“كلها عطّالَة بَطّالَة”. مصطلح لا يفارق من ينقطعون عن الدراسة في العراق، والمفارقة أن أولياء أمور كثير من العوائل هم من يغرزون مثل ذلك المفهوم في عقول أطفالهم، ويشجّعونهم على ترك الدراسة.

“حالتي صعبة منين أجيب فلوس حتى أدزهم للمدرسة”، بتلك العبارة يبدأ صلاح محمد، مواطن من العاصمة العراقية بغداد ويقف على حافة الـ 50 من العمر، حديثه مع “الحل نت”.

محمد رب أسرة تتكون من 6 أفراد، هو وزوجته و4 أطفال، 3 أولاد وطفلة واحدة هي الأصغر عمرا، فيما يبلغ عمر أكبر أطفاله 13 عاما، ويعيش في شقة صغيرة بمنطقة الفضل، وفق نظام الإيجار.

أمس الأربعاء، بدأ العام الدراسي الجديد للمدارس في العراق، وبلغ عدد الطلبة الكلي الملتحقين بالصفوف الدراسية أكثر من 12 مليون طالب، في حين بلغ عدد طلبة الصف الأول الابتدائي أكثر من مليون و200 ألف تلميذ، حسب وزارة التربية العراقية.

يقابل عدد الطلبة الملتحقين بالمدارس، رقم ليس بالقليل ممن انقطعوا عن الدراسة في العراق، فبحسب أحدث تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف”، صدر نهاية العام الماضي، يوجد 3.2 ملايين طفل عراقي في سن الدراسة خارج المدارس.

بدايات ظاهرة الانقطاع عن الدراسة

يعمل صلاح محمد في إحدى مقاهي شارع الرشيد وسط بغداد. “مصروفي اليومي ميكفي. من الصبح للعصر، ينطيني صاحب العمل بس 12 ألف دينار ونص، وين أوديها حتى أدز ولدي وبنتي للدراسة”، يقول محمد.

حالة محمد ليست نادرة، بل هناك الكثير من العوائل التي لا تبعث أطفالها إلى المدارس، بسبب الوضع الاقتصادي السيء لتلك العوائل، في وقت تؤكد تقارير شبه حكومية، أن أبرز أسباب تسرب وانقطاع الطلبة عن المدارس هي اقتصادية واجتماعية.

تعود ظاهرة التسرب وانقطاع الطلبة عن الالتحاق بالمدارس إلى مطلع التسعينيات، عندما فرّ آلاف الطلبة من المدارس، بحثا عن لقمة العيش لإعانة عوائلهم، نتيجة الحصار الاقتصادي الذي فُرض دوليا على العراق، بعد غزو نظام صدام حسين السابق للكويت.

الظروف الاقتصادية الصعبة تتضح أكثر من خلال نسبة مَن هم تحت خط الفقر، فبحسب آخر إحصائية أوردتها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في شهر آب/أغسطس الماضي، هناك 9 ملايين مواطن أي نحو ربع عدد سكان العراق البالغ عددهم 41 مليونا، تحت مستوى خط الفقر.

“الچبير من ولدي اللي عمره 13 سنة يشتغل بفرن صمّون، والبقية گاعدين بالبيت لأن بعدهم صغار. أتمنى لو أگدر أوديهم للمدرسة همه والوليد الچبير، بس شسوي الرگعة صغيرَة والشگ چبير”، يقول صلاح محمد.

مشكلة اجتماعية

العام الدراسي 2017 – 2018 هو أكثر الأعوام تسرّبا للطلبة من المرحلة الابتدائية، وأغلب من تسرّبوا من المدارس هم دون سن الـ 15 عاما، حسب بيان سابق نشره “الجهاز المركزي للإحصاء” في العراق بتاريخ 20 كانون الثاني/يناير 2019.

“كلنا عطّالَة بَطّالَة بعدين. عليمن أدرس وماكو تعيين”، هكذا يقول عامر مؤيد الذي يبلغ من العمر 14 عاما عندما سأله “الحل نت”، عن سبب تركه للدراسة، وكان يتحدث بثقة دون ارتباك أو تجميع عشوائي لكلماته.

تبلغ نسبة البطالة في العراق، 16.5بالمئة، وفق آخر إحصائية نشرتها وزارة التخطيط العراقية في شهر تموز/يوليو الماضي، وهي نسبة كبيرة لدولة مثل العراق، هي الثانية من حيث الإنتاج النفطي في منظمة “أوبك”، والرابعة في الاحتياطي النفطي العالمي.

مؤيد الذي يسكن في جانب الرصافة بالعاصمة بغداد، اتخذ ثقته في الحديث من عائلته التي غرزت مفهوم عدم أهمية إكمال الدراسة في عقله، فاقتنع بها نتيجة التكرار، كما تبيّن لـ “الحل نت” من خلال حديثه معه.

“جاي أشتغل وألعب بالفلوس لعب. بدال ما أخلص 16 سنة من عمري دراسة وأتخرج وماكو وظيفة، آنه بهاي السنين مكوّن نفسي ولاملي فلوس زينة أتزوج بيها وأفتحلي مشروع همين”، يقول مؤيد.

معدّل التسرب اليومي من المدارس

مؤيد يعمل في “بار ليلي” بأحد فنادق بغداد في منطقة الكرادة، ويصرف له صاحب البار 50 ألف دينار يوميا، من غير “البخشيش” من بعض الزبائن الكبار ممن يرتادون المكان، ليناهز مدخوله الشهري مليون وربع المليون دينار عراقي، (ما يقارب ألف دولار أميركي).

إحصاءات رسمية تشير، إلى أن مدارس العراق تشهد تسرّبا جماعيا للطلبة في المرحلة الابتدائية، بمعدل 360 تلميذا وتلميذة في اليوم الواحد، وتلك الأرقام هي بمثابة جرس إنذار من تفشي الأميّة بشكل أكبر في البلاد.

مطلع هذا العام، دقّت “اليونسكو” ناقوس الخطر في العراق، عندما قالت إن هناك 12 مليون شخص أُمّي في العراق، وهو ضعف آخر إحصائية رسمية حكومية عراقية قبل عامين. حينها كان هناك 6 ملايين أُمّي.

مؤيد من الأميين، لا يجيد القراءة والكتابة إلا بجزء بسيط جدا، وعندما سألناه عن ذلك وكيف سيعيش ويتعامل مع الناس والحياة مستقبلا، أجاب ببرودة أعصاب، “خوية المدرّسين الخصوصيين مالين الدنيا. شوكت ما أريد أدخل خصوصي وأتعَلّم”.

لا يبدو أن ظاهرة الانقطاع عن المدارس ستنتهي في العراق؛ لأنها متراكمة منذ أكثر من 3 عقود، لكن ما يجب على الحكومات العراقية المقبلة، هو الحد من ارتفاع نسب انقطاع الطلبة عن الدراسة سنويا، لتجاوز آثارها السلبية على البلاد مستقبلا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.