في الوقت الذي لا تزال فيه تونس تعاني من أزمة اقتصادية حادة، أعلنت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، أن “الاتحاد الأوروبي” سيصرف أول دفعة من المساعدات المالية إلى تونس الأسبوع المقبل، في تطور يؤشر إلى مسعى بروكسل وروما لإعطاء زخم جديد للعلاقات مع تونس بعد التوتر الأخير الذي ضرب علاقات الجانبين، بخاصة فيما يتعلق بأزمة المهاجرين.

إيطاليا قادت الأشهر الأخيرة، جهودا لتقديم الدعم المالي اللازم لتونس، التي تئنّ تحت وطأة واحدة من أسوأ أزماتها الاقتصادية، حيث تسببت في فقدان عديدٍ من السلع الأساسية، وذلك في خضم تعثر المحادثات مع “صندوق النقد” الدولي، إذ يشترط الأخير إجراء حزمة إصلاحات اقتصادية قاسية لتقديم الدعم، وهو ما يرفض الموافقة عليه الرئيس التونسي قيس سعيّد، معتبرا ذلك تدخّلا في الشؤون الداخلية لبلاده.

ذلك يأتي بعد أن أرجأت تونس أخيرا زيارة لوفد أوروبي ومنعت برلمانيين أوروبيين من دخول أراضيها، وذلك بالتزامن مع زيادة قياسية في أعداد المهاجرين غير النظاميين، على رغم الإجراءات الأمنية المشددة التي أقرّتها البلاد للتصدي لهذه الحملة، وهو ما أثار تكهنات بوجود ضغط تونسي على الأوروبيين للإفراج عن المساعدات المالية التي تمّ الاتفاق عليها في البروتوكول الذي تم توقيعه في 16 تموز/يوليو الماضي، في قصر “قرطاج” الرئاسي، والتي تُقدّر بحوالى مليار دولار.

تعثر قرض “صندوق النقد” الدولي لتونس

“صندوق النقد” الدولي، كان قد وافق مبدئيا على منح تونس قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار، لكن لا يزال متعثرا منذ شهور، الأمر الذي ساعد في مفاقمة الأزمة المالية في البلاد، بعد أن كان متوقعا أن يشهد الوضع الاقتصادي والمالي التونسي حالة انفراج، إلى جانب استعادة السلطة رئاسة وحكومة الثقة في نفسها، خاصة بعد تراجع شعبية الرئيس قيس سعيّد خلال الفترة الأخيرة، وذلك بسبب ما أحدثته الأزمة من مشكلات اجتماعية دفعت في بعض الأحيان المواطنين للاحتجاج.

إن أهمية القرض تفوق قيمته المالية، لتمثل تجديد ثقة الفاعلين الاقتصاديين في العالم بقدرة تونس على تخطي الوضع الراهن. كذلك، ستحفّز هذه الثقة العديد من شركاء تونس على الوفاء بوعودهم فيما يتعلق بتمويل الميزانية، والوعود التي كانت معلّقة على مدى شهور من المفاوضات مع الصندوق، إلا أن ذلك بقي رهن المفاوضات، ما ترك تونس تنتظر بشدة مساعدات “الاتحاد الأوروبي”.

بيد أنه من غير الواضح الأسباب التي دفعت “الاتحاد الأوروبي” إلى التحرك في هذا التوقيت من أجل صرف المساعدات المالية لتونس، لكن النائب البرلماني السابق المقيم في إيطاليا، مجدي الكرباعي، رجّح أن تكون بلاده قد استجابت لطلبات أوروبية قبل الإفراج عن هذه المساعدات.

تعليقا على ذلك، يقول أستاذ الاقتصاد السياسي التونسي نزار الجليدي، إن كل ما يدخل تونس والخزينة التونسية من شأنه أن يساعد البلاد، لاسيما في ظل تحولها إلى موطن توطين مفتعل لأفارقة جنوب الصحراء، حيث أصبحت تونس محطة من محطات مرور المهاجرين الكبرى، مبينا أن هذه الأموال التي صرحت عنها رئيس الحكومة الإيطالية؛ ستُدخل تونس كجزء من اتفاق موقّع عليه للحد من الأوضاع التونسية التي أصبحت مقلقة لتونس ذاتها ولدول الجوار وخاصة لإيطاليا.

الجليدي وفي حديث لموقع “الحل نت”، أشار إلى أن هناك تداخل مصالح بين “الاتحاد الأوروبي”، وكذلك عدم تفاهم في المعبر الأوروبي حول حركة الهجرة غير الشرعية، لذلك أن إطلاق الأموال جاء ضمن مناورة لرئيسة الحكومة الإيطالية داخل “الاتحاد الأوروبي”، بحيث تحاول سحب البساط من فرنسا الرافضة لكل اتفاق.

تونس تستثمر لتوسعة علاقتها

بالتالي، فإن تونس تحاول استثمار الموقف لتنويع شراكاتها، ولعل زيارة وزير الخارجية التونسي إلى روسيا، تمثل إشارة قوية لأوروبا بأن تونس قد تذهب إلى تغيير البوصلة التونسية من الغرب إلى الشرق، نحو شراكات جديدة، إذ بعد ما شهدته البلاد، لا يمكن أن تكون تونس مرتهنة إلى النظام الواحد أو لكتلة أو شريك واحد، وهو ما ساعد من خلال هذه السياسة في الإفراج عن هذه الأموال المتفق عليها، بحسب أستاذ الاقتصاد السياسي التونسي.

