على مدار القرن الماضي كان فِكرُ “الإخوان المسلمين” مسيطراً على تيارات الإسلام السياسي، فطموح “الإخوان” ببناء مشروع سياسي ضد مصالح الولايات المتحدة من خلال إقامة الخلافة، ودهائها السياسي واعترافها بالروابط المصلحية جعلها قادرة على احتواء هذه التيارات والحركات بتنويعاتها، وإقامة علاقات معها، وحكم هذا المشهد لا مركزية اتخاذ القرار والمواقف، حيث اختلفت المواقف وردود الأفعال، فمن الممكن أن تكون هناك قضية يؤيدها فصيل من “الإخوان”، بشكلٍ كبير وأخرى ترفضها، ويظهر هذا مع “إخوان” العراق، الذين كانوا يختلفون مع تنظيم “الإخوان” في مصر، في مسائل تجاه “الثورة الإيرانية” والتواجد الأميركي في العراق، وكذلك ملكت حركة “حماس” رؤية مختلفة في قضايا عدّة.

تاريخ العلاقات “الإخوانية” التركية

مثّل التّشعب الإخواني إغراءً كبيراً للسلطات التركية وهذا ما جعلها تقف كراعيةٍ دولية لتيارات الإسلام السياسي، وخلف هذا الموقف سببَين؛ أولهما الطموح الأردوغاني لإعادة بناء الإمبراطورية العثمانية من خلال أذرع سياسية له في بلدان المشرق العربي، ويقوم الإسلام السياسي بهذا الدور، والثاني، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ينتمي لـ”حزب العدالة والتنمية”، وهو ممثّل الإسلام السياسي في تركيا.

العلاقة بين “الإخوان” وتركيا منفعة تبادلية، تحاول أنقرة فيها أن يكون لها ذراع في المشرق العربي، مستندة إلى فكرة القومية التركية التي تسعى إليها، في مقابل دعمها للجماعة سياسياً واقتصادياً.

وعلى الرغم من الأبعاد العقائدية التي يقدّمها الإسلام السياسي كمؤسسة له وأهداف لمشروعه، فإنه كأي فصيل سياسي تحكمه المصلحة ولا مانع عنده من التحالف مع المخالفينَ له في عقيدته أو غيرهم لتنفيذ مآربه السلطوية، وهذا ما حدث إبان سقوط أحزاب الإسلام السياسي في البلدان العربية، ولفظ المجتمعات العربية لحركاته، وتجريم جماعة “الإخوان المسلمين” في العديد من الدول، أولها مصر، دفع العديد من الحركات الإسلامية والأحزاب السياسية ذات المرجع الإسلاموي للتّنصل من انتمائهم إلى هذه الجماعة.

وهذا ما أكده الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية أحمد زغلول شلاطة لموقع “الحل نت”، مشيراً إلى أن العلاقة بين “الإخوان” وتركيا يمكن القول إنها علاقة استفادة متبادلة، تحاول أنقرة فيها أن يكون لها ذراع في المشرق العربي، مستندة إلى فكرة القومية التركية التي تسعى إليها، فتستفاد تركيا من “الإخوان المسلمين” بترسيخ أقدامها في المشرق على مدار عقود، في مقابل دعم تركيا للجماعة من خلال المدّ الاقتصادي وكذلك السياسي بعد 2011 للوصول إلى منصّات الحكم والإدارة. ولعبت تركيا على ذلك لرؤيتها للإسلام السياسي كأحد أدواتها، وكذلك قطر في العديد من الأحيان، ويسعى التنظيم الإخواني أيضاً لوجود دعم سياسي دولي لها بطبيعة الحال، وهذا ما وفّرته تركيا لفترات طويلة.

وأضاف شلاطة، أن هناك مشروعَين منافسَين لتركيا في المشرق العربي؛ وهما الحضور الإيراني والأممية الفارسية ومشروعه الطامع لبناء “الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، والتنازع السّني مع السعودية في غالبية الأحيان؛ وعليه تقارب النظام الحاكم حالياً في تركيا بمرجعيته مع “الإخوان المسلمين” ليمثّلوا ذراعاً سياسية له في هذا النزاع.

العلاقات التركية المصرية

حسب العُرف السياسي، فإن العلاقات تحكمها المصلحة على كل حال وهذا ما نراه كل يوم، وظهر ذلك جلّياً في مواقف الإسلام السياسي تجاه العديد من القضايا التي كثيراً ما استهلكها لتثبيت موقفه، وهذا ما يجعل الموقف التركي من تنظيم “الإخوان المسلمين” في مصر يختلف باختلاف درجة المصالح وتحدّيداتها الآنية.  

وفي هذا الخصوص صرّح الباحث المصري في حركات الإسلام السياسي عماد عبد الحافظ لـ “الحل نت”، بأنه على الرغم من تميز الموقف التركي تجاه الحكومة المصرية بالحدّة كردّ فعل على سقوط “الإخوان” من الحكم في العام 2013، وعلى الإجراءات المتّخذة ضدهم، وعلى الرغم من القطيعة التي استمرت لسنوات بعد ذلك التاريخ وحتى 2022؛ إلا أن العديد من الاعتبارات تسببت في تغير السياسة التركية تجاه مصر وتجاه جماعة “الإخوان” في الفترة الأخيرة.

قلّل أردوغان درجة الدعم المقدّمة لجماعة “الإخوان”، وذلك بسبب أنهم ربما باتوا يمثّلون عبئاً عليه وعلى مستقبله السياسي- “الصورة من الإنترنت”

ويرى عبد الحافظ، أن من هذه الاعتبارات مصالح تركيا المرتبطة بمصر فيما يتعلق بقضية غاز المتوسط والتواجد التركي في ليبيا، وكذلك رغبة أردوغان في معالجة الآثار السياسية والاقتصادية الناتجة عن توتر العلاقة التركية مع عدد من الدول الأخرى ومنها مصر بسبب سياسة أردوغان الخارجية، والتي كانت محلّ نقدٍ وهجوم من المعارضة تجاهه؛ ولذلك لاحظنا تغيّراً في سياسة أردوغان في الفترة الأخيرة تجاه مصر وجماعة “الإخوان”، حيث بدت سياسته الخارجية متّجهة نحو التهدئة وإعادة مدّ جسور التعاون والتفاهم مع مصر.

وعلى الجانب الآخر قلّل أردوغان درجة الدعم المقدّمة لجماعة “الإخوان”، وذلك بسبب أنهم ربما باتوا يمثّلون عبئاً عليه وعلى مستقبله السياسي وعلى المصالح التركية بصورة أكبر من أن يكونوا مصدر نفعٍ وفائدةٍ لهم، وذلك يرجع إلى ضعف الجماعة وكونها في حالةٍ تجعلها غير قادرة على أن تحقّق مصالح كبيرة للجهات الداعمة والموظّفة لها، يضيف عبد الحافظ.

وحسب قانون المصالح، فإن تركيا لم تتخلَّ عن التنظيم “الإخواني” بشكلٍ كامل، ولكن العلاقة محدودة للغاية وليست معدومة، ويأتي هذا واضحاً فيما صرّح به طارق أبو السعد لـ “الحل نت”، زاعما بأن تركيا لم تقطع علاقتها بتنظيم جماعة “الإخوان” الإسلاموية، فلايزال يوجد رأس التنظيمات “الإخوانية” هناك، مثل محمود حسين و”جبهة إسطنبول”، فلم تتخلَّ تركيا عن تبنّي المشروع “الإخواني” في المنطقة، فكلّ ما حدث أنها لم تعد تستثمر في الجماعة ولم يعد لاعبها المفضّل وحصانها الذي تراهن عليه، واقتربت كثيراً من قيادات الدولة الوطنية بحثاً عن مصالحها الاقتصادية وليس لعمقها السياسي وأمنها القومي، ولكن لعلاقاتٍ تحكمها المصالح الاقتصادية والسياسية.

والخاسر في هذا التقارب حسب ما أضافه طارق أبو السعد، هم أعضاء التنظيم من الشباب، أو من المهمّشين في التنظيم، أو أصحاب المكانة الاجتماعية المتواضعة، فهؤلاء تخلّى عنهم قياداتهم من أجل البقاء في تركيا وتركوهم للتّرحيل والشّتات لدول إسلامية سواء آسيوية أو أوروبية.

مستقبل العلاقات التركية “الإخوانية”

على الرغم من صعود نبرات الإسلام السياسي بعد عملية “طوفان الأقصى” في قطاع غزة ومساعيه للعودة إلى المشهد السياسي العالمي من جديد، إلا أنه في الوقت عينه يصرّ على عدم حصره في تنظيم “الإخوان المسلمين”، بل ويتبرأ منه، وحسب المصلحة التي تحكم المسألة السياسية، فإن تركيا في علاقاتها بالإسلام السياسي تكون حريصة على أن لا تكون مشبوهة، ولكنها في الوقت نفسه لا تتخلى عن الجماعة كلّية، وهذا ما أكده طارق أبو السعد في حديثه لـ”الحل نت”، قائلاً: أنه برغم هذا التقارب وعدم رهان تركيا على “الإخوان” لا يمكن الجزم بأن تركيا ستتخلى عن الجماعة بالكلية، وأشار بعبارات واضحة وصريحة أنه يؤكد أن تركيا خفّضت اهتمامها بها ورفعت حمايتها عن أعضائها المطلوبينَ أمام الانتربول، ورسمت خطوط حمراء لخطاب “الإخوان” الإعلامي، مما يعني فقدُ الجماعة أهم ميزة كانت تتمتع بها في تركيا وهي توفير منصات إعلامية تبثّ منها سمومها وشائعاتها ضد الدولة المصرية.

الموقف التركي تجاه الحرب الآنية في غزة جاء براغماتياً استغلالياً، حيث استهلك أردوغان القضية في خطاباته الرنانة ومحاولة بناء شعبية له في المشرق العربي بوصفه زعيم الشعوب المقهورة.

واتفق معه في ذلك الباحث المصري في شؤون الجماعات الإسلامية أحمد شلاطة، بقوله إنه في حال وجود أداة معينة في فترة زمنية معينة، قد يتم تضخيمها وتنشيطها أو ركودها في فترات معينة لأسباب خاصة بالمصالح القومية بالدولة التركية، والشاهد على ذلك المدّ والجزر في العلاقات “الإخوانية” التركية، من خلال الصراعات الموجودة في المنطقة بعد عام 2011 في الغاز وغيرها من القضايا الاقتصادية الموجودة، وفشل “الإخوان” على مدار عشر سنوات في بناء مشروع سياسي، تحديدا بعد عام 2013 وفشلهم في إنتاج أي مشروع سياسي موازي.

وأدي هذا حسب رؤية شلاطة إلى تراجع دور “الإخوان المسلمين” كأداة ضغط على النظام، أو كأداة سياسية تركية بشكلٍ عام، مما أدى إلى تراجع مركزيتها في الدولة التركية وما يخلّفه من تحديد الدعم التركي لها، في المقابل كان للنظام مصالح معينة دفعته للتعاون مع الإدارة المصرية في بعض الملفات، ومصر كذلك لأسباب خاصة بالدولة المصرية والمصالح السياسية والاقتصادية؛ ومن ثم حصل تقارب “حذر” مع تركيا من جانب ومع قطر من جانب آخر، وهذا ديدن السياسية وطبيعتها؛ أن يحكمها المصالح.

والموقف التركي تجاه الحرب الآنية في غزة جاء براغماتياً استغلالياً إلى أبعد حدّ، حيث استهلك أردوغان القضية في خطاباته الرنانة ومحاولة بناء شعبية له في المشرق العربي بوصفه زعيم الشعوب المقهورة، في حين لم يتعدَّ دعمه في هذه الحرب “الخطابات العنترية” لا أكثر.

ووفقاً لرؤية عماد عبد الحافظ، فإننا لا نستطيع أن نتوقع تخلي أردوغان الكامل عن الجماعة وتنفيذ المطالب المصرية فيما يتعلق بهذا الشأن؛ من تسليم مطلوبينَ من الجماعة لمصر وحظر النشاط الإعلامي والتنظيمي للجماعة داخل تركيا وطرد عناصر منها إلى الخارج، ويُعد هذا مفهوماً في الإطار البراغماتي الذي يحكم الحِراك التركي.

ويعود ذلك الرفض حسب ما أضافه الباحث في حركات الإسلام السياسي، عبد الحافظ، لـ”الحل نت”، لعدة اعتبارات؛ الأول أيديولوجي ويتمثل في خلفية أردوغان “الإخوانية” وانتماؤه الإسلامي وعلاقته بالتنظيم الدولي والذي قد يمثّل عاملاً نفسياً يحوّل دون القدرة على تنفيذ التخلي الكامل عن “الإخوان”، والثاني براغماتي يتمثل في رغبة أردوغان في الاحتفاظ بـ “الإخوان” كورقة ضغط تجاه مصر يستخدمها وقتما يشاء، وهذا يتوافق مع طبيعته البراغماتية والمراوغة، كما أن أحلام أردوغان في التوسّع والتمدّد وأن تكون تركيا قوة إقليمية تجعله حريصٌ على عدم خسارة “الإخوان”، لأنها أداة يستطيع توظيفها في هذا الهدف في مصر ودول أخرى.

الموقف التركي براغماتي مراوغ بطبيعته ويفهم حاجته إلى عدم تخليه الكامل عن جماعة “الإخوان”، ويفهم في الوقت نفسه خطورة السقوط معها في هوّة الفشل السياسي- “الصورة: سي إن إن عربية”

كما يتمثل الاعتبار البراغماتي في حرص أردوغان على تحقيق مكاسب داخلية من خلال لعبة التوازنات؛ حيث يعمل من جانب على إصلاح العلاقات الخارجية والتوصّل إلى اتفاق بشأن الغاز وبذلك يكتسب رضاء جزء من القاعدة الشعبية العلمانية، وفي ذات الوقت يحافظ على دعم “الإخوان”، وإن بشكل جزئي، من خلال السماح لهم بالإقامة والعيش في تركيا وبذلك يكتسب رضاء جزء من القاعدة الشعبية ذات الهوى الإسلامي.

وأضاف عبد الحافظ أن تركيا قد تقوم باتخاذ مزيدٍ من الإجراءات تجاه جماعة “الإخوان”، مثل غلق بعض القنوات الإعلامية، وإبعاد بعض العناصر “الإخوانية” المتّهمة في قضايا عنف وبعض القيادات خارج تركيا، والتضييق على الأنشطة التنظيمية للجماعة لكن دون تسليم أفراد إلى مصر، ودون منع كلي لنشاط الجماعة، كما يلاحظ أن العديد من عناصر الجماعة بدأ في ترك تركيا طواعية بحثاً عن ملاذات أكثر أمناً وعن مساحات أكثر حرية في ظل الوضع التركي الراهن.

والموقف التركي براغماتي مراوغ بطبيعته ويفهم حاجته إلى عدم تخليه الكامل عن جماعة “الإخوان المسلمين”، ويفهم في الوقت نفسه خطورة السقوط معها في هوّة الفشل السياسي واللفظ الاجتماعي في السياق العربي الإسلامي، وهذا يتعارض مع الطموح التركي الأردوغاني ببناء الخلافة العثمانية في هذه المنطقة ولا يتخلى، ولكنه في الوقت عينه يفهم أيضاً عدم قبول أي فصيل سياسي آخر للتعاون مع تركيا أو أردوغان في بلاد المشرق العربي، لذا ربما يكون دعمه محدوداً ولكن لا يمكن ألا يكون موجوداً أو يتخلى كلّياً عن جماعة “الإخوان” إلا في حال وجود حليف بديل في البلدان العربية الإسلامية.

ويأتي تحديد الدعم التركي لجماعة “الإخوان” ضمن إطار السياسية التركية الساعية إليها وهي “صفر مشاكل”، وذلك بعد تورّط تركيا لعشر سنوات في صراعات كثيرة في أذربيجان، وليبيا، ومصر، والعراق، وسوريا، وغيرهم من المناطق، وهذا ما دفع الموقف التركي لمحاولة تصفير مشاكله الإقليمية والدولية، نتيجة لتأثّر الاقتصاد التركي الكبير على هذه الصراعات، ولكنه لم يتخلَّ عن الطموح والمساعي في بناء الإمبراطورية العثمانية. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات