بعد الإعلان عن اللقاء الذي جمع وزيري دفاع تركيا وسوريا بموسكو، في 28 كانون الأول/ديسمبر 2022، إلى جانب رؤساء أجهزة المخابرات في البلدان الثلاثة، ومع انتشار أنباء عن اجتماعات سرية قد حدثت فعليا بين مسؤولي سوريا وتركيا، ظهرت جدّية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بشكل واضح في إعادة العلاقات مع دمشق، مما شكل مفاجئة لدى مناصريه على النطاق السوري والعربي، وقد سبق كل ذلك، أنه تراجع عن خلافاته مع كل من السعودية والإمارات، ومصر، وإسرائيل.

الباحث الأردني، صلاح ملكاوي، يرى خلال حديثه إلى “الحل نت”، بأن أردوغان “كان لديه مشروع سياسي في المنطقة العربية ممثلا بالإسلام السياسي، لكن محاولاته بذلك باءت بالفشل، وأعتبر بداية سقوط مشروع أردوغان في العالم العربي، هو لحظة سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وتلى ذلك تراجع مشروعه الذي لم يجني من ثماره شيئا”، ويضيف ملكاوي، أنه إذا ما ركّزنا على “ذروة العداء بين الإمارات وتركيا، سيتضح لنا أن السبب هو تصدي الإمارات بشدة لمشروع أردوغان في ليبيا، وبالتحالف مع السعودية تم القضاء على مشروعه بمصر في 2013 بعد إسقاط حكم الرئيس مرسي”.

التوسع الجغرافي

كانت علاقة أنقرة مع دمشق قد وصلت إلى ذروتها من الوفاق والتحالف في كانون الأول/ ديسمبر 2004، مع توقيع اتفاقية منطقة “التجارة الحرة” بين سوريا وتركيا وشملت والأردن ولبنان فيما بعد، وكان الرئيس السوري بشار الأسد، قد زار أنقرة في كانون الثاني/يناير من العام نفسه، كأول رئيس سوري يزور تركيا، وتحسنت العلاقات بعد سنوات من الخلافات نتيجة احتضان دمشق لحزب “العمال الكردستاني” المعارض لأنقرة، ويرى الكاتب والصحفي السوري، منار الرشواني، خلال  حديثه لـ“الحل نت” أن “الرئيس أردوغان قومي تركي، بغض النظر عن خلفيته الإسلامية. وهو يتصرف بالتالي استنادا إلى المصالح التركية من وجهة نظره وحزبه، كما استنادا إلى طموحاته الشخصية، وهذه باختصار تتمثل في تعزيز قوة تركيا وتوسيع نفوذها إقليميا وعالميا واحتفاظه هو وحزبه بالسلطة”. في هذا السياق علينا تذكر أن أردوغان كان قد طوّر علاقة وثيقة مع الرئيس السوري بشار الأسد إلى حين اندلاع الأحداث السورية عام 2011.

مع بداية الحراك الشعبي في سوريا، أتخذ أردوغان موقفا مؤيدا لذلك، واحتضنت تركيا أول اجتماع للمعارضة السورية، بعد ثلاثة أشهر من المظاهرات التي بدأت في محافظة درعا جنوب سوريا، وتاليا فتح الباب أمام اللاجئين السوريين.

بينما يرى ملكاوي، أن “ما زاد من شعبية أردوغان بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي، هو تصديره للخطاب الشعبوي من خلال خطابات إعلامية تَطرق لأمجاد الماضي أو ما أسميه بالأوهام، وحقيقة لامس هذا الخطاب قلوب جزء من الشعب العربي المحبط، الذين اعتقدوا أن هذه الثورات ستعيد الأمجاد الإسلامية وكانوا مخطئين في ذلك، لأن أردوغان نفسه كان يبحث عن مصالح معينة وضيقة وتجلت سياسته في المناكفة مع دول الخليج على وجه التحديد”.

تركيا تدخلت عسكريا في سوريا في أول عملية برية بالعام 2016 ضد تنظيم “داعش” الإرهابي في ريف حلب الشمالي، إلى جانب قوات “الجيش الوطني” المعارض والحليف الأبرز لتركيا، وتلاها عمليتان عسكريتان ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في كل من منطقة عفرين في ريف حلب الشمالي العام 2018، ومنطقتي رأس العين في شمال محافظة الحسكة، وتل أبيض شمال محافظة الرقة، من العام 2019.

قد يهمك: شروط سوريّة لإعادة العلاقات مع تركيا.. تعرف عليها

البعض ذهب إلى أن هذا التدخل هو تنفيذ لمشروع التوسع العثماني الجديد، وليس لمناصرة المعارضة السورية عسكريا، وبقيت تركيا هي الدولة الوحيدة التي تحتضن أبرز كيان للمعارضة السورية “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، وشكل كل ذلك وعلى مدار سنوات شعبية للرئيس التركي أردوغان بين الأوساط السورية، إلا أن كل ذلك تغير فجأة مع إعلان الرئيس التركي المتكرر باستعداده لإعادة العلاقات مع دمشق وللقاء الأسد شخصيا. وعما تم الكشف عنه من تفاصيل اجتماع موسكو الأخير، أن تركيا أبلغت الجانب السوري استعدادها تسليم الأراضي التي تسيطر عليها بعد الاستقرار في سوريا، مما شكل كل هذا التغير في سياسة أردوغان حالة من الهزة الشعبية ورفضه والهتاف ضده في مناطق الشمال السوري الذي يخضع للسيطرة التركية.

من جانبه، يرى الرشواني بأن “طموحات أردوغان يبدو قد انتهت إلى الإخفاق. إذ يتزايد التوتر بينه وبين الغرب الذي كان قد وعد فيه أردوغان شعبه الاندماج اقتصاديا على الأقل من خلال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فيما نجد أردوغان ذاته يقدم التنازل تلو التنازل لكل الطغاة المنبوذين في العالم، بدءا من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصولا إلى بشار الأسد مؤخرا، وقبل ذلك عبد الفتاح السيسي في مصر وغيرهم” على حد تعبيره.

 صورة أردوغان وشعبيته، ستتضرران إلى أبعد الحدود بين كثير من السوريين وفي العالم العربي عموما، بحسب الرشواني، مع ذلك سيبقى من يدافع عنه نتيجة الوحدة الأيديولوجية، أي الانتماء لجماعة “الإخوان المسلمين” تحديدا، أو نتيجة القناعة أن تركيا أردوغان تظل أفضل السيء، وأن تحولها لم يكن نتيجة سوء تقدير القيادة التركية فقط، بل أيضاَ، وهذا صحيح، نتيجة متغيرات إقليمية ودولية عملت ضد القضية السورية، سواء بشكل مقصود أو غير مقصود، ويختتم الرشواني حديثه أنه “من الدروس المستفادة للسوريين وغيرهم في تقلب سياسة أردوغان هو عدم الانجرار للعاطفة، وضرورة رفض التَّبعية في القضايا الوطنية لأي طرف خارجي. فالتحولات التركية بدأت منذ زمن طويل نسبيا، لكن من دون استجابة فاعلة ممن يعتبرون ممثلين للمعارضة السورية” وفق تعبيره.

فلسطين بداية شعبية أردوغان عربيا

في 30 كانون الثاني/يناير 2009، شهد العالم العربي سجالا ساخناً بين رئيس الوزراء التركي آنذاك أردوغان، والرئيس الإسرائيلي الأسبق، شمعون بيريز، في منتدى “دافوس الاقتصادي” في سويسرا حول حرب إسرائيل على قطاع غزة، وما دفع الجماهير العربية بالإشادة لموقف أردوغان، هو تصديه للرئيس الإسرائيلي، وانسحابه في الوقت الذي بقي الأمين العام لجامعة الدول العربية وقتها، عمرو موسى، جالسا في مقعده، ومع اشتداد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، أرسلت تركيا سفينة لكسر الحصار عن القطاع في أيار/مايو 2010، كان على متنها نشطاء وحقوقيين وسياسيين من عدة دول في العالم، إلا أن سفينة “ ما في مرمرة” تعرضت لهجوم إسرائيلي قَبال سواحل القطاع، قُتِل على أثرها عشرة نشطاء أتراك وإصابة 56 آخرين بحسب الإعلام التركي.

اقرأ أيضا: خطوة تركية جديدة باتجاه التطبيع مع دمشق.. ما حقيقتها؟

 على إثر الحادثة تدهورت العلاقات التركية – الإسرائيلية، وسحبت تركيا سفيرها من تل أبيب، وتلت ذلك خلافات حادة وصلت إلى حد القطيعة بين الطرفين في العام 2018 بعد أن قام الجيش الإسرائيلي بقتل العشرات من الفلسطينيين لتسحب تركيا سفيرها من إسرائيل، ولتعود العلاقات مجددا مع زيارة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، إلى أنقرة في نيسان/أبريل 2022، التي وصِفت بالتاريخية، وفي أيلول/سبتمبر 2022، تم تعين سفيرة إسرائيلية جديدة في أنقرة، وفي المقابل قامت تركيا بتعين سفير لها في تل أبيب في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، إذ كان المنصب شاغرا منذ العام 2018.

رغم القطيعة السياسية والدبلوماسية إلا أن التبادل التجاري بين البلدين كان يشهد نمواً، إذ وصل في العام 2021 إلى 10 مليار دولار سنويا. واتهم البعض أردوغان بأنه يتاجر بالقضية الفلسطينية كما فعل مع باقي القضايا العربية المحلية.

مصر.. وتصدير الإسلام السياسي

كان لمصر نصيب أيضا في السياسة التركية، وتحديدا ضمن أهداف أردوغان، ومع وصول الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي، إلى السلطة في العام 2012، وجماعة “الإخوان المسلمين”، شكل ذلك ذراعا قويا لتركيا في المنطقة العربية، نظرا لمكانة مصر الاستراتيجية عربيا وعالميا، ومع إطاحة وزير الدفاع المصري في ذلك الوقت، عبد الفتاح السيسي، بحكم “الإخوان” وزج مرسي وجميع قيادات الجماعة في السجن في تموز/يوليو 2013. هاجم أردوغان وبشراسة النظام الجديد في مصر وتحديدا رئيسها عبد الفتاح السيسي، إذ وصف أردوغان ما حدث في مصر “بالانقلاب العسكري”، لتنقطع العلاقات بشكل نهائي بين الدولتين، إذ طردت القاهرة السفير التركي في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، وردت أنقرة بالمثل.

 على غرار سوريا، احتضنت تركيا مجاميع المعارضة المصرية، سياسيا وإعلاميا، وعلى رأسهم جماعة “الإخوان المسلمين”، ورغم لقاءات تركية – مصرية بمستوى دبلوماسي منخفض، والمصافحة الشهيرة بين الرئيسي المصري والتركي في العاصمة القطرية الدوحة في افتتاح كأس العالم 2022 في قطر، إلا أن العلاقات لم تعد إلى سابق عهدها، ويرى الباحث الأردني صلاح ملكاوي، أن مصر تضع “تركيا حاليا تحت الاختبار لأنها لا تثق بنواياه، وأنا متيقن إذا فاز أردوغان في الانتخابات القادمة سيعود إلى خطابه الشعبوي، وهذا ما تخشاه مصر”، ويضيف ملكاوي، أن مصر “كانت الحجر الأساس لمشروع الإسلام السياسي التركي في المنطقة، وحاول أردوغان من خلالهم فرض نموذج معين على الوطن العربي من خلال التوسع، وكان من بين الجهات التي اعتمدت عليها تركيا هي جماعة الإخوان المسلمين والجماهير البسيطة التي دغدغت مشاعرها بخطابات دينية وشعبوية تجاه القضية الفلسطينية والقضايا المحلية العربية، وتفاعل مع هذا الخطاب جماعات وجماهير مؤدلجة مثل الإخوان واليسار؛ لأن الطرفين يؤمنان بالثورات والانقلاب على الأنظمة العربية واستخدامهم”، على حدّ وصفه.

بدوره، نفى الصحفي المصري، كريم شفيق، لموقع “الحل نت”، أن يكون الرئيس التركي، قد اكتسب أي “شعبية في مصر وتحديدا بين الأوساط السياسية وداخل المجتمع المدني، أو حتى الفئات والقوى المجتمعية، فلم يطرح على أي وجه كنموذج سياسي قابل للتطبيق لا سيما مع محاولات أردوغان المحمومة لطرح ذاته بحمولاتها الأيدولوجية كمرجعية سنية تنافس القوى السنية التقليدية بالمنطقة تحديدا القاهرة والرياض”.

القوى السياسية الرديفة لـحزب “العدالة والتنمية”، وفق كريم وهي الوجه الآخر له كحامل إيدولوجي للإسلام السياسي ممثلة في “الإخوان المسلمين”، حاولت الاستعانة بأردوغان ضمن خططها البراغماتية، للحصول على دعم سياسي وإقليمي، في المحصلة لا يمكن اعتبار أن أردوغان تمكّن من خلق أي حاضنة سياسية أو مجتمعية تقبل بسياساته في مصر.

كريم يستذكر حرب 2006 التي وقعت بين “حزب الله” اللبناني، والجيش الإسرائيلي، حيث أن “زعيم الحزب حسن نصر الله، وبرغم مذهبه الشيعي، المخالف لمذهب الغالبية العظمى من الشعب المصري السني، قد حقق نصر الله شعبية آنذاك، وحالة اجتماعية كإلهام للآخرين، كان الناس وقتها يضعون صوره على السيارات والمواصلات العامة، لأنه استطاع تحقيق نصر ولو دعائيا وسياسيا على إسرائيل، ولم يقف مذهبه عائقا أمام تأييده كنموذج شيعي استطاع تحقيق النصر مع القضية المركزية في الوطن العربي، وهي القضية الفلسطينية في محاربة اسرائيل كدولة عنصرية، وأردوغان يقدم نفسه كنموذج إسلاموي حاضن لقضايا السنة ولكنه لم يستطع أن يحقق قبولا على المستوى الشعبي والنخبوي في مصر”.

لا شك أن سقوط الأنظمة العربية في 2011 أحدثت زلزالا في المنطقة، وشكّلت عنصر المفاجأة لباقي الأنظمة العربية التي لم تستطع سد الفراغ الذي خلّفه سقوط الأنظمة في مصر وليبيا وتونس واليمن، من كان جاهزا لسد هذا الفراغ، هما إيران وتركيا، ونتيجة هذا الفراغ أعتقد أردوغان أنه بإمكانه فرض نموذج معين على الوطن العربي من خلال التوسع، لكن الدول العربية بعد 2013 استطاعت استجماع قوتِها من جديد، والبحث في نقاط قوتها وضعفها، والتغلب على النظرة التاريخية السائدة أن العرب ضعفاء، ولكن تبين أن هذه الأنظمة استطاعت فعلياً إفشال مشروع أردوغان، الذي اهتزت صورته وبشكل كبير في الأوساط الشعبية العربية من خلال قناعة باتت سائدة أن أردوغان يقول الشيء ويفعل نقيضه، وخير مثال على ذلك، تصريحه الشهير في الآونة الأخيرة “لا خصومة دائمة في السياسة”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.