رئيسة الوزراء الايطالية جورجيا ميلوني مع الرئيس التونسي قيس سعيد/ إنترنت + وكالات

الجليدي، لفت إلى أن تونس الآن تمر في وضعية جغرافية مهمة جدا، في مقابل التحركات الجغراسياسية القائمة حاليا في العالم والمنطقة، وخاصة في القارة الإفريقية والعمق المتوسط، إذ تبحث تونس عن مخارج خاصة، وهذا يحق لها في إطار الـ “لاءات الثلاث” وهي لا للتدخلات في الشأن السياسي التونسي، ولا للتدخل في القرار الوطني التونسي، ولا لفكرة تحويل تونس لحارس حدود مقابل المال.

وسط ذلك، أكد الجليدي أن، دفعة المساعدات هذه تفرز الدور الأوروبي تجاه تونس، لكن هذا لا ينفي أن هذا الدور يأتي في ظل حاجة أوروبا للحفاظ على سلمها وأمنها، كما أنها محتاجة لشريك مثل تونس، لذلك أن هذه الأموال ليست هبة تعطيها أوروبا لتونس بقدر ما هي تخضع لقانون الحاجة وحتمية القانون، مبينا أن تونس لم تقطع علاقتها بأوروبا لكن الأخيرة هي التي لا تزال متشبثة بالكبرياء السياسي الذي سقط قناعه في دول الساحل الإفريقي وهو ما يتطلب إيجاد معادلة جديدة للتعامل.

أما عن دلالة توقيت الإفراج عن هذه الأموال، أوضح الجليدي، أن الإفراج عن هذه الأموال، يحمل دلالة سياسية تتمثل بمحاولة إحراج فرنسا وألمانيا و”الاتحاد الأوروبي” من طرف إيطاليا، بالإضافة لإحراج “صندوق النقد” الدولي والأميركيين الذين لا يزالون يصرّون على معاقبة تونس، مشيرا إلى أن رسائل إيطاليا واضحة، إذ لا تريد سقوط الاقتصاد التونسي لأن بسقوطه سيسقط أمن إيطاليا واقتصادها، بالنظر إلى أنها الشريك الأول لتونس.

كل ذلك، يتزامن مع ازدياد معدلات الفقر في تونس، وغرق الطبقة الوسطى في مستنقع الاحتياج وفقدان القوة الشرائية وضعفها وتدهور الدخل والإيرادات، بحسب ما أظهرته نتائج المسح الوطني للنفقات والاستهلاك ومستويات المعيشة، الذي أشار إلى اتساع معدل الفقر في البلاد إلى 16.6 بالمئة في عام 2021، مقارنة بـ 15.2 بالمئة في عام 2015.

آمال كبيرة تعقدها تونس

لذلك في ظل رؤيةٍ ضبابية ترسم المشهد في تونس التي تعثرت مفاوضاتها مع “صندوق النقد” الدولي منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي؛ تُعلّق الآمال بشكل كبير على الدور الذي يمكن أن تلعبه أموال “الاتحاد الأوروبي” في دعم البلاد التي تمثل الديون فيها حوالي 80 بالمئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، وتواجه أزمة سيولة واسعة، أمام مواجهة أزماتها.

مواطنون تونسيون يقفون في طابور الخبز/ إنترنت + وكالات

يُشار إلى أن الاقتصاد التونسي كان قد تعرّض لضربات متكررة منذ انتفاضة 2011، وأضرت هجمات دامية لمسلحين عام 2015 بقطاع السياحة الحيوي، وتسببت جائحة “كوفيد-19” في 2020 بانكماش الاقتصاد بنسبة 8.8 بالمئة، كما دمّر الجفاف الزراعة، مما أدى إلى تفاقم العجز التجاري.

في حين استمرت الائتلافات الحاكمة على مدى العقد الماضي في تجنّب اتخاذ قرارات صعبة، ويقول محللون، إنها فشلت في التعامل مع مصالح تجارية قوية أعاقت المنافسة، فيما حاولت معالجة مشكلة البطالة من خلال زيادة التوظيف في الشركات الحكومية التي أصبحت غير مربحة، ما فاقم الأوضاع بتونس بشكل كبير

نتيجة لذلك، قال “صندوق النقد” الدولي، في عام 2021، إن فاتورة أجور الدولة تبلغ نحو 18 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي من بين أعلى المعدلات في العالم، فيما يمثل الدعم 8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تمثل ديون الشركات الحكومية الخاسرة 40 بالمئة منه.

فيما من المتوقع أن تبلغ احتياجات الاقتراض الخارجي لهذا العام أكثر من 5 مليارات دولار، وذلك بينما سجلت مستويات التضخم بالبلاد في حزيران/يونيو الماضي، 9.3 بالمئة، بتراجع طفيف عن شهر أيار/مايو الذي سجل 9.6 بالمئة، بعد تسجيل 10.1 بالمئة في نيسان/أبريل، و10.4 بالمئة في شباط/فبراير الماضي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات