لا يزال المشهد السياسي في ليبيا يتّسم بالتوتر ويعجّ كذلك بحالة من الاستقطاب بين الفرقاء السياسيين والتي تغذيها أطراف خارجية تدّعي أنها تبحث عن حلول وأفق سياسية، بيد أنها العقبة الأساسية أمام إنهاء حالة الجمود السياسي في البلاد، ومن دون إنهاء حالة التبعية هذه، فإن كل الجهود الأممية الرامية لإيجاد بارقة أمل لأزمة ليبيا ستكون بمثابة إضاعة وقت، بل وربما قد تؤدي إلى إدخال البلاد إلى مسارات أكثر قتامة.

في آخر التوترات التي شهدتها الساحة الليبية، جاء تصويت “مجلس النواب الليبي”، يوم الثلاثاء الفائت، في جلسة مغلقة بمدينة بنغازي شرقي البلاد، على سحب الثقة من رئيس الحكومة الليبية فتحي باشاغا، وإحالته للتحقيق، وتكليف وزير المالية أسامة حماد بتسيير مهام رئاسة الوزراء، بالإضافة إلى استمراره على رأس “وزارة المالية الليبية”، بحسب المتحدث الرسمي باسم “مجلس النواب”، عبد الله بليحق.

تاليا هذا القرار لابد أنه يحمل انعكاسات على الوضع الليبي، سواء من حيث تغييرات في موازين أحلاف السياسيين، وما سيترافق معها من تعقيدات سيتسبب بحدوث المزيد من العقبات أمام إنجاز الاستحقاق الانتخابي، أو مخاوف من عودة البلاد إلى ساحة للصراع العسكري مرة أخرى، حيث ثمة تجزأ وانقسام حاد بين الأطراف الليبية أو التشكيلات المسلحة أو الجهات العسكرية في البلاد، وهو ما يعقّد المشهد برمته.

من هنا تبرز عدة تساؤلات حول دلالة وتداعيات تصويت “البرلمان الليبي” على سحب الثقة من باشاغا، وما إذا كان القرار يقف وراءه أطراف معينة ترغب في الانفراد بالسلطة، وأهداف هذه الأطراف، واحتمالات حدوث انقسامات تشريعية وسياسية جديدة ستُلقي بظلالها على العملية الانتخابية نتيجة لذلك.

باشاغا.. دلالة حجب الثقة

بعد سحب الثقة عن باشاغا وتعيين بديل عنه لرئاسة الحكومة المكلفة في ليبيا، أشار عبد الله بليحق أن حكومة باشاغا التي تشكلت العام الماضي بتكليف من “البرلمان الليبي” فشلت في الوفاء بتعهداتها، مشيرا إلى أنه لم ينفّذ وعوده وفي مقدمتها العمل من داخل العاصمة طرابلس.

البرلمان الليبي- قناة “العربية”

إلى ذلك، اعتبر أن حكومة باشاغا أخفقت على المستوى الخدمي والسياسي، مؤكدا أنه لم يتم سحب الثقة من الحكومة، وإنما الاكتفاء فقط بإيقاف باشاغا عن العمل وتكليف وزير المالية لحين انتهاء التحقيق مع الأول، إلا أنه لم يكشف طبيعة الاتهامات التي سيتم التحقيق فيها معه أو الجهة التي ستحقق معه، حسب ما نقلت “وكالة أنباء العالم العربي“.

كما وذكر بليحق بأن عددا من أعضاء المجلس كانوا قد طالبوا منذ فترة بالتحقيق مع باشاغا حول أداء حكومته وعدم تنفيذها لأي من بنود البرنامج الذي قدمه لـ “البرلمان”. وكان أحمد الروياتي، مستشار رئيس الحكومة الموقوف عن العمل، أشار مؤخرا، إلى أن خلافات حول توزيع أموال الموازنة العامة هي السبب وراء تفويض باشاغا نائبه القيام بمهامه.

الكاتب والمحلل السياسي المهتم بالشأن المغاربي، رامي شفيق، يقول إن هناك إشارات توالت خلال الفترة الماضية بانقضاء أجل شخص فتحي باشاغا رجل مصراته، كرئيس للحكومة المكلفة في شرق ليبيا خاصة بعد فشله في دخول العاصمة كما وعد خلال العام الماضي. لذلك جاءت جلسة “البرلمان الليبي” دون حضور رئيسه، المستشار عقيلة صالح للإعلان نحو سحب الثقة من رئيس الحكومة وتنصيب الرجل المقرّب من المشير خليفة حفتر أسامة حماد وزير المالية.

تلك الإشارات بدت واضحة تماما قبل ساعات من جلسة بنغازي بعدما سرّب عدد من النواب أن ثمة تحركات ضد باشاغا من قبل شخصيات في “مجلس النواب” ترى أنه لم يتكفل ببرنامجه كرئيس للحكومة، غير أن باشاغا استبق الأحداث وفوض نائب رئيس الحكومة بكافة مسؤولياته وقدم اعتذاره لرئيس الحكومة، وفق حديث شفيق لموقع “الحل نت”.

صفقة سياسية؟

أحد مصادر موقع “العربي الجديد” يقول إن إجراء حجب الثقة عن باشاغا يمكن اعتباره صفقة بين صدام نجل زعيم “الجيش الوطني الليبي” المشير خليفة حفتر ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، بحسب تطابق معلومات مصادر برلمانية، وأن اتصالات تُجرى منذ فترة بين صدام نجل حفتر، وشخصيات مقربة من الدبيبة بهدف التحضير لمشروع دمج الحكومتين في هيئة حكومية واحدة، يتقاسم فيها الطرفان أهم المراكز والحقائب الوزارية، إلا أن باشاغا سعى مؤخرا لعرقلة هذه الاتصالات بعد أن كان منخرطا فيها.

إزاء ذلك، يرى شفيق أنه يمكن قراءة ما حدث من خلال عدة زوايا منها أن المستشار عقيلة صالح يتقدم خطوة عبر التضحية بباشاغا في سبيل حكومة تنفيذية مصغرة كما يطالبه المجتمع الدولي في شأن توحيد السلطة التنفيذية وبالتالي يتوقع صالح أن تضغط القوى الفاعلة بأن يسلّم عبدالحميد الدبيبة، مقاليد حكومته صوب تلك الحكومة التي يتعلق حضورها بإجراء الاستحقاق الانتخابي الرئاسي خلال العام.

كما يمكن فهم تلك الخطوة من خلال تأرجح موازين القوة بين الفاعلين المحليين، سيما فيما بين خليفة حفتر والمستشار عقيلة صالح وربما غياب الأخير عن جلسة بنغازي يشي ببعض مما هو غاطس من حقائق حول ما جرى في الأيام الأخيرة وهوامش ذلك القرار، بحسب ما يراه شفيق.

الكاتب رامي شفيق

لا شك أن القوة الوازنة في الداخل الليبي تنحصر بين عدة فاعلين، منها القوة المسلحة التي يتمتع بها خليفة حفتر وابنائه وكذا السلطة التي يلوح بها عبدالحميد الدبيبة ونفوذه المالي الذي تضخم عبر عائلته ومشاريعه الاقتصادية التي تماهت مع ثروات البلاد، فضلا عن تحالفاته التكتيكية مع عدة جهات وأطراف محلية وإقليمية سمحت له بمظاهر القوة الطافحة على مسرح الأحداث، على حد تعبير شفيق.

تعقيد للمشهد الانتخابي؟

هذا وفقدت حكومة باشاغا التي تتخذ من الشرق الليبي مقرا لها بسبب فشلها في دخول العاصمة الليبية طرابلس لممارسة مهماتها على رأس السلطة التنفيذية، إذ رفض عبدالحميد الدبيبة تسليمها إلا بعد إجراء الانتخابات. وجرى على إثر محاولة دخول باشاغا للعاصمة العام الماضي، تصعيدات عسكرية وأمنية.

رئيس الحكومة الليبية فتحي باشاغا وزعيم “الجيش الوطني الليبي” المشير خليفة حفتر- أرشيفية “ليبيا المستقبل”

كما وفشل باشاغا في الحصول على التمويلات المالية على خلفية رفض “مصرف ليبيا المركزي” الذي يتموقع بطرابلس، منحه موازنة تقدر بـ 89 مليار دينار، أي نحو 18 مليار دولار، كان وافق عليها “البرلمان الليبي” في حزيران/يونيو الماضي، ليتجه باشاغا لخفض الموازنة إلى 57.5 مليار دينار، أي 11.5 مليار دولار بداية العام الحالي، غير أن “البرلمان” رفض اعتمادها بسبب ضخامة أرقامها، وفق ما نقله موقع “إندبندنت عربية”.

“البرلمان الليبي” اختار في الـ 10 من شباط/فبراير 2022 وزير الداخلية السابق بحكومة فائز السراج بطرابلس فتحي باشاغا رئيسا جديدا للحكومة، وهو القرار الذي قابلته “الأمم المتحدة” بمواصلة دعمها لحكومة الدبيبة.

في ظل هذه التوترات السياسية، ثمة مخاوف من انقسامات تشريعية وسياسية جديدة ستُلقي بظلالها على العملية الانتخابية، خاصة وأن بوادر الانقسام الحقيقي بين الشرق والغرب قد اكتملت الآن بتكليف رئيس حكومة من الشرق أسامة حماد كبديل لباشاغا الذي ينحدر من القطب الغربي لمدينة مصراتة، الذي كان وجوده على رأس حكومة الشرق بمثابة ضامن لعدم وجود رئيسين للسلطة التنفيذية، واحد من الغرب والآخر من الشرق.

بالعودة إلى شفيق، فإن سحب الثقة من رجل مصراتة فتحي باشاغا يعكس بوضوح كبير حالة التردي في المشهد السياسي الليبي وصعوبة الحديث عن عملية انتخابية في الأفق المنظور. قد يكون من المنطقي عدم توقع انفراط السيولة في الواقع الليبي كما جرى من سنوات، بيد أن ذلك لا يمنع من بعض التّحرشات بين الكتائب العسكرية في بعض المناطق الليبية خاصة مدينة الزاوية غرب العاصمة طرابلس نتيجة لعدة أمور تتعلق بوضعية المدينة نفطيا وحضور الميليشيات وصراعها على قبضة المدينة.

الاتصالات بين الشرق والغرب سواء من خلال خليفة حفتر وابنائه من ناحية وعبدالحميد الدبيبة من ناحية أخرى، وعقيلة صالح وخالد المشري لم تنقطع خلال الشهور الفائتة ويتصور شفيق أنها لن تنقطع أيضا طالما هم جزءا من المشهد السياسي حتى تقع عملية تصفية المشهد السياسي وتسوية النقاط الفنية الخاصة بقواعد الترشيح وتوحيد السلطة التنفيذية والمصارف المالية.

ممثل الأمين العام لـ”الأمم المتحدة” لدى ليبيا عبد الله باتيلي، كان أكد في تصريحات صحفية قبل أيام، أهمية توحيد السلطة التنفيذية من خلال “مجلس النواب ومجلس الدولة”، وأن تكون هناك مؤسسات عسكرية موحّدة ومصرف مركزي واحد.

باتيلي أردف أن هذه قضايا تتسبب في انقسام داخل ليبيا. وتابع “في ظل هذه المؤسسات المنقسمة لا يمكن إيجاد الظروف لتحقيق الازدهار، والشعب الليبي سئم من الانقسام، ويواجه مخاطر تهدد السيادة الوطنية ووحدة أراضيه وستزداد تلك المخاطر في ظل الانقسام”.

إجمالا، يبدو أن المشهد برمته يعطي صورة بأن الوضع في ليبيا غير طبيعي ومأزوم، والتدخلات الخارجية كبيرة وعميقة، وليس من السهل إخراجها، رغم المحاولات الأممية، وبالتالي في خضم هذا التشرذم والانقسام والتوترات فإن هذا كله سيعمّق من فجوة معضلة الاستحقاق الانتخابي، وإنهاء حالة التفلت السياسي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات