يغلبُها الشجَن.. عن تجسيد الأم في الأغنية العراقية

يغلبُها الشجَن.. عن تجسيد الأم في الأغنية العراقية

“لم يكن بوسعِ الله أن يكون في كلّ مكانٍ، فخلقَ الأمهات”.

هي مقولة لأحد قياديي الثورة الإيطالية في القرن التاسع عشر، جوزيبي غاريبالدي. وهي خير ما نبدأ به تقريرنا الخاص بعيد الأم. وهو أحد التقارير الستة التي عمل عليها موقع “الحل نت” لتغطية هذه المناسبة، التي تحتفل بها دول عدة حول العالم في تواريخ مختلفة.

يصادف 21 آذار/ مارس من كل عام، عيد الأم، وتحتفل معظم البلدان به، ومنها العراق، لكن في هذه المقالة سنبتعد عن طقوس الاحتفال في هذا اليوم، ونتجه لزاوية أخرى تخصها أيضا.

للأم مكانة لا حدود لها، وعند كثير من العراقيين هي الأم والأب، خاصة منذ 4 عقود وإلى اليوم، حيث بدأت الحروب التي التحق بها عشرات آاف الآباء وراح ضحيتها الآلاف منذ الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980 وإلى حرب “داعش” الأخيرة.

إضافة إلى الحروب، فإن فقد الأم يخلّف آلاما لا توصف عند من تتركهم الأم وترحل إلى مثواها الأخير، خاصة إن رحلت والأبناء والبنات في عمر الشباب، فيتذكرونها بالشعر والأغنيات.

ولمكانتها تلك، تجسّدت الأم العراقية في الكثير من الأبيات والأغنيات عنهن، حتى لا تكاد تجدا شاعرا عراقيا لم يكتب قصيدة عن صبر الأم العراقية وقوتها وصلابتها وعاطفتها.

عشرات القصائد الشعرية تحولت إلى أغاني عن الأم العراقية، لكن الذائقة السمعية العراقية، تحتفظ وتعشق 3 أغنيات تعتبرها هي الوحيدة التي تعبر عن الأم العراقية.

تلك الأغنيات تعود للفنان الكبير سعدون جابر، وللفنانتين الراحلتين وحيدة خليل وزهور حسين، وتلك الأغنيات تحمل من الشجن الكثير، حتى أنه لا يمكن لعراقي وعراقية سماعها دون أن يبكي وتبكي.

قصة “أمي يا أم الوفا”

أغنية سعدون جابر حملت اسم “يا أمي يا أم الوفا”، بينما جاءت أغنية وحيدة خليل تحت عنوان “اليّ يحفظج ربي يا يُمّه”، فيما حملت أغنية زهور حسين اسم “غريبة من بعد عينچ يا يُمّه”.

يقول سعدون جابر عن قصة أغنيته، إنها تعود لإحدى الليالي عندما كان ذاهبا برفقة الشاعر كريم العراقي لحضور مباراة في ملعب الشعب في بغداد، وفي الطريق لفت انتباهه أحد التماثيل من عمل النحات محمد غني حكمت.

يعود التمثال لامرأة عراقية ترتدي عباءتها، تضم بيدها اليسرى طفلها الرضيع على صدرها وملتفتة على طفلها الآخر تجره بيدها، مصورا ارتباكها بطفليها وقد هبّت ريح قوية، فطارت عباءتها.

في تلك الأثناء نظر سعدون جابر إلى كريم فوجده يبكي، ولمّا سأله عن السبب أجابه بأنه لم ير والدته منذ 6 أشهر، فرد عليه سعدون: أنت قضيتك تهون. أنت عندك والدة بس أنا ما عندي والدة”، وتابعا سيرهما إلى الملعب.

أثناء المباراة انشغل سعدون بمتابعتها بينما كان كريم يكتب، وبعد انتهاء المباراة ذهب سعدون إلى عجلته وقبل أن يركبها، جاءه كريم وقال له: “قف واقرأ”، وكانت كلمات أغنية “يا أمي يا أم الوفا”.

فيما يخص أغنية وحيدة خليل، فقصتها باختصار، هي تعبير عن وفاء المطربة الراحلة لأمها التي ربّتها ودعمتها حتى جعلت منها فنانة عراقية متميزة، فأرادت أن ترد لها الجميل بأغنية عنها.

أغنية وطنية اعتمدَت التورية

أما أغنية “غريبة من بعد عينج يا يُمّه”، تبدأ قصتها عند وفاة والدة الفنانة زهور حسين في أواسط خمسينيات القرن الماضي، إذ حزنت عليهـا بشكل كبير، وبعـد انتهاء أربعينية والدتها، ذهبت الى الملحـن عباس جميل، وكانت تربطهما علاقة صداقة قوية، وطلبت منه أن يلحن لها أغنية تخلد فيها أمها، فكانت تلك الأغنية.

نظّم الآغنية، الشاعر عباس العزاوي، وصاغها لحنا عباس جميل، ولها قصة فحواها أن عباس العزاوي كتبها في أواسط الخمسينيات، وأعطاها لعباس جميل كي يلحنها، قائلا له إنها أغنية وطنية يشبّه فيها الوطن بالأم، وكيف أن الإنسان الذي يهجر وطنه هو كمن يترك أمه ويصبح غريبا بعيدا.

تعمدّ العزاوي التورية في الأغنية خوفا من السلطات التي قد تسيء فهم الموضوع سياسيا فيحدث ما لا تـحمد عقباه.

يقول عباس جميل، إنه تسلم النص واحتفظ به لكنه اعتذر عن تليحنه آنذاك بحجة أن الأغاني الوطنية وكذلك الأغاني التي تتناول الأم ليست رائجة وغير مربحة، ويضيف أنه لم يُخرج النص من أدراج مكتبه ويبدأ في تلحينه، إلا بعد أن رغبت زهور حسين في غناء أغنية تخلد بها ذكرى أمها بعد رحيلها.

حكاية روائي مع “غريبة من بعد عينچ يا يُمّه”

عن نفس الأغنية، كتب الأكاديمي والروائي العراقي سلمان كيوش، قبل أقل من شهرين، قصته مع الأغنية في تدوينة عبر حسابه بموقع “فيسبوك”، ولاقَت الكثير من التفاعل، وكانت الحسرة هي من تملأ التعليقات.

“من راديو يعمل باللمبات انسابت الأغنية، وطرقت مسامع أمي التي كانت تنسل شعرها الأسود الطويل بمشط خشبي تحت الشمس كأيّ جنوبية، فألقت المشط جانبا وأطرقت متصنّمة”، هكذا يقول كيوش في تدوينته.

ويضيف: “لأني غضّ حينها، وأجهل تأويلات الأنوثة الغائرة، جزمتُ أن أمي بانتظار جفاف المحلب في شعرها. لكن الأغنية حزّت عنق هنائي ووأدت تأويلي حين تيقّنت من بكاء أمي. تعلمت من هذه الواقعة أن إخفاء الأنثى لجبل في عبّها أسهل بكثير من أن تخفي دمعا، ولو حرصت”.

للقراءة أو الاستماع: في عيد الأم.. استمرار معاناة الأمهات العراقيات

“دهشتي الغرّة لم توحِ لي بغير سؤال: لِم بكاء أمي ما دامت أمها موجودة، وقد تطرقُ باب بيتنا في أيّة لحظة؟ ودنوت منها مستغلا غضاضتي وضآلتي، وشيوع خدر بثّته الشمس في جسدي. بحذر ساكن وصمت، أزحت شعرها عن وجهها، فألقت عيناي القبضَ على عينيها وهما تنوءان بسخونة دمع”.

يردف كيوش: “حين فضح وهجُ الشمسِ وجع وجهها وعينيها شعرتْ أنه لا معنى لتخفيها وتنكرها، فاحتضنتني فجأة، وجهرت بنشغة، سرعان ما حولتها إلى ثغيب صريح. خيمة شعرها التي ظللتني بعتمتها، ورائحة المحلب بإيقاعه المتضائل مع ايقاع الأغنية، أوضح ما في ذاكرتي، إلى اليوم”.

“عودوا إلى أمهاتكم ولا تتأخروا”

ويتابع: بعد 3 سنوات من هذا الحدث الصغير، نهضت أمي فجأة من أمام صينية طعام نتشاركها. ولأن نهوضها سريع ومضطرب تبعناها. ألفيناها وقد أزاحت شيلتها وسكبت ماء كثيرا على وجهها وصدرها. كانت تنظر في السماء بعينين محتقنتين بالفزع، ولا تكادان تريان غير القادم الفادح. قالت بشهيق مختنق: “الهوه.. الهوه يا عَلي”. غير أن الهواء شحّ على رئتيها، وراحت ضحية عدوان ضغط دمها الحادّ. وهكذا ألجأتني إلى عزاء “غريبة من بعد عينچ يا يُمّه”.

ويختتم الروائي العراقي تدوينته بنصيحتين وجّههما لمتابعيه في حسابه. يقول في الأولى: “إلى السالمين الغانمين: اسمعوا الأغنية، وعودوا إلى أمهاتكم سراعا. لا تتأخّروا عنهن. وأكثروا التحديق في عيونهنّ وأكفّهن، فأكف الأمّهات وأذرعهن لا أكتاف لها، جذورها قلوبهن”.

في النصيحة الثانية يقول سلمان كيوش: “إلى محزوزي الآمال، محدودبي القلوب بالفقد، والطواويس بحزنهم: اسمعوا الأغنية، واكتفوا بوشالة ذكرى”.

للقراءة أو الاستماع: عيد الأم.. كيف تشعر الأمهات السوريات في بلد الفقد والغلاء؟

وهكذا، يتذكر العراقيون أمهاتهم في عيد الأم، كل عام بتلك الأغنيات الثلاث، ومن كانت أمه على قيد الحياة يستمع لأغنيتي سعدون جابر ووحيدة خليل، إلا أن من يعانون من ألم فقد الأم ورحيلها، تجدهم يسمعون أغنية زهور حسين، ينصتون لها ودموعهم تسيل من الشوق لحضنها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.