الأزمات المتتالية التي تعصف بسوريا ولا سيما أزمتي المحروقات والكهرباء، تعد من أبرز التحديات التي تواجه الحياة الاقتصادية برمتها في البلاد، ذلك لأن كل هذه العوامل ساهمت في ارتفاع تكلفة الإنتاج، وبالتالي عرقلة عجلة الصناعة السورية، ومن ثم تأثيراته السلبية على عمليات التصدير والمنافسة بالنسبة لمنتج البلدان الأخرى.

بعيدا عن باقي الاقتصاد، فإن القطاع الصناعي، باتت خسائره من أهم القضايا التي تشغل الاقتصاديين اليوم، في وقت يتحدث فيه كثير من الخبراء عن تراجع الإنتاج المحلي، وضعف كبير في الصادرات السورية جراء الأزمات من جهة والقرارات الحكومية غير الصائبة من جهة أخرى، فضلا عن غياب الدعم الحكومي لهذا القطاع.

تراجع الصناعة السورية

مما لا شك فيه أن كلف الإنتاج تُعد المقياس الأول لحركة التصدير والحركة الاقتصادية بشكل عام وهي عبارة عن بنود عدة يشرحها الصناعي ياسر أكريّم لصحيفة “تشرين” المحلية، يوم أمس الأربعاء، وأضاف بالقول، تقع عوامل الطاقة في المركز الأول من كهرباء ووقود للتنقل وأي منتج طاقوي يدخل في عملية الإنتاج. وهذا العامل مهم جدا، فقد كانت الصناعة السورية من أوائل الصناعات المنافسة عندما توافرت عناصر الطاقة فيها بشكل رخيص.

بالإضافة إلى عامل الطاقة، هناك عامل الضريبة، حيث إن إعفاء المنشآت الصناعية من الضرائب، أو على الأقل تخفيض الضرائب أو توضيحها، قد يؤدي إلى خفض تكلفة المنتج وبالتالي زيادة فرصه التنافسية. ولكن إذا كانت الضرائب غير مفهومة وغير واضحة، وكانت قوانين الضرائب تعتريها الكثير من التخبط، فإن المنتج سيحصل في خانة الضرائب على هامش ضريبي عالٍ وغير واقعي مؤثرا بذلك في سعر المنتج.

بالنظر إلى ما ذكره الصناعي السوري، فإن الحكومة وقراراتها غير المدروسة شريكة في تراجع الإنتاج المحلي في سوريا، بل وخروجه من التنافسية مع الدول المجاورة، بعد أن كانت الصناعة السورية أحد أبرز المنتجات العربية ومن أكبر المنافسين في المنطقة.

الصناعي السوري يردف بأن الأمر بالنسبة لبعض المنتجات الأساسية التي تُعد جماركها صفرا أو قريبة من الصفر، فهذا لا يعفيها من بنود جمركية أخرى قد تعطي مفاعيل أخرى لترتفع بعدها قيمة جماركها من صفر أو واحد بالمئة إلى 5 بالمئة، الأمر الذي يلقي بتأثيره السلبي على التنافسية بالنسبة للمنتج.

الصناعيون يرون أنه في ظل هذه الظروف، تعتبر الزيادة في تكاليف نواقل الطاقة من قبل الحكومة غير منطقية. وإذا كانت دمشق تحاول تعويض الخسائر الناجمة عن هذه الزيادات، فإن الأمر بات أكثر عبثية. ولا يهدف إلى خفض تكاليف الإنتاج على الصناعيين حتى يتمكنوا من الاستمرار في المنافسة والتصدير والإنتاج بأسعار تناسب الأسواق المحلية.

كما ويعتقد الصناعيون أن أغلب شركات القطاع الصناعي التي تنشط في مناطق سيطرة دمشق، تجد نفسها في موقف لا تُحسد عليه بالنظر إلى تراكم المشاكل التي جعلت أعمالها في تراجع كبير، ووسط صعوبة توفير إمدادات الوقود والكهرباء بشكل دائم.

عوامل سلبية إضافية

كذلك، من العوامل المؤثرة في كلف الإنتاج، هو انفتاح الأسواق من خلال العقود الخارجية والتعاون مع الدول الأخرى أو حتى الانفتاح الداخلي للأسواق المحلية واستقطاب المنتج محليا، على اعتبار أن الأمر يؤدي إلى زيادة الإنتاج في المعامل وبالتالي انخفاض التكلفة بشكل كبير.

كما وتعد المنصة العامل الأخير من العوامل المؤثرة في كلف الإنتاج، فحين يتعلق الأمر بشراء بعض المواد الأولية المساعدة في الصناعة وبقاء القيم المالية فترة طويلة بحالة الانتظار في المنصة، فإن دورة رأس المال البطيئة هذه تؤدي إلى رفع التكاليف، لذلك فإنه من المهم تسريع دورة رأس المال بغية تخفيض التكاليف. وفي النهاية فإن هذه البنود مجتمعة تؤثر في سعر المنتج وكمياته، وفق الخبراء.

في السابق كانت كل البنود المسبقة سهلة وممكنة والتكاليف أرخص والأسواق أكثر انفتاحا، أما الآن فإن الضبوط المتفرقة ستؤدي إلى رفع سعر المادة بشكل كبير وتخفيض تنافسيتها بالنسبة لبقية المنتجات العالمية. فعلى سبيل المثال بعد أن تفوقت سوريا عالميا في مجال الملابس لفترة، ظهرت تركيا كمنافس قوي في المجال نفسه بسبب انفتاحها الكبير على الأسواق العالمية. ولا أحد ينكر أهمية قطاع النسيج، لا سيما بعد أن اشتهرت سوريا بصناعة “البروكار” والأقمشة الفاخرة. هذا القطاع من القطاعات المهمة في الاقتصاد السوري بما يوفره من ريعية اقتصادية تنعكس إيجابا على دعم الاقتصاد المحلي ككل.

حتى بالنسبة لبعض الصناعيين الذين قرروا العودة لاستثمار منشآتهم، اصطدموا بحاجز الكلف المرتفعة الذي منع البعض من التصدير والبعض الآخر من استقطاب السوق الداخلية ذات الأسعار المرتفعة مقارنة بالدخول المنخفضة للمواطن.

منذ عام 2007 والحكومة السورية تزعم وتتحدث عن تطوير الصناعة النسيجية من خلال إنشاء عناقيد صناعية أو مجمّعات، ومنذ ذلك الحين بقي هذا الحلم يراود أصحاب الشأن، حتى تحول إلى مجرد أضغاث أحلام، وبات هذا السيناريو حبيس الأدراج وربما أصابه العفن. فعلى مدى السنوات الماضية وحتى قبل 2011، لم يشهد القطاع الصناعي في سوريا أي تقدم أو تطور، إذ ساد الفساد مختلف مفاصل المؤسسات الحكومية على كافة المستويات وهو ما أدى إلى تراجع كبير في العديد من القطاعات وخاصة القطاع الصناعي.

خسائر هائلة وأسباب التراجع

في سياق تراجع الصناعة السورية، تزعم الجهات الحكومية بأن خروج المعامل الصناعية وتحديدا في محافظة حلب عن العملية الإنتاجية نهائيا، وراء تراجع الإنتاج المحلي، إلا أن الخبراء الاقتصاديين يقولون إنه نتيجة للفساد الحكومي وعدم دعم المنتج المحلي ولا سيما على مستوى الوقود والطاقة، فالقطاع الصناعي وتحديدا النسيج لم يشهد تطورا وتقدما حتى قبل الحرب، فكيف بعده، وسط عجز الحكومة في توفير أدنى مقومات الصناعة والمواد الأولية أو حتى تقديم دعم بسيط من التسهيلات الضريبية وغيرها للصناعيين والحرفيين.

بالعودة إلى تقرير الصحيفة المحلية، فقد أوضح نائب رئيس “غرفة صناعة دمشق وريفها” طلال قلعه جي، أن كلف الإنتاج المرتفعة ستؤثر سلبا في التصدير وأن تخفيض كلف الإنتاج سيؤدي إلى زيادة التنافسية بالنسبة للمنتج لكون المنتج السوري بطبيعة الحال مطلوبٌ ومرغوب ولا يمكن الاستغناء عن بعض المنتجات السورية حتى لو ارتفعت تكلفتها بنسبة كبيرة.

قلعه جي، زعم أن حركة التصدير تُعد جيدة، بالرغم من بعض الكلف المرتفعة ومنافسة بعض الدول المجاورة، وبشكل خاص بالنسبة للمنتجات الغذائية التي تشهد إقبالا من أكثر من 120 دولة في العالم في مقدمتها أوروبا وكندا وبعض الدول العربية.

من جانب آخر، كشف وزير الصناعة السوري السابق، زياد صباغ، في وقت سابق أن الأضرار المباشرة وغير المباشرة تجاوزت قيمتها نحو 23.5 مليار دولار حتى نهاية عام 2019 للمنشآت الصناعية التي تقع داخل سيطرة الحكومة السورية. في حين يقول الخبراء إن الخسائر أكبر في الوقت الراهن، خاصة إذا ما تم احتساب باقي المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق.

المنشآت التي دُمرّت جرّاء الحرب السورية تجاوزت الـ 40 بالمئة من كامل منشآت القطاع العام، وبالنظر إلى انهيار الحكومة السورية اقتصاديا، فإنه حتما لا يمكن لها أن ترصد ميزانيات ضخمة لإعادة تأهيل هذه المنشآت، سيما وأنها تعتاش على حوالات المغتربين، فضلا عن ممارسة أعمال غير مشروعة، من تهريب للمخدرات، وفق ما وثقه العديد من الجهات الحقوقية.

إن البحث عن بدائل وتطوير قطاع الاستثمار في هذه المنشآت بالتشاركية مع القطاع الخاص من داخل سوريا ومع الدول الأخرى ربما قد يعيد تأهيل القطاع الصناعي وتطوير خطوطها الإنتاجية، لكن ذلك يبقى رهن مدى توجه الحكومة السورية إلى إيجاد تسوية سياسية شاملة مع الأطراف السياسية الأخرى بالمشهد السوري، حتى يتم الانفتاح على دمشق ومن ثم تطوير وإنعاش قطاعها الاقتصادي ككل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات