إن الضفة الغربية، التي تشهد تصاعدا في العنف والاضطرابات منذ نهاية الحرب بين إسرائيل و”حماس” في غزة في أيار/مايو الفائت، تواجه خطرا جديدا يهدد استقرارها وأمنها. إنه خطر التدخل الإيراني، الذي يستهدف ضعف وانقسام السلطة الفلسطينية، ويحاول توسيع نفوذه عبر دعم المجموعات المسلحة الموالية له في الضفة الغربية، خاصة حركة “الجهاد الإسلامي”. 

حيث إن هذه المجموعات، التي تتلقى تمويلات وأسلحة من طهران، وتصنّفها إسرائيل والولايات المتحدة ودول أوروبية بأنها منظمة إرهابية، تشنّ هجمات على الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، وتثير التوترات مع حركة “فتح” والأجهزة الأمنية التابعة لها.

في واقعة لا يمكن تجاوزها بل ولا يجوز تجاهلها، تستغل إيران استراتيجية متكررة لضعف السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. حيث تراجع السلطة بلا تحرك فعلي، ساهم في تعزيز موقف المجموعات المسلحة المستفيدة من الدعم المالي الإيراني. ولم يكتفِ الحراك الفلسطيني بالتنديد فقط، بل اعترف مقاتلو الحركات الفلسطينية بتلقيهم دعما ماليا من إيران، مما يرسم خارطة توسع نفوذ طهران على أراضي الضفة. 

وعليه تثار التساؤلات حول كيف تستغل إيران تراكم الضعف في السلطة الفلسطينية لتعزيز تأثيرها في مناطق الضفة الغربية، وما هي التداعيات المحتملة لتوسّع نفوذ إيران في الضفة الغربية على الساحة الإقليمية والدولية.

اعتراف بتلقي تمويلات من طهران

التدخل الإيراني في الضفة الغربية هو موضوع حساس ومهم، فطهران، التي تسعى إلى أن تكون قوة إقليمية مؤثرة عبر تدخلاتها، قد تستخدم الضفة الغربية كورقة ضغط أو رافعة نفوذ في صراعها مع إسرائيل والولايات المتحدة. 

لم تكن الحركات الفلسطينية في الضفة الغربية، وعلى رأسها داود شهاب المتحدث باسم “الجهاد الإسلامي”، تتردد في الاعتراف بتلقيها تمويلات من إيران. ويُظهر هذا الاعتراف توسّع نفوذ طهران، الذي امتد من غزة إلى أراضي الضفة، واستفاد من ضعف السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس.

قادة إسرائيليون أكدوا أن التوغل الذي دام يومين في جنين الشهر الماضي لم يقتصر على الهجوم على الأشخاص وحدهم، بل أسفر أيضا عن مصادرة أسلحة وتدمير بنية تحتية تُستغل كمرتع للمسلحين المموَّلين من إيران. ولا يقتصر تأثير إيران على الأرض فقط، بل تمتد أصابعها لتأجيج الصراع من خلال استغلال مخيم لاجئين يتجاوز عددهم الآلاف، في مساحة ضيقة لا تتجاوز نصف كيلومتر مربع، كقاعدة لشنّ هجمات مميتة ضد الإسرائيليين.

السيناريو المُرتقب يبدو أكثر وضوحا مع تصريحات مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنجبي، الذي أكد في السابع من آب/أغسطس الحالي، أن إيران تعمل جاهدة على تنفيذ مخططها من خلال استغلال جماعات مسلحة مثل حركة “الجهاد الإسلامي” و”حماس” في الضفة الغربية، وكذلك “حزب الله” المدعوم من قبل إيران في لبنان. وهذا يفتح نافذة إلى حقيقة محاولات إيرانية لتوسيع نفوذها والتدخل في مسائل المنطقة عبر الجهات المسلحة الموالية لها.

لا تزال اتهامات إسرائيل مستمرة نحو إيران، حيث يتهم مسؤولون إسرائيليون النظام الإيراني بتمويل جماعات مسلحة تنشط في الضفة الغربية، وهذا يأتي ضمن حملة تشمل هجمات على إسرائيليين في الخارج، إلى جانب تمويل “حزب الله” اللبناني، وبرنامج تصنيع أسلحة نووية. مُرجحين أن الأمور تستمر بهذا الاتجاه نظرا لغياب سلطة مركزية في هذه المنطقة.

مسؤول إسرائيلي أفصح عن نسبة مقدارها حوالي 25 بالمئة من العائلات في المنطقة مرتبطة بحركة “الجهاد الإسلامي”، والتي تعتمد بنسبة 90 بالمئة على تمويل من إيران، مما يُعني تحصيل “عشرات الملايين من الدولارات” سنويا. والجدير بالذكر أن الكثير من المهاجمين الفلسطينيين الذين نفذوا هجمات داخل إسرائيل وفي الضفة الغربية مرتبطين بتلك الحركة.

كيف تمول إيران الحركات الفلسطينية؟

تامير هيمان، المدير الإداري لـ “المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي” في تل أبيب، والرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، أوضح أن إيران تجد نفسها عاجزة عن ممارسة سيطرة مباشرة بمقدار كبير على طريقة إنفاق أموالها. ويضيف بالقول “إيران تُخصص جزءا كبيرا من مواردها المالية للضفة الغربية، ومع ذلك، فهي لا تستطيع توجيه هذه الأموال بدقة أو إقناع العناصر الإرهابية بتحقيق أهدافها بالضبط. ومن هنا، يظهر أن الوضع لا يخلو من الاستدراج والمجازفة”.

بعض المصادر الصحفية، أشارت إلى أن الموالين لإيران يعتمدون على طرق متعددة لتحويل الأموال، منها تشجيع المهرّبين وتنظيم عمليات تهريب عبر العصابات الإجرامية وغيرها، بهدف توجيه مبالغ مالية كبيرة إلى مخيم جنين ومناطق أخرى، وذلك بهدف تحقيق تأثيرات إيجابية وإحداث تغييرات ملموسة.

أيضا في سياق متصل، يؤكد مسؤولون أمنيون على زيادة في حالات تهريب الأسلحة والمخدرات خلال الفترة الأخيرة، بينما يكشف مسؤولون إسرائيليون وممثلون لجماعات مسلحة عن أن الدعم الإيراني يأتي أيضا من طرق تحويل أموال أكثر تعقيدا وتمويها.

كذلك في تفصيل آخر، أفادت مصادر موثوقة لصحيفة “العرب” اللندنية، بأن آليات تحويل الأموال غالبا ما تشمل خطابات ضمان قانونية تتعلق بالعملات الأجنبية، أو طلبيات لشراء سلع متنوعة مستوردة، وتكون هذه السلع مسعرة بأسعار أعلى بكثير من قيمتها الفعلية، حيث تشمل مجموعة متنوعة من المنتجات مثل الملابس وألعاب الأطفال والأحذية والأدوات المنزلية، وعادة ما تكون هذه المنتجات مُستوردة من الصين.

علاوة على ذلك، أقر مصدر رفيع المستوى في حركة “الجهاد الإسلامي”، بأن العملية تتضمن تسليم جزء من الأموال إلى رجل أعمال متعاون مع الحركة، والذي يقوم بنقل هذه المبالغ المالية إلى أحد الأفراد الذين ينتمون إلى الجناح العسكري للحركة. وهذا يعكس حقيقة أن العملية تتخذ منهجا غير مباشر بهدف تضليل الجهات المعنية وتعقيد تتبّع مصادر الأموال.

هل ستصبح الضفة الغربية جزءا من إيران؟

إيران بحسب حديث الخبير في الشؤون العسكرية والإيرانية، العميد محمد مهدي، لـ”الحل نت”، تستغل تراكم الضعف في السلطة الفلسطينية لتعزيز تأثيرها في مناطق الضفة الغربية بعدة طرق، أبرزها تقديم الدعم المالي والعسكري والإعلامي للمجموعات المسلحة الموالية لها في الضفة الغربية، خاصة حركة “الجهاد الإسلامي”، وتثير التوترات مع حركة “فتح” والأجهزة الأمنية التابعة لها.

كذلك عبر تشجيع التحالفات والتنسيق بين المجموعات المسلحة في الضفة الغربية وغزة، لزيادة قوتهم ووحدتهم في تنفيذ المخططات الإيرانية من بوابة مواجهة إسرائيل. فضلا عن آلية ترويج لخطاب “مقاوم وطني يستهدف ضعف وانقسام وفشل السلطة الفلسطينية في تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني”. 

أيضا تحاول إيران استغلال التظاهرات والاحتجاجات التي تشهدها الضفة الغربية بسبب الأوضاع المعيشية والسياسية المتدهورة، لزرع عناصرها وتأثيرها بين المحتجين.

طبقا لحديث مهدي، فإن التداعيات المحتملة لتوسع نفوذ إيران في الضفة الغربية على الساحة الإقليمية والدولية، ستكون عبر زيادة حدة التوترات والصراعات بين إيران وإسرائيل، التي قد تتصاعد إلى حروب محدودة أو شاملة. وكذلك ضعف دور ومكانة السلطة الفلسطينية كشريك سلام محتمل مع إسرائيل، وانخفاض فرص التوصل إلى حلّ سياسي للقضية الفلسطينية.

دعم طهران عبر ذراعها العسكري “الحرس الثوري” الإيراني، لبعض الجماعات الفلسطينية، يأتي لتقوية موقف إيران كقوة إقليمية، وزيادة قدرتها على التأثير على المصالح والأمن لدول المنطقة، خصوصا دول مجلس التعاون الخليجي. والذي بدوره سيكون له تأثير سلبي على حقوق ومصالح وأحوال شعب فلسطين، الذي قد يدفع ثمن صراعات لا علاقة له به.

إيران بحسب توقعات مهدي، تسعى فعلا للسيطرة على الضفة الغربية، أو على الأقل لتحويلها إلى جبهة ضد إسرائيل، كما فعلت في غزة ولبنان. حيث إن إيران تستخدم تلك الفرصة لتعزيز تأثيرها ونفوذها بشكل عام، ولتحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة، مثل تحدي إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما، وترويج نموذجها السياسي والديني، وتأمين مصالحها الوطنية والأمنية.

استغلال القضية الفلسطينية لأغراض توسعية

مما لا شك فيه بحسب مهدي، أن دور السلطة الفلسطينية وموقفها السلبي تجاه الأحداث في الضفة الغربية يؤثر على تعزيز نفوذ المجموعات المسلحة التي تتلقى دعما من إيران، من خلال تخلي السلطة الفلسطينية عن مسؤوليتها في حماية شعبها دون اتخاذ إجراءات فعّالة لمراقبة الأنشطة غير الشرعية.

كذلك تفقد السلطة الفلسطينية شرعيتها وثقتها لدى شعبها، بسبب فشلها في تحقيق أهداف السلطة الوطنية، وتضعف السلطة الفلسطينية من قدرتها على مواجهة التدخلات والضغوطات الخارجية، سواء من إيران أو من دول أخرى، التي تحاول التأثير على المشهد السياسي والأمني في الضفة الغربية.

توسع نفوذ إيران في الضفة الغربية يؤثر على جهود التسوية والسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بشكل سلبي، لأنه يزيد من حدة التوترات والصراعات بين إيران وإسرائيل، وبالتالي يقلّص من فرص التفاوض والحوار بينهما. ويضعف من دور ومكانة السلطة الفلسطينية كشريك سلام محتمل مع إسرائيل، ويرفض أيّة حلول سياسية تقبل بها إيران.

وهذا يشجع على استمرار الجماعات المسلحة الموالية لإيران ضد إسرائيل، ويرفض أية اتفاقات أو هدنات تهدّئ من حدة العنف، ويزعزع من استقرار المنطقة، ويربك من التوازنات بين دولها.

قد يؤدي تصاعد تأثير إيران في الضفة الغربية إلى زعزعة استقرار العلاقات الإقليمية وتأثيرها على التوازنات السياسية، لأنه قد يشكل بحسب مهدي تهديدا لأمن ومصالح دول المنطقة، خاصة دول مجلس التعاون الخليجي، التي تخشى من نفوذ إيران وطموحاتها النووية.

علاوة على ذلك، قد يؤدي إلى تصعيد التوترات والصراعات بين إيران والولايات المتحدة، التي تحاول منع إيران من توسيع نفوذها في المنطقة، وتدعم حلفاءها ضدها. ويؤثر على موقف الدول الأوروبية والدولية من القضية الفلسطينية، ويقلل من فرص التوصل إلى حلّ عادل وشامل لها.

مدينة جنين تظهر كنقطة تحول مهمة في هذه المعادلة، حيث يعترف المسلحون أن الدعم المالي الإيراني يساهم في دفعهم نحو استمرار التصعيد، وهذه التطورات تشير إلى اتساع نفوذ إيران وتأثيرها على سيناريوهات المستقبل، خصوصا أن حركة “الجهاد الإسلامي” تستغل الأموال التي تتلقاها من إيران لشراء أسلحة وولاء الناس في هذه المنطقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة