ثمة تضارب في المعلومات التي تتداولها العديد من الصحف ووسائل الإعلام؛ منها الغربية ومنها العربية، حول احتمالية انسحاب الولايات المتحدة من سوريا. فبينما تشير صحف غربية إلى نية واشنطن إنهاء تواجدها العسكري في سوريا، تؤكد وسائل إعلام أخرى استمرار الالتزام الأميركي في سوريا.

وفي ما يبدو أن هناك اتجاهات سياسية وإقليمية تسعى على نحو انتهازي وتلفيقي لتحويل مسألة الانسحاب الأميركي والتي هي ضمن دائرة نقاش عادي ومتكرر في الولايات المتحدة على أنها مرحلة حتمية ووشيكة وستكون بعدها المنطقة في شمال شرقي سوريا قاب قوسين أو أدنى من أصحاب أطماع التوسع الخارجي وتحقيق أجندتهم البراغماتية والتي تقوم على الفصل العنصري وسياسة الأبارتهايد.

وربما لا تعني النقاشات بشان الانسحاب الأميركي، كما تصور هذه الأطراف، جعل مناطق “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا، لقمة سائغة في فم الأطراف التي تقف من المدنيين هناك على نحو عدواني وهمجي متوحش. وفي كل الأحوال، فإن المنطقة باستقرارها السياسي المطرد بفعل الاصطفاف التي تقوده وتشارك فيه فئات المجتمع وممثليهم بـ”الإدارة الذاتية” هم بطاقة الأمان بينما يظل الوجود الأميركي مؤقت ومهم في آن معاً لتوفير المظلة الأمنية من هجمات العناصر الإرهابية وفلول تنظيم “داعش” أو الخصوم الإقليميين.

وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها تداول مثل هذه الأحاديث حول نية واشنطن الانسحاب من سوريا، فقد أعلنت إدارة دونالد ترامب السابقة هذا الأمر علناً، لكن سرعان ما غيرت رأيها وارتأت أن بقاء قواتها من شأنه أن تمنع عودة تنظيم داعش الإرهابي.

بالنظر إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن مختلفة عن دونالد ترامب، فلا بد هنا من طرح بعض التساؤلات حول أبعاد القرار الأميركي المتداول، فيما لو تم اتخاذه فعلياً، وهل يمكن للبنتاغون أن يوافق فعلياً على خطة انسحاب، مما يعني سيطرة تركيا وروسيا على المنطقة. وفي المقابل كيف ستواجه واشنطن تهديدات الميليشيات الإيرانية وتحد من آثارها الأمر الذي ينبغي مواجهته وإنهاء وقائعه ونتائجه ومآلاته. وأخيراً كيف يمكن فض الالتباس حول الموقف الأميركي الذي تزعمه بعض الصحف وفهم ملابساته وسياقاته السياسية والزمنية.

“انسحاب أميركي من سوريا”!

نحو ذلك، قالت صحيفة “فورين بوليسي“، نقلاً عن مصادر في وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون”، إن واشنطن تدرس إمكانية سحب قواتها بشكل كامل من سوريا.

وقالت المصادر وفق الصحفية الأميركية، إن البيت الأبيض لم يعد مهتما بالمهمة الأميركية في سوريا التي يعتبرها غير ضرورية، وأن نقاشاً داخل الإدارة الأميركية يجري الآن حول موعد كيفية سحب القوات، رغم أن القرار النهائي لم يتخذ بعد.

في المقابل، قالت قناة “العربية” إن البيت الأبيض نفى وجود خطة لسحب القوات من سوريا، مضيفة في اتصال أن “إدارة الرئيس جو بايدن لا تفكر بالانسحاب من سوريا”.

كذلك، نفى مسؤول في “البنتاغون”، في تصريحات لـ”سكاي نيوز” عربية، وجود خطط لتغيير حجم التواجد العسكري الأميركي في سوريا والعراق.

كما أكدت مراسلة صحيفة “بوليتيكو”، لارا سيغمان، أن التقارير الأخيرة التي تفيد بأن الولايات المتحدة تدرس سحب قواتها من سوريا “غير دقيقة”.

حديث سيغمان جاء عبر حسابها على منصة “إكس” (تويتر سابقاً)، تضمن نقل قول مسؤول في “البنتاغون” مفاده بأنه “لا توجد خطة للانسحاب كما لا يوجد أيضاً مقترح لشراكة قوات سوريا الديمقراطية مع الحكومة لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي”.

هذا وكانت صحيفة “المونيتور”، قالت قبل أيام إن “البنتاغون”، عرضت على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) خطة للتحالف مع حكومة دمشق بغية محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي.

كما ذكرت الصحيفة أن هناك مؤشرات متزايدة على أن سحب واشنطن لقواتها من سوريا قد يكون “حتمياً”.

أبعاد القرار الأميركي المزعوم

في سياق أبعاد القرار الأميركي المتداول، وما إذا كان قد تم اتخاذه فعلياً، يقول الأكاديمي والمحلل السياسي، وعضو “الحزب الديمقراطي الأميركي”، مهدي عفيفي، إنه ثمة بالفعل أحاديث داخل أروقة “البيت الأبيض والبنتاغون والخارجية الأميركية والكونغرس” حول الانسحاب الأميركي من شمال شرقي سوريا، وهذا الحديث ليس بجديد.

ثمة تخوفات أميركية من خلق فجوات وفراغات في حال انسحابها. وبالتالي السماح للقوات الروسية أو التركية لملء هذه الفراغات.

المحلل السياسي، مهدي عفيفي لـ”الحل نت”

لكن الحرب في قطاع غزة والتطورات في منطقة الشرق الأوسط أعاد التطرق لهذه المسألة من جديد، وفق ما يضيفه عفيفي لـ”الحل نت”. ومن وجهة نظره فالإدارة الأميركية ترى أنه من الممكن الانسحاب من الشمال السوري وفي الوقت ذاته دعم قواعد أخرى سواء في العراق أو أماكن أخرى بحيث أن لا يكون هناك تفرق للقوات الأميركية في أكثر من قاعدة في هذه المنطقة.

وأرجع عفيفي سبب هذا القرار المتداول داخل أروقة الإدارة الأميركية إلى الضربات الأخيرة الموجهة من العراق (التي يقوم بها الميليشيات والفصائل المسلحة الموالية لإيران) على القواعد الأميركية في سوريا والعراق.

تخوفات من تدخل روسيا وتركيا

في المقابل، يقول عفيفي إن ثمة تخوفات أميركية من خلق فجوات وفراغات في حال انسحابها. وبالتالي السماح للقوات الروسية أو التركية لملء هذه الفراغات.

ولذلك، يرى “البنتاغون” أنه لابد من الاستمرار في هذه القواعد والتعامل على التهديدات الإيرانية بشكل مختلف. وإلى الآن الهجمات الإيرانية على القواعد الأميركية لم تسفر عن خسائر فادحة، ولكن هناك تخوف من زيادة وتيرة هذه الهجمات، طبقاً لعفيفي.

التهديد الإيراني دائماً موجود، لم يتغير ولم ينته. وهو يزيد ويقل بحسب المتغيرات، وهذا تهديد عبر أذرع إيران وليس من الأخيرة مباشرة. لكن الكثيرين يعتقدون أن الأمر يعود إلى أحداث غزة، فهناك ردود فعل من إيران وشركائها في المنطقة، ولذلك فإن موضوع الانسحاب من سوريا لا يزال في مرحلة البحث والنقاش، وفق تقدير عفيفي.

والالتباس في هذا القرار المزعوم أمر طبيعي، لأن الإدارات الأميركية بشكل عام تدرس دائماً الأوضاع الحالية وتقيمها وتعيد النظر في التحرك سواء بزيادة القوات أو تخفيضها أو سحب القوات نهائياً أو تغيير الوضع، وفق اعتقاد عضو “الحزب الديمقراطي الأميركي”، مهدي عفيفي لـ”الحل نت”، والذي رجح بأن هذه المسألة لن يتم البت فيها بشكل مباشر في المستقبل القريب، بل أن الانسحاب من سوريا لن يتم بهذا الشكل، إلا إذا كانت هناك مخاطر كبيرة وأكيدة على القوات الأميركية الموجودة في هذه المنطقة.

(FILES) In this file photo taken on April 28, 2017 US forces, accompanied by Kurdish People’s Protection Units (YPG) fighters, drive their armoured vehicles near the northern Syrian village of Darbasiyah, on the border with Turkey. – The United States is preparing to withdraw its troops from Syria, US media reported on December 19, 2018, a major move that throws into question America’s role in the region. (Photo by DELIL SOULEIMAN / AFP)

بهذا المعنى، يبدو من الواضح أن ثمة آراء داخل الإدارة الأميركية تقول إنه يجب على واشنطن سحب قواتها من سوريا ومن المنطقة برمتها، إذ ترى أن أميركا لا تستطيع أن تعمل كشرطي لحماية المناطق التي تشهده أزمات وحروب. ولذلك الأفضل الانسحاب وإعطاء الأهمية للبلاد والمناطق الأخرى الأكثر أهمية بحسب وجهة نظرهم.

في المقابل، هناك آراء، وحتى مواقف حادة وحازمة، ترى عكس ذلك تماماً، حيث تقول إن قرار الانسحاب من سوريا سيخلق مجموعة من المعضلات، أولها عودة تهديد تنظيم “داعش” الإرهابي، وهو ما أشارت إليه مجلة “فورين بوليسي” نفسها، إذ اعتبرت أن الانسحاب سيكون له تأثير كارثي على المنطقة، وربما يمثل هدية قيمة أو مجانية لداعش.

هذا فضلاً عن أنه سيكون من السهل على روسيا ملء الفراغ الأميركي في حال الانسحاب، إضافة إلى تمدد الميليشيات الإيرانية التي تسعى لذلك منذ فترة طويلة، وهو ما يتعارض مع المصالح الأميركية ويهدد أمن المنطقة ككل.

هرطة روسية إيرانية

وفي ضوء كل ذلك، يبدو أن قرار انسحاب أميركا من سوريا، وفي هذا التوقيت الحساس جداً، ليس سوى مناقشة اعتيادية في أروقة الإدارة الأميركية، لكنه مستبعد تماماً، وذلك لجملة من الاعتبارات.

وأولها، أميركا ليست بوارد أن تأخذ قرار مماثل لما اتخذته في أفغانستان، لأن انسحابها سيخلق فوضى كبيرة بسوريا. وبالتالي انتقال هذه الفوضى لدول الجوار، بل سيمتد لدول الخليج، فضلاً عن أن البيت الأبيض ومسؤولين في “البنتاغون” والعديد من وسائل الإعلام استبعدوا تماماً سيناريو الانسحاب الأميركي من سوريا في الوقت الحالي.

وبالنظر إلى أن تركيا تعتبر من أكثر الدول التي تريد الانسحاب الأميركي من مناطق شمال شرقي سوريا، أي وقف واشنطن دعمها لـ”الإدارة الذاتية” في المنطقة، وهو الأمر الذي طالبت به مراراً وتكراراً، لكن يبدو أنها غير متأكدة من اتخاذ واشنطن لمثل هذا القرار. ولذلك علقت “وزارة الدفاع التركية” على هذا الخبر المتداول، بالقول “نتعامل بحذر مع مزاعم نية الولايات المتحدة سحب قواتها من شمال شرقي سوريا”.

وفي تصريحات نقلتها صحيفة “ديلي صباح” التركية، قال المتحدث باسم الدفاع التركية، زكي أكتورك، إنه “حتى نرى بياناً رسمياً أو تنفيذاً، يجب التعامل بحذر مع هذا النوع من الشائعات”.

لكن ما يلفت الانتباه هو تصريح المبعوث الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتيف، يوم الجمعة الماضي، عندما قال إن سحب الولايات المتحدة لقواتها من العراق سيتبعه بلا شك انسحاب مماثل من سوريا.

وقبله بيوم، الخميس، أعلنت “وزارة الخارجية العراقية” في بيان، التوصل لاتفاق مع أميركا، تضمن صياغة جدول زمني يحدد مدة وجود مستشاري التحالف الدولي في العراق، ومباشرة الخفض التدريجي المدروس لمستشاريه على الأرض العراقية وإنهاء المهمة العسكرية للتحالف ضد “داعش”.

وفي تقرير نشرته صحيفة “نيزافيسيمايا” الروسية، قال إيغور سوبوتين إن مجرد الحديث عن التقارب بين “الإدارة الذاتية” وحكومة دمشق قد يشير إلى استعداد “البنتاغون” لسحب القوات الأميركية من سوريا.

وبحسب التقديرات، فإن إيران تريد أيضاً انسحاب القوات الأميركية من سوريا، وهو ما تسعى إليه جاهدة من خلال دفع ميليشياتها لمهاجمة القواعد الأميركية في كل من سوريا والعراق، بهدف تأجيج الرأي العام وتأليبه وخلق رأي حاد داخل الإدارات الأميركية للضغط على إدارة جو بايدن فيما يتعلق بالانسحاب من سوريا، وطبعاً بغية توسيع مشروعها العدائي إلى مناطق شمال شرق سوريا.

القوات الروسية في شمال شرقي سوريا- “إنترنت”

الخلاصة، يبدو جلياً أن كل هذه الادعاءات ليست سوى نوع من النقاش داخل أروقة واشنطن، لكنه ليس قراراً نهائياً، بل هو مستبعد تماماً على الأقل في الوقت الحاضر، وقد وجدته روسيا وإيران أداة للضغط على إدارة بايدن، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية، بالإدلاء بتصريحات وعبر وسائل إعلامهم لتضخيم هذه الادعاءات. بمعنى آخر، يبدو أن هذا الحديث برمته ليس سوى بدعةٍ روسية إيرانية لإرباك المشهد السوري وتعقيده أكثر مما هو عليه بالفعل، وبالتالي تعزيز هيمنتهم على الجغرافيا السورية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات