الانتهاكات والجرائم التي ارتُكبت في شمالي سوريا، لا سيما في مدينة عفرين ذات الأغلبية الكُردية، يبدو أن ذلك كله سيتم محاسبة الجناة عليه، سواء باستهداف شخصيات بعينها أو جهات ذات ارتباطات وأهداف معينة، على اعتبار أن سجل هؤلاء الجناة أصبح مثقلاً بالتوثيقات عن انتهاكاتهم وجرائمهم لحقوق الإنسان.

وعلى مدار السنوات الفائتة ارتُكبت العديد من التجاوزات والجرائم بحقّ سكان شمالي سوريا ولا سيما الأكراد في عفرين ورأس العين/ سري كانيه، واللافت أن هذه الانتهاكات والاعتداءات العدوانية و”الممنهجة” ما تزال متواصلة، وقد وثّقتها العديد من التقارير الحقوقية والأممية، واتهمت كل من تركيا ووكلائها المحليين (فصائل المعارضة السورية)، بتنفيذها.

وفي تقرير حقوقي جديد بشأن مسؤولية تركيا التي وصفتها “هيومن رايتس ووتش” بأنها “دولة احتلال”، حول الانتهاكات في شمالي سوريا، تتحمل تركيا المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة وجرائم الحرب المحتملة التي يرتكبها عناصر قواتها والجماعات المسلحة التي تدعمها في المناطق التي تحتلها بشمالي سوريا.

تركيا تتحمل مسؤولية الانتهاكات

نحو ذلك، أضافت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية الدولية في تقريرها الذي نُشر اليوم الخميس، أن السكان الكُرد تحمّلوا وطأة الانتهاكات لأنه يُنظر إليهم بسبب علاقاتهم المفترضة مع القوات التي يقودها الأكراد والتي تسيطر على مساحات شاسعة من شمال شرقي سوريا.

مقاتل عربي سوري مدعوم من تركيا يقود جرارا بمقطورة محملة بأشياء منهوبة بعد انتزاع السيطرة على مدينة عفرين شمال غرب سوريا من “وحدات حماية الشعب” الكردية في 18 مارس/آذار 2018. © 2018 بولنت كيليتش/أ ف ب عبر غيتي إمجز

ويوثّق تقرير “’كل شي بقوة السلاح‘: الانتهاكات والإفلات من العقاب في مناطق شمال سوريا التي تحتلها تركيا” الصادر في 75 صفحة عن المنظمة الحقوقية، عمليات الاختطاف والاعتقال التعسفي والاحتجاز غير القانوني والعنف الجنسي والتعذيب من قِبل فصائل مختلفة في تحالف فضفاض من جماعات مسلحة، وهو “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، وكذلك “الشرطة العسكرية”، وهي قوة أنشأتها “الحكومة السورية المؤقتة” والسلطات التركية في 2018، ظاهرياً للحدّ من الانتهاكات.

ووجدت “هيومن رايتس ووتش” أن القوات المسلحة ووكالات المخابرات التركية متورّطة في تنفيذ الانتهاكات والإشراف عليها. كما ووثّقت انتهاكات طالت كلّا من السكن والأراضي والملكية، بما فيها عمليات النهب والسلب الواسعة.

هذا فضلاً عن الاستيلاء على الممتلكات والابتزاز، وفشل محاولات المساءلة في الحدّ من الانتهاكات أو تقديم تعويضات للضحايا.

وفي إطار ذلك، قال آدم كوغل، نائب مديرة قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش”: “ستستمر الانتهاكات الحالية، بما فيها التعذيب والإخفاء القسري ضد الذين يعيشون تحت السلطة التركية في شمال سوريا، ما لم تتحمل تركيا نفسها المسؤولية وتتحرك لوقفها. المسؤولون الأتراك ليسوا مجرد متفرجين على الانتهاكات، بل يتحملون المسؤولية باعتبارهم سلطة الاحتلال، وفي بعض الحالات شاركوا مباشرة في جرائم حرب مفترضة”.

توثيقات أممية ومحلية

في المقابل، أجرت “هيومن رايتس ووتش” مقابلات مع 58 محتجزاً سابقاً وضحايا للعنف الجنسي وأقارب وشهود على الانتهاكات، وممثلين عن منظمات غير حكومية، وصحفيين، ونشطاء، وباحثين.

وتحدث باحثو المنظمة الحقوقية أيضاً مع مصدر مطّلع يتعامل مباشرة مع الشرطة العسكرية، ومصدر سوري كان مقرّباً في السابق من مسؤولي المخابرات التركية الذين كان لديهم إمكانية الوصول والإشراف على سلوك الفصائل المختلفة في عفرين بين تموز/ يوليو 2019 وحزيران/ يونيو 2020، والذي غادر سوريا منذ ذلك الحين.

وأدت العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا منذ 2016 إلى سيطرتها على المنطقة ذات الأغلبية العربية شمال حلب والتي تشمل أعزاز والباب وجرابلس، وعفرين ذات الأغلبية الكُردية سابقاً، ومنطقة ضيقة من الأراضي على طول الحدود الشمالية لسوريا بين مدينتَي تل أبيض ورأس العين/ سري كانيه، حيث يوجد تنوّع إثني.

ومنذ بدء عملية “غصن الزيتون” التي نفذتها تركيا في عفرين عام 2018 و”عملية نبع السلام” في القطاع الممتد بين تل أبيض ورأس العين/ سري كانيه عام 2019، نزح مئات الآلاف من سكان المنطقة من منازلهم. لاحقاً، أقدمت فصائل “الجيش الوطني السوري” على عمليات نهب وسلب واستيلاء على الممتلكات على نطاق واسع. لم يستردّ غالبية المتضررين ممتلكاتهم أو تلقّوا تعويضاً مناسباً.

ووفق شهادات عديدة، تمكن موقع “الحل نت” من الحصول عليها في تقرير سابق من أهالي عفرين ومناطق أخرى تقع تحت قبضة القوات التركية وفصائل “الجيش الوطني السوري”، فإن سيرة العدوان على ممتلكات وثروات المدنيين الكرد لا تخفت أو تهدأ. وفي إحدى الشهادات، والتي نتحفظ على ذكر هوية الأشخاص، توثق ضلوع فصيل “العمشات” عام 2018 بعد عملية “غصن الزيتون” بسرقة منزل عائلة صاحب الشهادة، وبعدها سرقة منزل شخص آخر من العائلة ذاتها بواسطة فصيل أو لواء ما يعرف بـ”الوقاص”. 

رغم إعلان تركيا نيّتها إنشاء “مناطق آمنة” في المناطق الخاضعة لاحتلالها، وأن ذلك يسهّل عودة اللاجئين السوريين من تركيا، إلا أنها لم تضمن سلامة السكان المدنيين ورفاههم، وتتّسم حياة سكان المنطقة البالغ عددهم 1.4 مليون نسمة بغياب القانون وانعدام الأمن.

هيومن رايتس ووتش

ومن بين الشهادات، كان الوضع أكثر مأساوية في إحداها. وذلك في ظل ظروف الأب الثمانيني الذي اضطر للهرب من القصف والتخوف من الاعتقال، ونزح إلى منطقة الشهباء ليجد نفسه أمام مآلات صعبة لا تقل تعقيداً وألماً عن الذي هرب منه. فيقع تحت نفوذ تلك الفصائل ويتعرض للتنكيل والأذى من دون أن يسرد تفاصيل أكثر. وفي شهادة أخيرة لأحد شيوخ الإيزيديين يروي ما تعرض له منزله بعد التهجير من نهب محتوياته وسرقة ممتلكاته ومنها أشجار الزيتون التي قام بزراعتها.

وبمراجعة تقارير عديدة أممية، منها تقرير سابق لـ”الجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا” التابع للأمم المتحدة، وجاء في حوالي 29 صفحة، قد وثق حالات ممنهجة لسرقة ونهب الممتلكات وتهجير الأكراد من منازلهم، فضلاً عن “احتلال مقاتلي الجيش الوطني السوري وعائلاتهم للمنازل بعد فرار المدنيين، وإجبار السكان وأغلبهم من الأكراد على ترك المنازل من خلال التهديد أو الابتزاز والقتل والاختطاف والتعذيب والاحتجاز”. 

وقال التقرير الأممي، إن هناك حالات ابتزاز وعنف جنسي وإرغام المواطنين على دفع ضريبة على المحاصيل الزراعية مقابل البقاء في المنزل. فيما ذكر أن هناك منزل كردي استولى عليه فصيل “الحمزات”، ثم حولوه إلى معهد للدراسات القرآنية تديره منظمة تركية غير حكومية اسمها: “هيئة حقوق الإنسان والحريات والإغاثة الإنسانية”. يضاف لذلك، استخدام القوات البرية التركية منازل أخرى للمدنيين في قرية الداودية لأغراض عسكرية. 

المسألة الفلسطينية و”الأسدية” بسوريا: “العنصر المندس” إذ يغادر مربع البعث

ويبدو أن عملية التغيير الديمغرافي في شمال سوريا بواسطة تركيا يمثل أحد الأهداف التي يمكن الكشف عنها من خلال التكتيكات والتحولات في موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الأزمة السورية، وأن المنطقة العازلة والمتاخمة للحدود التركية السورية تقع ضمن أهداف التغيير الديمغرافي والإدارة الأمنية للملف الكُردي. واستمرار أردوغان في شن هجماته العسكرية البرية على المناطق الكُردية بموافقة روسية ومن الحكومة في دمشق، كشف عن ميل حاد في تغيير استراتيجي للخصائص الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بما يحقق أولويات النظام في أنقرة.

كما أن “التغيير الثقافي والمجتمعي، يكمل الهدف ذاته الذي تحققه الوسائل القمعية مثل القتل أو الاعتقال العشوائي وكذا التهجير وتوطين فئات أخرى. لكن رغم محاولات النفي التركية بشأن عدم وجود نوايا بخصوص التغيير الديمغرافي، وشحّ المعلومات أحياناً على خلفية وسائل الجانب التركي، ووكلائه، في إخفاء وتزوير الحقائق كما التاريخ، إلا أن نظرة سريعة على التغييرات العملية، والسياسات التي تجري ميدانياً، أو في البنية التحتية من أنماط ووسائل الإنتاج، والتركيبة الطبقية والسكانية، فضلاً عن البنية المجتمعية والثقافية، بما فيها من فنون ولغة وهوية وتراث وحتى الملبس، تؤكد رغبة في إحداث تغيير ديمغرافي حتى لو كان بعيد المدى”. كما لا يمكن النظر إلى بطاقات الهوية الجديدة التي قامت بها فصائل “الجيش الوطني السوري” والحكومة المؤقتة المقيمة في تركيا بمعزل عن هذا السياق الذي يؤكد النتيجة ذاتها.

المساءلة القانونية بعيدة المنال!

تقول المنظمة الحقوقية، إن تركيا تمارس السيطرة وتُشرف مباشرة على “الجيش الوطني السوري” بواسطة قواتها المسلحة وأجهزة استخباراتها، وتزوّده بالأسلحة والرواتب والتدريب والدعم اللوجستي، فضلاً عن السيطرة الإدارية على المناطق المحتلة انطلاقاً من الولايات التركية المتاخمة لسوريا.

تحمّل الأكراد بأغلبية ساحقة وطأة الانتهاكات التركية وفصائلها المحلية- “الصورة من الإنترنت”

وعلى الرغم من إعلان الحكومة التركية نيّتها إنشاء “مناطق آمنة” في المناطق الخاضعة لاحتلالها، وأن هذه المناطق تُسهّل عودة اللاجئين السوريين من تركيا، إلا أنها لم تضمن سلامة السكان المدنيين ورفاههم، وتتّسم حياة سكان المنطقة البالغ عددهم 1.4 مليون نسمة بغياب القانون وانعدام الأمن.

وتدعيماً لذلك، قال أحد السكان السابقين الذي عاش تحت حكم “الجيش الوطني السوري” لأقل من ثلاث سنوات بقليل: “كل شي بقوة السلاح”، وفق “هيومن رايتس ووتش”.

وقد ارتكبت فصائل ما يُعرف بـ”الجيش الوطني السوري” و”الشرطة العسكرية” الاعتقال والاحتجاز التعسفيَّين، والإخفاء القسري، والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة، وأُخضع عشرات الأشخاص لمحاكمات عسكرية جائرة في ظل إفلاتٍ من العقاب.

وأبلغت نساء كُرديات محتجزات عن تعرضهنّ للعنف الجنسي، بما فيه الاغتصاب، واحتُجز أطفالُ لا تتجاوز أعمارهم ستة أشهر مع أمهاتهم.

وفي الحالات التي وثقتها “هيومن رايتس ووتش”، و”لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا” التابعة للأمم المتحدة، وغيرها من منظمات حقوق الإنسان، تحمّل الأكراد بأغلبية ساحقة وطأة هذه الانتهاكات. كما استُهدف العرب وغيرهم من الأشخاص الذين يُعتقد أن لهم علاقات وثيقة مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).

كما وارتكبت فصائل من “الجيش الوطني السوري” و”الشرطة العسكرية” المدعومَين من تركيا انتهاكات في مراكز الاحتجاز التي يتواجد فيها أحياناً مسؤولون عسكريون ومخابرات أتراك، وفقاً لمحتجزين سابقين قالوا أيضاً إن المسؤولين الأتراك شاركوا أحياناً مباشرة في تعذيبهم وسوء معاملتهم.

ورغم كل ذلك، تقول المنظمة الحقوقية، إن المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وجرائم الحرب المحتملة هناك، لا تزال بعيدة المنال. وحقّقت “هيومن رايتس ووتش” في حالات أربعة أشخاص رفيعي المستوى زُعم تورّطهم في انتهاكات جسيمة. لم تتم محاكمة أيّ منهم، ويشغل ثلاثة منهم حالياً مناصب رفيعة في “الجيش الوطني السوري”، بحسب مصادر مطلعة.

“الاحتلال التركي لأجزاء من شمال سوريا سهّل خلق مناخٍ يغيب فيه القانون وتسوده الانتهاكات والإفلات من العقاب، وذلك أبعد ما يكون عن ’منطقة آمنة‘”.

 آدم كوغل، نائب مديرة قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش”

وحاولت “هيومن رايتس ووتش” إشراك تركيا في حوار حول هذه الأمور، وشاركت نتائج بحث تفصيلية في رسالة أرسلتها مرتَين عبر البريد الإلكتروني إلى وزير الخارجية هاكان فيدان في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 و4 كانون الثاني/ يناير 2024، لكن الرسالة قوبلت بالصمت.

ولم تستلم أي ردّ على رسالة إلى وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 و8 كانون الثاني/ يناير 2024، للاستفسار، من بين أمور أخرى، عن أي إجراءات قضائية تتعلق بأربع حالات وفاة أثناء الاحتجاز تم الإبلاغ عنها علناً.

لكن يبدو أن الجرائم التي ارتكبت وما زالت مستمرة بحق سكان عفرين شمال غربي سوريا، لن تمر مرور الكرام أو تصبح في طي النسيان. فبعد أن رفع كل من “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR)، وسوريون من أجل الحقيقة والعدالة (STJ)”، وشركاؤهما شكوى جنائية إلى مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني للتحقيق في الجرائم الدولية في عفرين بغية التصدي للجرائم التي ترتكب بعفرين، أصدر أعضاء بالبرلمان الأوروبي بياناً بشأن الانتهاكات التي تحدث بحق أهالي عفرين على يد فصائل ”الجيش الوطني السوري”، مطالبين محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم والانتهاكات، والتي حتماً ستؤدي إلى إلى محاكمة جنائية سواء في الوقت القريب أو مستقبلاً.

ويرى الحقوقيون أن مثل هذه الدعاوى تفتح الطريق أمام كافة الدول الغربية، لملاحقة مرتكبي الجرائم والانتهاكات في سوريا، سواء في مناطق فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا أو ضد الآلة القمعية التي مارستها الحكومة السورية ضد الشعب السوري على مدار السنوات السابقة.

عناصر من فصائل ما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري” وهم يحطمون تمثال في مدينة عفرين بعد استيلاء تركيا عليها عبر عملية “غصن الزيتون” 2018- “إنترنت”

كما تعد هذه الشكاوى الجنائية خطوة لتضييق الخناق على المتّهمين بارتكاب جرائم حرب في سوريا، ولا سيما في عفرين، نظراً لأن العديد من التقارير الأممية أدانوا ووثقوا الانتهاكات والتجاوزات التي حصلت في عفرين على يد ما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري” المدعومة من أنقرة.

في العموم، تقول “هيومن رايتس ووتش”، إن تركيا ملزمة بإعادة النظام العام والسلامة، وحماية السكان، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وتقديم التعويضات، وضمان حقوق أصحاب الممتلكات والعائدين، وفق المنظمة الحقوقية.

وقال كوغل: “الاحتلال التركي لأجزاء من شمال سوريا سهّل خلق مناخٍ يغيب فيه القانون وتسوده الانتهاكات والإفلات من العقاب، وذلك أبعد ما يكون عن ’منطقة آمنة‘”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات