في عالم يشهد تغيرات جيوسياسية مستمرة، تبرز قضايا متلاحقة تهز أركان العلاقات الدولية وتلهب المشاعر والانقسامات. ومن بين هذه القضايا التي تشد الأنظار وتضع العالم على مفترق طرق، يبرز اسم الـ “بريكس” بثقله السياسي والاقتصادي والاستراتيجي. فالهند والبرازيل تتّحدان ضد الصين، وعلى محك مع مجموعة الـ “بريكس” في أزمة هامة تحدق بأهميتها وتأثيرها على مستقبل العالم.

عندما يتعلق الأمر بالقوى العظمى، تصبح الصراعات والتحالفات لعبة ديناميكية معقدة، يتم تداولها بتكتيكات مختلفة ومناورات ذكية، وتشتعل الصراعات السياسية والاقتصادية على ساحات القوة والنفوذ. وهذا بالضبط ما يجري في عالم الـ “بريكس” حيث تتجاذب قوى عظمى ثلاثة الهند والبرازيل والصين من أجل مصالحها وسياستها في سبيل التموضع كمجموعة ذات تأثير عالمي. والهدف المُعلن هو فقط مواجهة الولايات المتحدة.

تحالف “بريكس” كان يتطلع إلى إنشاء عملة جديدة لتحدي وضع الاحتياطي العالمي للدولار الأميركي. لكن التكتل أخذ منعطفا قبل شهر من القمة وأعلن أن تشكيل عملة جديدة لن يتم مناقشته في آب/أغسطس، وفي الوقت الراهن يقول مسؤولون مطلعون إن الهند والبرازيل تقاومان محاولة صينية لتوسيع مجموعة الـ “بريكس” للأسواق الناشئة بسرعة لتنمية نفوذها السياسي ومواجهة الولايات المتحدة.

هنا تبرز التساؤلات حول تأثيرات رفض الهند والبرازيل محاولة التوسع الصينية في مجموعة “بريكس” على العلاقات بين هذه الدول والصين، وما السيناريوهات المحتملة لمستقبل مجموعة “بريكس” في ضوء هذه الأحداث.

“بريكس” يشهد أزمة داخلية

“بريكس”، الاسم الذي صار يرنّ في أذان العالم كجزء من مستقبل مجهول يلوح في الأفق، لا يوجد له شعار محدد ولا حتى علم يدل عليه، هو تحالف يضم الهند والبرازيل وروسيا والصين وجنوب إفريقيا، وهم مجموعة تراهن على التعاون والتنسيق لتحقيق طموحات سياسية واقتصادية مشتركة. حيث تسعى الأعضاء الخمسة لتعزيز دورها في العالم وتوجيه المسار الاقتصادي للدول الناشئة، بعيدا عمّا يسمونه الهيمنة الغربية.

المحادثات التحضيرية لقمة "بريكس" في جوهانسبرج - إنترنت
المحادثات التحضيرية لقمة “بريكس” في جوهانسبرج – إنترنت

في المحادثات التحضيرية للقمة في جوهانسبرج، خرجت الهند والبرازيل محدّدتين موقفا قويا ضد محاولة صينية لتوسيع رقعة نفوذ الـ “بريكس” بسرعة لصالح الصين. وهنا أخذت الأمور منحى جادا وجديرا بالمتابعة بعين الاعتبار. إذ إن ما سيحدث في القمة المقبلة قد يكون مفصليا ومؤشرا على تجاذب القوى وصراع الاهتمامات.

البرازيل تريد تجنب التوسع جزئيا بسبب مخاوف معاداة الاتحاد الأوروبي وأميركا، بينما تريد الهند قواعد صارمة بشأن كيف ومتى يمكن للدول الأخرى الانضمام للمجموعة، دون توسيعها رسميا. وسيتطلب أي قرار إجماعا بين الأعضاء الذين سيجتمعون في الفترة من 22 إلى 24 آب/أغسطس القادم.

إمكانية توسيع المجموعة لتشمل إندونيسيا والسعودية، كانت ضمن المناقشات الخاصة، حيث مارست الصين ضغوطا مرارا وتكرارا من أجل التوسع خلال تلك الاجتماعات. فيما تريد الهند والبرازيل استغلال القمة لبحث إمكانية ضم دول إضافية تتمتع بصفة مراقب، وتؤيد ذلك جنوب إفريقيا.

مسؤولان هنديان ذكرا لموقع “بلومبرغ” الأميركي، أن مسودة قواعد الانضمام إلى المجموعة تمت صياغتها بعد معارضة الهند لضغط الصين من أجل التوسع. وأفاد المسؤولون أنه من المتوقع مناقشة المبادئ التوجيهية واعتمادها خلال القمة في الشهر المقبل.

أحد المسؤولين بيّن أن الهند طرحت فكرة أن دول الـ “بريكس” يجب أن تتطلع إلى الاقتصادات الناشئة وكذلك الديمقراطيات مثل الأرجنتين ونيجيريا، إذا كانوا يريدون توسيع المجموعة، بدلا من المملكة العربية السعودية، بحكمها الأوتوقراطي.

“بريكس” إلى الانقسام

كتلة “بريكس” تشكلت رسميا في 2009-2010، وتكافح من أجل الحصول على نوع من التأثير الجيوسياسي الذي يتناسب مع امتدادها الاقتصادي الجماعي. ويمثل أعضاؤها الحاليون أكثر من 42 بالمئة من سكان العالم، ويمثلون 23 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و18 بالمئة من التجارة.

كتلة "بريكس" تشكلت رسميا في 2009-2010، وتكافح من أجل الحصول على نوع من التأثير الجيوسياسي - إنترنت
كتلة “بريكس” تشكلت رسميا في 2009-2010، وتكافح من أجل الحصول على نوع من التأثير الجيوسياسي – إنترنت

مسؤول برازيلي، أكد أن بلاده تعمل بهدوء لتجنب المواجهة المباشرة في كتلة الـ “بريكس” ومقاومة الضغط من الصين لجعلها هيئة عدائية تتحدى مجموعة السبع. وأشار المسؤول إلى أن الصين كررت طلب التوسيع في جميع الاجتماعات التحضيرية، بما في ذلك اجتماعين عُقدا الأسبوع الماضي بشكل فعلي.

اقتراح البرازيل هو إنشاء فئتي “مراقب” و”دولة شريكة”، وأن الدول الجديدة ستنضم أولا من خلال هذه الفئات قبل النظر في ترقيتها إلى الأعضاء، فيما ستدعم البرازيل إندونيسيا لبدء العملية.

الخبير في الاقتصاد الهندي الحديث، فيصل ديفجي، أوضح لـ”الحل نت”، أن الهند كانت العضو الأول في “بريكس” من أشار هذا الشهر إلى أنها لن تشارك في تشكيل العملة. كما تحدثت محافظ “البنك المركزي” الروسي، إلفيرا نابيولينا، أيضا عن عملة الـ “بريكس” قائلة إن إطلاقها غير ممكن في الوقت الحالي.

إطلاق عملة جديدة للتجارة العالمية سيكون صعب التنفيذ للغاية، وليس مشروعا بسيطا على الإطلاق، وهذا كان الانقسام الأول بين الدول الأعضاء قبيل انعقاد القمة التي كانت تعوّل عليها الصين في تحدي القوى الاقتصادية الكبرى، طبقا لما ذكره ديفجي.

الهند وروسيا كانتا أول عضوين في “بريكس” يدقان مسمار الانقسام في التكتل، ثم جاء طلب جنوب إفريقيا بعدم حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى القمة شخصيا واقتصار حضوره عبر تقنية الفيديو، حتى لا تضطر جنوب إفريقيا إلى تنفيذ مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بحقه.

اجتماع قادة الـ “بريكس” العام الماضي سمح بتوسيع العضوية، وإضافة المزيد من الأعضاء إلى التكتل، هو إجماع سياسي للدول الخمس، لكن اعتراض الهند والبرازيل هذه المرة يشي بحسب ديفجي، بأن هناك تذبذب سياسي ضد الصين التي تسعى لاستقطاب الدول الناشئة بما يخدم مصالحها.

هل تفقد الصين سيطرتها على “بريكس”؟

طبقا لاعتقاد الخبير في الاقتصاد الهندي الحديث، فإن رفض الهند والبرازيل محاولة التوسع الصينية في مجموعة “بريكس” هو بداية الطريق إلى تفاقم العلاقات بين هذه الدول والصين. وقد تشعر الصين بخيبة أمل وإهانة من رفض الهند والبرازيل، وقد تؤدي هذه المشاعر إلى توترات وصراعات بين الدول. بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي محاولة الصين لتوسيع مجموعة الـ “بريكس” إلى زعزعة استقرار المجموعة وجعلها أقل فعالية.

إمكانية توسيع المجموعة لتشمل إندونيسيا والسعودية، كانت ضمن المناقشات الخاصة - إنترنت
إمكانية توسيع المجموعة لتشمل إندونيسيا والسعودية، كانت ضمن المناقشات الخاصة – إنترنت

سبب اعتراض الهند والبرازيل في المحادثات التحضيرية لتوسيع مجموعة الـ “بريكس” ورغبة الصين في التوسع، هو لمحاولة الحفاظ على التوازن في التحالف وتجنب تحوّل الـ “بريكس” إلى انتقال مفاجئ لصالح الصين. قد تكون رغبة الصين في توسيع المجموعة تهدف إلى تعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي وتعزيز موقفها ضد التحالفات الغربية القوية، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

الصين حاليا وفقا لتقديرات ديفجي، تنظر إلى رد فعل الهند والبرازيل على أنه تحدي لسياستها التوسعية، مما يؤثر على العلاقات الثنائية بينها وقد يؤدي إلى ازدياد التوترات الجيوسياسية بين الدول الثلاث.

قيام الهند والبرازيل بالاعتراض في المحادثات التحضيرية لتوسيع مجموعة الـ “بريكس”، لأن الدولتين تشعران بالقلق من أن التّوسع في المجموعة سيؤدي إلى زيادة نفوذ الصين. وهذا التوسع في المجموعة سيجعل من الصعب الحفاظ على الاتساق بين أعضائها وسيكلّفهما أموالا.

من المتوقع أن تؤثر الضغوط المتكررة من الصين للتوسع في مجموعة الـ “بريكس” على القمة بشكل سلبي. ومن المرجح أن تؤدي الضغوط الصينية إلى زيادة التوترات بين الدول الأعضاء في المجموعة، مما قد يجعل من الصعب التوصل إلى اتفاق بشأن التوسع، وهذا السيناريو سيولّد إضعاف أو انقسام داخل المجموعة على المدى القريب، وقد يؤدي في النهاية إلى انهيار التكتل كليا.

يمكن أن تعكس هذه الأزمة تحوّلا في التوازن العالمي للقوى. إذ تسعى الصين إلى زيادة نفوذها في العالم، وتوسيع مجموعة الـ “بريكس” هو جزء من هذه الاستراتيجية. والولايات المتحدة تحاول مواجهة الصين، ومحاولة الهند والبرازيل منع توسيع مجموعة الـ “بريكس” تأتي في خدمة هذه الاستراتيجية بشكل غير مباشر، وتؤكد على صحة نظرية واشنطن حول بكين.

تصاعد التوترات قد ينذر بتدهور العلاقات بين الدول الأعضاء الحاليين، مما يؤثر على قدرتهم على التعاون وتحقيق أهداف التحالف بشكل فعّال. قد يتسبب ذلك في تضعيف دور الـ “بريكس” ككيان يُروّج له على أنه دولي قوي، وقد يدفع الدول الأعضاء إلى البحث عن خيارات أخرى؛ لأنهم بالوقت الراهن في مرحلة تصعيد متواصل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات