جاء خطاب نائب الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم الأخير ليعكس عدة أمور، فرضتها النتائج التي طالت الحزب المدعوم من إيران، حيث كان قاسم بخلاف سابقه حسن نصرالله، لا يملك بلاغة الخطاب السياسي أو حتى الأيديولوجي، كما يفتقد إلى أي معايير قوة سياسية أو تفاوضية أو ميدانية، بعد كل الاستهداف المتسببة في تقويض نفوذه وتصفية جزء لا يستهان به من البنية التحتية العسكرية للتنظيم.

وبالتالي، حمل الخطاب رسائل ارتكزت دلالتها على محاولة الذهاب إلى البيئة الحاضنة وبعث قدرتها على التماسك، فضلا عن إشارات أخرى دلالية تتعلق برغبته في استكمال وإنجاح التفاوض الذي يقوده رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري لبدء العملية الدبلوماسية ووقف إطلاق النار، وكل ذلك بالتزامن مع التحركات الأخيرة  للسياسة الإيرانية عبر الزيارات الخارجية التي أجراها وزير الخارجية عباس عراقجي ورئيس مجلس النواب محمد باقر قاليباف للبنان.

نعيم قاسم والدخول في شرعية جديدة

سعى نعيم قاسم في خطابه الذي تجاوز قليلا نصف الساعة العمل على رفع الروح المعنوية لحاضنته الشيعية في لبنان ومغازلة المتعاطفين مع توجهاته بعد الهجوم الأخير الذي نفذه الحزب على قاعدة عسكرية في بنيامينا. 

نائب الأمين العالم لـحزب الله”_ نعيم قاسم خلال كلمته الثلاثاء- “أ.ف.ب”

غير أن الخطاب كان به التباسات وغموض بينما يفتقد إلى معنى الخطاب التعبوي والسياسي، وبات يقف في مسافة بينية تجعل اللغة هشة ضعيفة غير قادرة على تحقيق المعنى المطلوب، رغم ما عرج عليه من رسائل سياسية التي تتعلق بالوضع الداخلي في لبنان على مستوى استقرار نظام الحكم وملء الفراغ الرئاسي، وآخر ارتبط بمسار وقف إطلاق النار كما أنه آثار الغموض حول مصير مبدأ “وحدة الساحات”. وعلى ما يبدو أن الخطاب حمل فوضى وارتباك شديدين نتيجة ما يمر به الحزب، وقد انعكس في ظهور نعيم قاسم والذي وقع تحت وطأة الارتباك ولملمة الفرص الضائعة.

إذ لم يكن خطاب نعيم قاسم بعيدا عن حالة التيه السياسي الذي غرق فيه “حزب الله” خلال السنوات الأخيرة، وذلك على النحو الذي ذهب فيه بالكلية داخل التوجه الاستراتيجي الإيراني، وبالمقابل ابتعد تماما عن المصالح الخاصة ببلاده ومواطنيه. فيما تدرك طهران تماما أن وجودها السياسي والميداني داخل لبنان وسوريا يحملان لها نفوذا يتعلق بالجغرافيا السياسية التي تضمن لها حضورا فاعلا نحو شرق البحر المتوسط، وبعيدا عن حصارها داخل منطقة الخليج العربي، مما يجعل تحركها السياسي من أجل عدم فقدان هذا الحضور مسألة شديدة التأثير والأهمية في الذهنية الإيرانية.

إلى ذلك حرص نعيم قاسم في خطابه، أن يبرز مسار الوضع الداخلي في لبنان من خلال الوحدة التكتيكية مع “حركة أمل” وزعيمها رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي وصفه بـ “الأخ الأكبر”، وذلك لضمان حماية سياسية والدخول في شرعية جديدة التي توفرها مظلة الطرف الثاني في “الثنائي الشيعي”. بيد أن قاسم في حديثه ربط بين الدبلوماسية وتحركاتها بقرار وقف إطلاق النار.

عدة دلالات

لا شك أن أي عمل عسكري محدود أو شامل، يرتبط بأفق سياسي منظور وبعيد المدى، ومن خلال ذلك ينبغي فهم التطورات الأخيرة التي بدت على مسرح الأحداث ومدى ارتباطها بدلالة ظهور نعيم قاسم في هذه اللحظة الحرجة من عمر النظام الإيراني. حيث تدرك طهران أن إسرائيل لن تسمح لمشروعها السياسي أن يمتد في جغرافيا الشرق الأوسط، وأن تخرج بنفوذها نحو البحر المتوسط من خلال لبنان وسوريا، إلى البحر الأحمر عبر وكيلها باليمن جماعة “الحوثي”، فضلا عن ارتباطها الوظيفي بالفصائل الفلسطينية مما يجعلها تتمم حزامها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، الأمر الذي يدفعها نحو استثمار كافة أوراقها السياسية ورهن وحشد جماعاتها الوظيفية لعدم خسارة ما حققته خلال العقد الأخير، وكذا توظيف دلالة الزمن السياسي الدولي بغية تخفيف الرد الإسرائيلي ومجيئه في حدود الضربة التي يمكن استيعابها. 

غير أن ذلك قد لا يجد قبولا داخل الذهنية الاستراتيجية لتل أبيب، والتي ترى حتمية تقويض الأذرع الإيرانية التي تحاصرها في الشرق الأوسط عبر نظرية الردع المؤلم التي تؤمن أنها الجسر الحقيقي لأي حل سياسي ناجز وفاعل لصالحها.

ذهب قاسم بعيدا عن معادلات الصراع وقواعد الاشتباك، ولكنه اقترب أكثر من فرضية حشد ما تبقى له من سلاح وذخيرة وعتاد بشري داخل معادلات التفكير الإيراني حين أعلن عن حقه باستهداف إسرائيل.

إذاً، من الصعوبة بمكان متابعة وفهم خطاب نعيم قاسم، سوى من خلال وضع “حزب الله” مباشرة، تحت قيادة “بيت المرشد” ومؤسسته الأهم “الحرس الثوري” الإيراني. يقينا كان “حزب الله” كذلك أو قريبا من ذلك خلال عهد حسن نصرالله لكن اللغة الخطابية والأفق الشخصي “الكاريزما” للأخير، كانت تسمح له بمساحة حركة، لا سيما في خطابه السياسي وأفق الحركة بينما خطاب قاسم تمت صياغته بالكلية من داخل طهران، وصوب مصالحها، واتساقا مع تحركاتها الدبلوماسية خلال الأيام الأخيرة.

في سياق مرتبط وله دلالة حرص نعيم قاسم على توجيه بعض الكلمات للداخل اللبناني وجمهور الحزب، خاصة حين قال إن “بيئة المقاومة متماسكة”، وإلى النازحين بقوله: “ترون إنجازاتنا الكبيرة، نحن ثابتون وسننتصر، وأنتم بنزوحكم تدفعون ثمنا مشابها للثمن الذي تدفعه المقاومة”، وفق “الشرق الأوسط“.

لم يكن حديث نعيم قاسم أيضا عن مسار عمل الحركة وإيران داخل الوضع في غزة، سوى إفك سياسي تدركه البصيرة ويصل للأفهام بسهولة، كون مآلات العمل السياسي الحقيقي في الشرق الأوسط لن يكتب لها الاستقرار دون فك الارتباط الحتمي، وإنهاء المشاريع الفصائلية الميلشياوية لإيران بالدرجة التي تهدد الأمن الإقليمي والدولي في الجغرافيا السورية واليمنية واللبنانية، فضلا عن أهمية ذلك في العراق مما يسمح ببيئة سياسية تتحرك فيها الرؤية الواقعية.

رئيس مجلس النواب اللبناني ورئيس “حركة أمل” نبيه بري ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي- “أ.ف.ب”

لم يكن نعيم قاسم غافلا وهو يضع في خطابه الثالث، منذ مقتل حسن نصرالله جملة من المضامين، جميعها يصب في خانة واحدة وهي دعم إيران في لحظة تكتيكية هامة، بينما تترقب منسوب وعمق الرد الإسرائيلي على هجمات مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الجاري. لذا بدا قاسم يقول إن “حزب الله تحول الآن من حالة الإسناد إلى خانة الحرب”، الأمر الذي بدأ وفق ما يقول مع عملية تفجيرات أجهزة النداء “البيجر”، لكن هذه الإشارة مراوغة سياسية، فواقع الأمر وحقيقته يكشف عن ارتباط كافة التطورات بالحالة الميدانية التي تخوضها طهران.

حشد ما تبقى من سلاح وعتاد بشري

ذهب قاسم بعيدا عن معادلات الصراع وقواعد الاشتباك، ولكنه اقترب أكثر من فرضية حشد ما تبقى له من سلاح وذخيرة وعتاد بشري داخل معادلات التفكير الإيراني حين أعلن عن حقه باستهداف إسرائيل، وأن الحزب له الحق باستهداف أي نقطة داخل الجانب الإسرائيلي. 

ويتجلى ذلك الطرح مع صياغة سيناريوهات المرحلة المقبلة الحرب أو وقف إطلاق النار، وأن استمرار الأولى لا يعني سوى المضي في قصف المستوطنات، مما يعني الضغط على تل أبيب فيما يتعلق بهدف إعادة سكان الشمال وذلك أيضا يدعم غير مرة طهران. وتلح على طهران رغبة ضرورية متمثلة في سعيها للحفاظ على “حزب الله” من الانهيار الكامل والتفكك جراء الضربات التي تلقتها منذ منتصف شهر أيلول/ سبتمبر الفائت. ولا يمكن تصور تمرير كل هذه المزاعم التعبوية من دون أن يشدد قاسم في التعبير عن “قوة الحزب” و “استعادة العافية” و”توفر البدائل”.

في هذا السياق يشير الكاتب اللبناني حنا صالح بقوله إلى أن “نعيم قاسم لم يعتذر من اللبنانيين عن خطيئة استدراج العدو في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي 2023، والتسبب بكل هذا القتل والخراب العميم والتهجير الأشد خطورة، ووضع لبنان أمام أخطر تحدٍ وجودي”.

يتابع حنا صالح تصريحاته لـ “الحل نت” أن نعيم قاسم ذهب في الإنكار إلى قمة  الذروة حين أعاد الربط مع غزة، مجوفا كل ما قيل عن تفويض سياسي لبري وبقايا السلطة، وقال إن “المقاومة لن تهزم والجيش الإسرائيلي مهزوم، وحزب الله باق”.

يستنكر الكاتب الكبير أن نعيم قاسم عرض على الإسرائيليين وقف النار، لكنه أدار الظهر لكل اللبنانيين معلنا “المضي في الحرب والتصعيد العسكري” في تجاهل مطلق للمآسي المنتشرة على كل خريطة الوطن وأبرز عناوينها وضع مقلق يمر به نحو مليون ونصف المليون مهجر قسرا.

هكذا وضع “حزب الله” ثنائي السلطة في الزاوية، ولم يعد ينفع الكلام الخشبي الذي يمتهنه بري ونجيب ميقاتي، رئيس الوزراء اللبناني، وهما يعلمان علم اليقين، أن الخطاب الثالث لنعيم قاسم كلام “أعجمي” تُلي بالعربية، ويؤكد صالح أن “الحرس الثوري الذي وضع اليد على حزب الله، ماضٍ في المعركة بوهم أن رشقات صاروخية ومُسيّرات وعبوات ستحد مما تخطط له تل أبيب من عمل عسكري كبير ضد إيران”.

خطاب نعيم قاسم جاء بموازاة المصالح الإيرانية كون الحزب جزءا رئيسيا من المشروع الإيراني وصيغة هامة من خطاب طهران السياسية.

بالتأكيد ووفقا للمصدر ذاته “يعلم نجيب ميقاتي ونبيه بري، وتعلم الطبقة السياسية الساقطة سياسيا وأخلاقيا، أن ما أبلغه المبعوث الأريكي هوكشتين إلى ميقاتي من أن على لبنان أن ينسى عرض الحل الديبلوماسي الذي حمله إلى بيروت في شهر حزيران/ يونيو الفائت، مما يعني أن الحرب على الأذرع الإيرانية متواصلة وممتدة “.

في الوقت ذاته، تناور بقايا السلطة، وتستهين بالخطر، وترفض بتعنت إحياء البرلمان اللبناني، أو إطلاق عملية إعادة تشكيل السلطة، بتحديد سياسات مختلفة وانتخاب رئيس للجمهورية لتمكين تشكيل حكومة إنقاذ وطني التي تؤكد على استعادة السيادة واتخاذ القرار، ويستمع إليها العالم، حتى يتم لجم الهجمات على لبنان ولا يعود مصير البلاد مرهون بقرار من “الحرس الثوري” الإيراني، ومن ثم تكف طهران عن خوض حروبها بدماء اللبنانيين.

خطاب لصالح إيران

يختتم الكاتب اللبناني، حنا صالح، حديث بالقول: “إن خطاب نعيم قاسم ترك أثرا سلبيا واسعا في لبنان وبين الجنوبيين خاصة”.

إلى ذلك أشار الباحث في الشأن الإيراني حسن راضي إلى أن خطاب نعيم قاسم جاء بموازاة المصالح الإيرانية كون الحزب جزءا رئيسيا من المشروع الإيراني وصيغة هامة من خطاب طهران السياسية.

وينوّه حسن راضي في تصريحاته لـ “الحل نت” إلى أن كل ما تريد طهران إيصاله من خلال “حزب الله”، يقوم به الأخير طواعية عبر عمليات عسكرية أو تصريحات أو خطابات متلفزة.

عائلة نازحة تفترش كورنيش عين المريسة في بيروت- “أ.ف.ب”

ولذلك ينبغي قراءة الخطاب الأخير لنعيم قاسم والمناورات التكتيكية بداخله من خلال التهديد الذي تعيشه طهران حاليا وتحسين شروط التفاوض معها وكذا الأفق المنظور لـ”حزب الله” في لبنان سواء في المرحلة الحالية أو ترتيب الوضع السياسي لاحقا والدور المنوط لها في اليوم التالي للحرب.

أيضا نلاحظ أن نعيم قاسم للمرة الثانية يطالب بوقف إطلاق النار وهذا جانب تكتيكي في الخطاب يأتي في نقطة تالية لتخفيف الضغط على إيران وما تواجهه في هذه المرحلة. ويرى راضي الباحث في الشأن الإيراني أن ثمة علاقة عكسية مقصودة حاليا في مسار إيران و”حزب الله” بحيث كلما زاد الضغط على طهران، كلما تراجع الحزب اللبناني وبدا أكثر مرونة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات