمر البشير، وظلوا يعملون مع قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان ومع قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو الملقب بـ(حميدتي)، وضباطهم الآخرون الذين كانوا يشكلون المجلس العسكري السيادي الذي أُنشئ عقب الإطاحة بالبشير، وكان هؤلاء الضباط لهم علاقة بالإخوان، وثمة اختلاف قد حدث فانفصل عنهم حميدتي”.

دور الإسلام السياسي في حرب السودان

والحرب اليوم تُعد بين “الإخوان” و”قوات الدعم السريع” بقيادة حميدتي، فالإخوان لديهم ثلاثة آلاف من الضباط داخل الجيش السوداني، وتُعد جميع القيادات في الجيش ضمن جماعة “الإخوان المسلمين”، حتى البرهان لديه علاقة تنظيمية بـ “الإخوان”، وصرح بهذا الكلام الدكتور محمد أمين حسن عمر، أحد قيادات “الإخوان” البارزين، وأحد كبار مفكّري ومنظّري جماعة “الإخوان” في السودان.

وهناك الكثير من الأحزاب الموجودة موالية لـ “الإخوان المسلمين” مثل “حركة الإصلاح الآن” برئاسة غازي صلاح الدين، وهذه الحركات، والتيار السلفي، والدواعش بقيادة محمد علي الجزولي الذي تم أسره بواسطة “قوات الدعم السريع” في بداية الحرب، كل هؤلاء كوّنوا ما يسمى بـ “التيار الإسلامي العريض” بقيادة “الإخوان”، وعملوا بشكل حثيث بغية العودة إلى المشهد السياسي وربما صناعة الحرب.

جماعة الإخوان الآن يدمرون السودان من أجل العودة إلى السلطة، وهم يعلمون أنهم إذا خسروا هذه الحرب، وهم يخسرون حتى الآن، فستكون نهايتهم الأبدية.

فـ “الإخوان” مازالوا يقاتلون عبر كتائبهم ومليشياتهم “كميليشيا البراء بن مالك”، و”قوات العمل الخاص”، بجوار الجيش السوداني، وقيادات الجيش جميعها “إخوان مسلمين”. وهم الآن يدمرون في السودان من أجل العودة إلى السلطة ويعرفون أنهم إذا خسروا هذه الحرب، وهم للآن خاسرون، فستكون نهايتهم الأبدية.

وعلى جانب آخر من أخطار هذه الحرب إذا انتصرت “قوات الدعم السريع”، فليس هناك ضمانات كافية لعدم سيطرتها على البلد والوفاء بوعودها والتنازل عن السلطة للمدنيين وإجراء انتخابات، وترتيب آليات الانتقال الديمقراطي، وربما تفرض نظاماً مستبداً جديداً. فقد بدأت كميليشيا وانتهت إلى أن أصبحت قوات منظّمة، ولكن أيضاً لديها الكثير من الأموال، من تعدين الذهب التي منحها لها نظام عمر البشير، ولديها علاقات وتشابكات مع الكثير من الدول، وكل هذا يُعد نذير خطر لنكوصها عن وعودها.

والواقع أن المشهد السياسي بالسودان، يحكمه “الإخوان المسلمون”، فقد بدأ عهد الإسلام السياسي في السودان مع جعفر النميري في أواخر عهده حين أعلن نفسه أميراً للمؤمنين في أواخر أيلول/سبتمبر عام 1983، وأُعدم محمود طه بعد ذلك بتهمة الرّدة، وسعى لتطبيق رؤيته للشريعة الإسلامية، منذ ذلك العهد والإسلام السياسي يحكم المشهد السوداني، فالحرب الآنية في السودان يقف في خلفيتها “الإخوان المسلمون” الساعين للعودة إلى الحكم منذ أن خرجوا من السلطة، وفق العديد من التقديرات، وتُعد هي الطرف الرئيس في هذه الحرب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة