في زمن يسود فيه الحديث عن زيادة الرواتب، ينتظر السوريون بفارغ الصبر قرار الزيادة المرتقبة التي أثارت جدلا واسعا في الأوساط السورية. وفي ظل هذه الآمال المعقودة على هذه الزيادة، تختلف وجهات النظر حول تأثيراتها على الحياة اليومية للمواطن السوري وعلى الاقتصاد بشكل عام.

منذ اللحظة التي أُعلن فيها عن احتمالية زيادة الرواتب، بدأت تتداول الشائعات والتوقعات بشأن تبعاتها السلبية المحتملة. ولكن هل يتم تضخيم تلك الآثار لتُلقي الرعب في قلوب الناس، علاوة على ذلك هل يتم استغلال التحليلات الخيالية لإظهار الأمور بأبعاد أكبر مما هي عليه في الواقع.

في محاولة لإلقاء الضوء على هذا الجدل المثير، أكدت باحثة في الشأن الاقتصادي، أن الآثار السلبية لزيادة الرواتب يتم تضخيمها بشكل مبالغ فيه بعيدا عن الحقائق، مشيرة إلى أنه عندما يتم الحديث عن زيادة الرواتب، يتم عادة ربطها بزيادة في الأسعار، وهذا الادعاء غير صحيح تماما. فالأسعار تشهد تذبذبا مستمرا بغض النظر عن حدوث زيادة في الرواتب أو عدمها. وبالتالي، فإن ارتفاع الأسعار ليس سوى ذريعة تُستخدم لتجنب اتخاذ قرارات الزيادة في الرواتب.

قصة المبالغة للآثار السلبية لزيادة الرواتب

إن عملية زيادة الرواتب ترتبط ارتباطا وثيقا بالعملية الإنتاجية والوضع الاقتصادي العام للبلاد، وفقا لما تحدثت به الدكتورة رشا سيروب، لموقع “شام تايمز” المحلي، أمس الثلاثاء. وفي هذا السياق، تتساءل الباحثة عن السبب الحقيقي وراء تضخم الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها السوريون. 

ركاب يستقلون حافلة نقل عام مزدحمة في دمشق - إنترنت
ركاب يستقلون حافلة نقل عام مزدحمة في دمشق – إنترنت

الحقيقة المرّة برأي سيروب هي أن الاقتصاد السوري لم يعد ينتج، بل أصبح اقتصادا مستهلكا. وبالتالي، فإن ارتفاع الأسعار المتواصل الذي تشهده البلاد ليس له أي صلة بزيادة الرواتب بل هو نتاج لهذه المشكلة الأساسية في هيكل الاقتصاد.

إذاً بحسب تفسير سيروب، يبدو أن الرهبة والخوف المتعلق بتضخيم الآثار السلبية لزيادة الرواتب قد تخدم مصالح سياسية واقتصادية أخرى. وهي محاولة لصناعة تصوّر سلبي يهدف إلى إلهاء الجمهور عن القضايا الحقيقية التي تعاني منها البلاد وتتطلب حلولا جذرية.

زيادة الرواتب قد ينجم عنها زيادة في الأعباء المالية على الموازنة العامة للدولة طبقا لحديث الخبيرة الاقتصادية، ورغم أن هذا الأثر السلبي يمكن أن يكون حقيقيا، إلا أنه لا يبرر عدم اتخاذ قرار زيادة الرواتب. فزيادة عجز الميزانية العامة للدولة يرجع لعدة أسباب، بما في ذلك تراجع الإيرادات العامة نتيجة التهرب الضريبي وعدم جمع الإيرادات الضريبية المستحقة، بالإضافة إلى عدم استثمار الأموال العامة بشكل فعال.

الباحثة في الشأن الاقتصادي أوضحت أن الآثار الإيجابية لزيادة الرواتب تفوق الآثار السلبية بكثير. فعندما يحصل العامل على أجر يكفيه لحياة كريمة وتلبية احتياجاته الأساسية، يزداد أداؤه والولاء لعمله. وبالتالي، يكفيه العمل في وظيفة واحدة دون الحاجة للعمل في وظائف إضافية لضمان حياة كريمة. وهذا يؤدي إلى تنشيط الاقتصاد السوري بشكل كبير، إذ يزيد الإنتاج والاستهلاك وتتحسن القدرة الشرائية للمواطنين.

الهجرة والاستقالة الحل الوحيد للموظفين

حديث سيروب المطمئن لا يتناسب مع الواقع، لا سيما مع استمرار انهيار مستوى الحياة المعيشية في سوريا، ومماطلة الحكومة بتعديل الرواتب والأجور لتصبح أقرب نوعا ما إلى مستوى أسعار السلع والخدمات في البلاد، إذ زادت مؤخرا معدلات الاستقالة من المؤسسات الحكومية، حيث أصبح موظفو الحكومة يفضلون العمل في القطاع الخاص، بعد أن أصبحت رواتب الحكومة تقريبا بلا قيمة.

مواطنون سوريون يصطفون في طوابير طويلة للحصول على الخبز في منطقة المزة بدمشق - إنترنت
مواطنون سوريون يصطفون في طوابير طويلة للحصول على الخبز في منطقة المزة بدمشق – إنترنت

معظم الموظفين في القطاع العام يتفقون على أن الراتب لا يكفي، فالأجر الشهري الذي قد لا يتجاوز 100 ألف ليرة سورية، في أحسن الأحوال لا يكفي لتغطية مصروفات العائلة لأكثر من 48 ساعة. وقد يكون ذلك الراتب كافيا لشراء منظفات ومحارم لمدة يومين أو ثلاثة أيام على الأكثر، ولا يمكن أن يغطي باقي متطلبات المعيشة الأساسية الأخرى.

غالبية الموظفين السوريين يعملون حاليا في فترات ما بعد الظهر، سعيا لتحسين مستوى دخلهم وتغطية أدنى مصروفاتهم الضرورية، مثل التغذية والشراب والرعاية الطبية والفواتير. ومع ذلك، ينسون المصروفات الموسمية مثل الملابس والأدوات المنزلية. وبالتالي، يجد الموظف نفسه مضطرا للعمل في المساء، سواء كان ذلك في قيادة سيارة أجرة أو في المقاهي، حيث تعد هذه الوظائف هي الأكثر طلبا وفقا لتجاربهم.

بسبب ذلك، يوجد عدد ملحوظ من الموظفين الذين يقدمون استقالاتهم بسبب عدم قدرتهم على تغطية نفقاتهم الشهرية بالراتب المتاح. ويرون أن الذهاب إلى العمل أصبح مضيعة للوقت، حيث يعتقدون أن هناك وظائف صباحية توفر رواتب أفضل من تلك المقدّمة في القطاع العام. وهذا الواقع يدفعهم لترك وظائفهم والبحث عن أعمال أخرى توفر لهم استقرارا ماليا بحسب وصفهم.

وفيما يتعلق برأي رئيس اتحاد العمال في محافظة اللاذقية، منعم عثمان، فقد أكد لصحيفة “الوطن” المحلية، أمس الثلاثاء، أن عدد الاستقالات في القطاع العام قد بلغ 900 استقالة منذ بداية العام الحالي وحتى تاريخه. وهذا يعكس الوضع الصعب الذي يواجهه الموظفون ورغبتهم في البحث عن فرص أفضل وأكثر جدوى مالية.

عثمان أشار إلى أن العديد من العمال الذين قدموا استقالاتهم ينتمون إلى قطاعات العمل التي تتميز بظروف صعبة وتتطلب جهدا وتعبا، مثل عمال الغزل والنسيج. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض هذه الوظائف تتطلب تحمل تكاليف المواصلات بسبب بُعدها عن مكان إقامة العمال.

رئيس اتحاد العمال أكد أن معظم العمال الذين يقدمون استقالاتهم إما يهاجرون أو يعثروا على وظائف بديلة في الزراعة، أو التجارة، أو حتى قيادة سيارات الأجرة وغيرها من الأعمال. ويعتبرون أن هذه الوظائف توفر على الأقل تكلفة المواصلات التي كانوا يتحمّلونها للوصول إلى وظائفهم السابقة، خصوصا أن رواتبهم الحالية لا تكفي لتغطية تلك التكاليف بالكاد، وفقا لتعبيرهم.

تحسين الرواتب يخفف من المشكلات الاجتماعية؟

منذ بداية العام الجاري، ارتفعت وتيرة الأعباء الاقتصادية على السوريين، خاصة بعد سلسلة الارتفاعات التي أصابت السلع والخدمات الأساسية، فضلا عن القرارات الحكومية التي ساهمت في رفع تكاليف إنتاج السلع والمواد الغذائية.

سوريون يتسوقون في سوق بدمشق بعد ساعات من إصدار مرسوما تشريعيا يقضي بزيادة رواتب العسكريين بنسبة 50 بالمئة - إنترنت
سوريون يتسوقون في سوق بدمشق بعد ساعات من إصدار مرسوما تشريعيا يقضي بزيادة رواتب العسكريين بنسبة 50 بالمئة – إنترنت

متوسط تكاليف معيشة أسرة سورية مكونة من خمسة أفراد، قفز إلى أكثر من 6.5 مليون ليرة سورية، في حين وصل الحد الأدنى إلى 4.1 مليون ليرة سورية، بحسب “مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة”، في الوقت الذي لم يزد فيه الحد الأدنى للأجور عن 92 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 10 دولار تقريبا.

بناء على الارتفاع في أسعار السلع الغذائية، فقد سجل شهر تموز/يوليو الجاري، ارتفاع متوسط معيشة الأسرة في سوريا بحوالي 890 ألف ليرة سورية، وذلك عن متوسط التكاليف التي سجلها مؤشر صحيفة “قاسيون” المحلية، في نهاية شهر آذار/مارس الماضي.

بناء على ذلك، تفاقمت ظاهرة استقالة الموظفين من المؤسسات الحكومية، وقد تهدد هذه المؤسسات، خاصة وأن بعض القطاعات تشهد استقالات جماعية للموظفين، الباحثين عن فرص أفضل، كذلك فإن شريحة واسعة من المستقيلين هم أشخاص وجدوا فرصة للخروج من البلاد بشكل نهائي، الأمر الذي يهدد استمرارية بعض المؤسسات التابعة للحكومة.

من جهتها ترى سيروب أن تحسين الرواتب يخفف من المشكلات الاجتماعية مثل السرقات التي تحصل كل يوم، ويخفف أيضا من المشكلات الأسرية ككل سواء الأب أو الأم ويصبح لديهم المقدرة على إنشاء أسرة بأسلوب جيد.

بخصوص التصريحات والمطالبات بزيادة كبيرة في الرواتب، فإن إضافة صفر إلى الرواتب ستؤدي إلى ارتفاع سعر الدولار إلى 30 ألف ليرة سورية خلال شهر واحد. وهذا يعني تعرّض المصارف الخاصة والعامة للإفلاس نتيجة لتراجع القوة الشرائية للاحتياطيات النقدية بالليرة السورية التي تحتفظ بها، وتراجع القوة الشرائية للقروض بنسبة تزيد عن 75 بالمئة.

بناء على ذلك، يبدو أن أية محاولة لطمئنة الشارع السوري لن تؤتي بنتائج إيجابية لأن أي زيادة قد تطرأ على الرواتب والأجور، حتى لو وصلت إلى عشرة أضعاف الراتب الحالي، لن تحسّن من مستوى المعيشة للمواطن إلا إذا رافقها مع عاملين أساسيين. أولا، تحديد أسعار الأغذية والخدمات بما يتناسب مع متوسط الدخل، وثانيا، تحسين سعر صرف الليرة السورية وإلا سيبقى الدولار شماعة للتجار وهو المتحكم الرئيسي بأسعار السلع داخل البلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات