تعيش سوريا منذ سنوات حالة من الفوضى الأمنية في معظم مدى وقرى البلاد، وقد فشلت دمشق رغم استعادتها السيطرة على مدن بأكملها من قبضة المعارضة، في إعادة الأمن والحياة إلى هذه المدن، في ظل غياب حلّ سياسي واضح وشامل.

للفوضى الأمنية أسباب متعددة، لكن يجمع المراقبون على أن أهمّها يتمثل في تحوّل المظاهرات الشعبية إلى حِراك مسلّح نتيجة إمعان السلطة في قمع الحراك السلمي، لتضحى حربا بين السلطة والمعارضة، التي رفعت السلاح منذ نهاية العام 2011 تقريبا، وخلف ذلك الصراع مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين والنازحين واللاجئين، ودمّرت البنية التحتية والخدمات الأساسية والمؤسسات الحكومية والمجتمعية.

بجانب التدخل الخارجي من قِبل الدول الإقليمية والدولية الداعمة لدمشق أو المعارضة، والتي تسعى لتحقيق مصالحها وأجندتها في المنطقة، وتزيد من تعقيد وتشظّي الصراع، وتقوّض جهود الحل السياسي والمصالحة الوطنية، وفي مقدمتها روسيا وإيران التي دعمت السلطة في حربها، وتركيا التي دعمت المعارضة.

انتشار الجماعات الإرهابية وانهيار الاقتصاد

أدت تلك العوامل إلى ظهور وانتشار الجماعات الإرهابية والمتطرفة، مثل تنظيم “داعش” و”جبهة النصرة”، التي استغلت الفراغ الأمني والسياسي والاجتماعي لتوسيع نفوذها وسيطرتها على مناطق واسعة من الأراضي السورية، وتنفيذ هجمات وعمليات إرهابية ضد المدنيين والقوات الحكومية والمعارضة ومناطق شمال شرقي سوريا، ما أدى إلى تشكّل التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب في العام 2014.

لتتصاعد التوترات والصراعات بين القوى الفاعلة المحلية والدولية في سوريا، مثل الحكومة والمعارضة و”قوات سوريا الديمقراطية”، وتركيا وروسيا والولايات المتحدة وإيران، وهي عوامل جعلت من سوريا ساحة حرب واسعة النطاق ومفتوحة، تعمل فيها مختلف الأطراف على إيصال رسائلها للأطراف الأخرى، حتى إن كان محور صراعهما في منطقة أخرى من العالم.

كما أودى كلّ ذلك بشكل آلي إلى استمرار الأزمة الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية في سوريا، والتي أثّرت سلبا على حياة الملايين من السوريين داخل البلاد وخارجها، وزادت من معاناتهم ، فعلى الصعيد الاقتصادي مثلاً، انهارت الليرة من سعر 48 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد في بدايات العام 2011، إلى نحو 14 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، وهو ما يُمثّل انهيارا اقتصاديا بنحو 290 ضعفا.

غياب الحل السياسي

والأكيد أن كل مظاهر العنف سوف تبقى مستمرة في سوريا، ما دامت البلاد غارقة في دوامات التسويف، حيث تؤدي عوامل عدة إلى غياب الحل السياسي، لعل أهمها الاختلاف الكبير بين مواقف الأطراف السورية المتصارعة، وعدم وجود ثقة أو توافق بينها على رؤية مشتركة لمستقبل سوريا، أو على آلية انتقالية تضمن حقوق ومصالح جميع الفئات والمكوّنات السورية.

تصرّ المعارضة على أن الأولوية هي لـ”إسقاط النظام”، ومن ثم الاتفاق على شكل حكم وإدارة البلاد، وهو ما يبدو “ضربا من الضحك على الذقون بالنسبة إلى أطراف أخرى كـ مجلس سوريا الديمقراطية، الذراع السياسي لـ “قوات سوريا الديمقراطية”.

أيضا، يمثل التدخل الخارجي المباشر أو غير المباشر من قِبل الدول الإقليمية والدولية الرئيسية في الصراع السوري، والذي يعكس تنافسها وصراعها على المصالح والنفوذ في المنطقة، ويزيد من تعقيد وتشظي الصراع، عائقا رئيسيا أمام جهود الحل السياسي، بل يعتقد البعض بأن الصراع لم يعد سوريا، بل بات بين دول تتصارع على الكعكة السورية.

هذا إضافة إلى عدم وجود ضغط دولي كافٍ أو موحّد على الأطراف السورية وحلفائها للجلوس إلى طاولة المفاوضات والتّوصل إلى حلّ سياسي شامل وعادل ودائم، يحترم السيادة السورية، ويستند إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2254 وبيان جنيف 2012.

لا آفاق قريبة للحل

لجملة الأسباب والعوامل تلك، قال مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا، جير بيدرسن، في نهاية أيلول/سبتمبر الماضي، أمام مجلس الأمن الدولي، إن الحل الشامل للصراع السوري “مازال بعيد المنال”، مشيرا إلى انعدام الثقة وتباعد المواقف، مضيفا أن “الفجوات في الإرادة السياسية، وتباعد المواقف الجوهرية للأطراف، وانعدام الثقة العميق، والمناخ الدولي، كلّها عوامل تساهم في ذلك الجمود”.

كما نبّه بيدرسون إلى أن معاناة السوريين وشعورهم باليأس يزدادان عمقا، وأضاف، أنه “لا يمكننا أن نقبل الوضع الراهن ببساطة لأنه سوف يزداد سوءا، ويمكن أن ينهار، بما سيؤدي إلى خلق تحديات جديدة”، كما أكد أن هناك حاجة إلى أن تبدأ العملية السياسية في “تحقيق نتائج على أرض الواقع وإعطاء الأمل.

كذلك تطرق بيدرسن إلى بعض الحوادث التي تهدد الهدوء النسبي السائد منذ عام 2020، الأمر الذي يُعد أحد شواهد الإحباط الشعبي في البلاد، أيضا حثّ مبعوث الأمم المتحدة، الأطراف السورية وجميع الجهات الفاعلة الدولية الرئيسية، على “تقبّل التسوية” بشكل جوهري أكثر مما يقوم به الكثيرون حتى الآن، مؤكدا أن هذا “سيجعل من الممكن العمل بالتوازي وبشكل عاجل لعكس الاتجاهات الاقتصادية والأمنية والسياسية السلبية، وإعادة إطلاق عملية سياسية يقودها ويمتلكها السوريون على النحو الذي يدعو إليه قرار مجلس الأمن 2254”.

خيارات السلطة للشعب السوري

تعقيبا على ما ذكره بيدرسون، حول غياب الحل السياسي في سوريا، واستمرار الفوضى والصراع والانهيار الاقتصادي، قال الكاتب السوري المعارض علي أمين سويد لـ “الحل نت”: “عندما خرج السوريون في مظاهرات سلمية ضد بشار الأسد في 2011، تطالبه بالتنحي عن السلطة، لترك لشعب السوري يتخذ قراراته بحرية وديمقراطية، كان ذلك الحل السياسي الوحيد المتاح في تاريخ سوريا الحديث، إلا أن السلطة رفضته، وردّت عليه بتوجيه سلاحه، وسلاح داعش، والقاعدة، وتركيا، وسلاح إيران، وروسيا، وحزب الله، والفصائل الفلسطينية”.

وتابع: “منذ ذلك الحين، قرّرت السلطة في دمشق وضع الشعب السوري أمام خيارين لا ثالث لهما، إما القبول به والعودة إلى ما قبل 2011 وبشروط الأسد، أو استمرار القتل، والتهجير، وتمزيق الوطن، وبيعه لروسيا، وإيران، وتركيا، وازدهار الفساد والانهيار الاقتصادي حتى ولو أدى الأمر إلى محو سوريا من خريطة المنطقة”.

قد يهمك: الوسيط بشار الأسد.. ما دلالات التعاون بين “فاغنر” و“حزب الله”

كما أكد الكاتب المعارض على أن “السلطة السورية ترفض أي حلّ ينتقص من سلطة الأسد، حتى ولو بمقدار ربع بالمئة، فقرارها كانت قد اتخذته منذ أن استولى الرئيس السابق حافظ الأسد على السلطة حتى هذه اللحظة، واستمرار الوضع على ما هو عليه، يخدم السلطة وأدواتها، لأنه يؤمّن استمراره كنظام حاكم مستفرد بمقدّرات سوريا، يفعل بها ما يشاء في ظل غياب أي قانون غير قانون الغابة بالمعنى الحرفي للمصطلح”.

أسباب التي تمنع الحل السياسي ؟

في إجابته لـ “الحل نت” على هذا الاستفسار، قال سويد إن “الحل السياسي المطروح حاليا، هو تطبيق القرار الأممي 2254 المتضمن بنود جنيف 1، والقاضية بتشكيل هيئة حكم انتقالي، تجمع المعارضة وقيادات من دمشق، والتي من المفترض أيضا ألا يكون الأسد جزءاً منها”.

وفق الكاتب السياسي فإن هناك ثلاثة أسباب رئيسية، تمنع دفع العملية السياسية في سوريا، وتتمثل أولاً بغياب غياب طرف سوري معارض وطني يمثل الشعب السوري شرعيا، ليقوم بالوقوف في وجه دمشق ومقارعتها سياسيا، وثانيا غياب وسائل الضغط الميدانية على السلطة السورية، لتدفعها إلى لقبول بالحل السياسي، كذلك فإن غياب الإرادة الدولية الحقيقية لمحاسبة مرتكبي الجرائم في سوريا، هو من أبرز عدم الّتقدم في الحل السياسي في سوريا

هل للأطراف المتدخلة مصلحة بالحرب؟

“بكل تأكيد، فمصلحة روسيا وإيران وتركيا تقتضي استمرار الوضع حسب رغبة دمشق”، شدد الكاتب المُعارض لـ “الحل نت”، وتابع: “فرغبات دمشق تحقق مصالح تلك الدول، والتي من أجل تحقيقها، تنتزع سيادة الدولة السورية وتمزّق وحدتها الترابية”.

هنا أوضح سويد “استمرار الأسد في السلطة، يؤمّن لروسيا استمرار هيمنتها على مقدّرات سوريا، وسيطرتها على الموانئ، واستمرار قواعدها العسكرية دون أي تهديد”، كما أن “استمرار الوضع على هو عليه يؤمّن لتركيا تتريك الشمال أو تحويله إلى قبرص تركية بالتدريج، وأيضا يؤمن زيادة مساحة الإمبراطورية الإيرانية، وكل ذلك على حساب مصالح الشعب السوري”.

أصبح الحل السياسي ملاذاً لمَن يتهرب من مسؤولياته الأخلاقية إقليميا ودوليا إزاء الأزمة الإنسانية في سوريا، فهذا الحل “السياسي” الذي تطالب به الأطراف الإقليمية والدولية، عبارة عن عربة بعجلات مربعة طالما بقي القرار 2254 بشكله الراهن، ولن يكون فاعلا حتى يكسب الصفة الإلزامية، كأن يُفرض تحت الفصل السابع، أو يتم تنفيذه بالقوة بطريقة ما، ويبدو هذا السيناريو مستبعد في المرحلة الراهنة، سوى ذلك فإن الأسد سيبقى في السلطة، وستواصل سوريا نزيفها على المستوى الأمني والاقتصادي وحتى على مستوى الحضور السياسي في المنطقة.

لذلك، ولأن الحل السياسي غائب، فإن دوامة العنف من غير المرجح أن تنتهي، كما لا يمكن التنبؤ متى قد تنتهي الحرب في سوريا، أو ما هي السيناريوهات المحتملة لمستقبلها، إذ قد تستمر لسنوات أخرى، وقد تشهد تصعيدا أو تنتهي باتفاق سلام، أو بانهيار السلطة أو تخلّي تركيا عن المعارضة والجماعات الراديكالية، فيما يتمثل السيناريو الأسوأ بتقسيم البلاد وتغيير حدودها، وهي كلّها احتمالات واردة وموجودة، ما دامت القوى السورية مرتهنة لقوى إقليمية ودولية، وغير قادرة على الوصول لأرضية وطنية مشتركة للبناء عليها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات