لعبة الأرقام الخفية.. لماذا لا ينعكس تخفيض أسعار المشتقات النفطية على الواقع؟

في عالم مليء بالتغيرات والتحديات الاقتصادية المستمرة، تسلّط عدسة “الحل نت” على لعبة الأرقام الخفية التي تتلاعب بها سياسات الأسعار للمشتقات النفطية في سوريا، إذ إن هذا الموضوع يثير تساؤلات هامة حول مفهوم التخفيضات وتأثيرها الفعلي على الواقع الاقتصادي وحياة المواطن اليومية، وهل فعلا يمكن أن تحمل قرارات التخفيضات المزعومة تحسّنا ملموسا للأوضاع الاقتصادية.

في الأيام الأخيرة، قررت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك تخفيض أسعار المشتقات النفطية، من بينها المازوت الحر، والفيول الحر، والغاز السائل “دوغما”، والبنزين من نوع “أوكتان 95” الموزّع على القطاع الصناعي؛ وعلى الرغم من هذه الخطوة التي يمكن أن تبدو واعدة على الورق، إلا أنها لا تزال تثير استغراب الكثير من عدم انعكاسها على الواقع بالشكل المأمول، وما هو السبب وراء استمرار ارتفاع الأسعار رغم هذه التدابير.

هذه القضية تحتل مكانة بارزة في الحوار الاقتصادي السوري، إذ يعكس الوضع الراهن تحدّيات كبيرة تواجه السياسات الاقتصادية والمالية في البلاد، وتأثير هذا القرار، أو عدم تأثيره، يتعدى حدود أسعار المحروقات، فهو يلامس حياة المواطن اليومية والاستقرار الاقتصادي للبلاد بشكل عام.

زيادات شهرية لن تتوقف

يوم الأحد الفائت، وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك خفّضت أسعار المشتقات النفطية الموزع على القطاع الصناعي الخاص وبقية القطاعات الأخرى الخاصة، حيث أصبح سعر المازوت الحر 12360 ليرة سورية، والبنزين “أوكتان 95” 14460 ليرة سورية.

الخبير الاقتصادي جورج خزام، أشار في حديثه لموقع “غلوبال نيوز” المحلي، أمس الثلاثاء، إلى أن تخفيض أسعار المشتقات النفطية بواسطة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك لا يمتلك أي تأثير قوي على الأسعار، وهذا يظهر بوضوح عند مقارنته بالزيادة الكبيرة التي شهدتها أسعار المحروقات مؤخرا.

في توضيحه، بيّن خزام أن السبب وراء استمرار ارتفاع الأسعار هو عدم اتخاذ القرارات الاقتصادية اللازمة لتحرير الأسواق من القيود التي تعوّق النشاط الاقتصادي؛ إذ إن موجة الارتفاع الأخيرة في الأسعار تعزى إلى تدفق الأموال إلى السوق بشكل أسرع مما يمكنها من الامتصاص بسبب زيادة رواتب الموظفين، دون أن يتبعها نفس الزيادة في الإنتاج والتوفر الدولاري في السوق.

هذا السيناريو بتقدير الخبير الاقتصادي يتكرر بشكل دوري، حيث تتراكم الأموال في السوق كل شهر مع دخول الزيادات الراتبية التي لا تجد توازنا سلعيا معها. ومع ذلك، يتم تعزيز هذا التأثير بارتفاع مستمر في أسعار الصرف والدولار، مما يزيد من ضغوط الأسعار بشكل مستمر ومتواصل.

لا دراسة جدوى اقتصادية للقرارات

في ظل الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعاني منها سوريا، تحاول الحكومة إظهار بعض المرونة والتجاوب مع مطالب المواطنين، من خلال اتخاذ قرارات تخفيض أسعار بعض المشتقات النفطية، التي تؤثر بشكل مباشر على تكاليف الإنتاج والنقل والاستهلاك. 

لكن هذه القرارات ليست كافية لتحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي، ولم تنعكس على الواقع بشكل إيجابي، حيث يراها الاقتصاديون بأنها مجرد لعبة أرقام خفية، تخفي وراءها حقائق أخرى، تدلّ على عجز الحكومة عن مواجهة التحديات والضغوط التي تواجهها.

بيان اللجنة الاقتصادية الأخير، يشبه الدفاع عن الذات، حيث تعتبر اللجنة نفسها شريكا للتجار والصناعيين في صياغة القرارات الاقتصادية، ولكن الواقع يظهر أنها تصدر قراراتها بشكل منفصل عن احتياجات هؤلاء الفاعلين، خصوصا أن الإصرار على الالتزام بمنصة تمويل المستوردات، تسببت بأضرار جسيمة للتجار والصناعيين وللاقتصاد الوطني، بالإضافة إلى تأثيرها على سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، ويعتبر دليلا قاطعا على الحاجة لإعادة النظر في هذه السياسة.

علاوة على ذلك، عدم تضمين بيان اللجنة الاقتصادية أي تفاصيل تتعلق بدراسة الجدوى الاقتصادية للقرارات، يظهر أن اللجنة لا تمتلك فهما كافيا للجوانب الاقتصادية والمالية والتجارية لهذا المصطلح، إذ لا تعتمد على مبادئ ومعارف الاقتصاد العالمي التي تؤكد على أهمية السماح للقوى السوقية بالتحكم، وبالعبارة البسيطة، تقوم قراراتها بالتجريب فقط دون أسس اقتصادية قوية.

المؤشر الحقيقي لنجاح أو فشل سياسة اللجنة الاقتصادية والسياسة المالية المصرفية يظهر في سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، وبالنظر إلى استمرار تدهور هذا السعر، يصبح واضحا أنه يتعين التدخل لوقف هذا التدهور وإيجاد سياسات اقتصادية أكثر فاعلية واستدامة.

متمسكون بالقرارات القديمة التي لا تصلح للتطبيق

على ما يبدو فإن أصحاب الشأن الاقتصادي والمالي متمسكون بالقرارات القديمة التي لا تصلح للتطبيق لأي زمان ومكان رغم التغير السريع بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

في حديث للخبير الاقتصادي، ماجد الحمصي، مع “الحل نت”، أوضح أن تحرير الأسواق من القيود هو مبدأ اقتصادي يقوم على ترك العرض والطلب يحددان أسعار السلع والخدمات، دون تدخل من الحكومة أو أي جهة أخرى، وهذا المبدأ قد يكون مفيدا في بعض الحالات، إذا كانت الأسواق تعمل بشكل كفء وشفاف ومنافس، وإذا كانت هناك ضمانات لحماية حقوق المستهلكين والمنتجين والبيئة. 

لكن في سوريا، التي تعاني من أزمة اقتصادية وسياسية وأمنية خانقة، فإن تحرير الأسواق من القيود قد لا يحسِّن وضع المستهلك، بل قد يزيد من معاناته لأن إحدى أهم العوامل التي تؤثر على أسعار السلع والخدمات في البلاد هو سعر صرف الليرة مقابل العملات الأجنبية، خاصة الدولار.

هذا السعر يتغير باستمرار بشكل كبير، بسبب نقص الاحتياطي من العملات الصعبة، وضعف الإنتاج المحلي، والتضخم المفرط، والتلاعب بالسوق، وهذا يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد المستوردة أو التي تحتاج إلى مواد خام مستوردة، مثل المحروقات والأغذية والأدوية، ولا يستطيع المستهلك مواكبة هذه الزيادات المستمرة، خاصة إذا كان دخله ثابت أو منخفض.

قرار تحرير الأسواق من القيود طبقا للحمصي، يتطلب من الحكومة أن تلعب دورا رقابيا وتشريعيا لضمان حسن سير الأسواق، ومنع التلاعب بها من قبل التجار أو المستوردين أو المنتجين؛ لكن في سوريا، تفتقر الحكومة إلى هذه الإمكانات، بسبب ضعف مؤسساتها وفسادها وانشغالها بالصراعات المسلحة. 

كما تفتقر إلى ثقة المستهلكين والمستثمرين، بسبب سياساتها التعسفية وغير المجدية، وهذا يؤدي إلى نشوء سوق سوداء، تسودها قوانين الغاب، وتستغل فيها المافيات والميليشيات حالة الفوضى لزيادة أرباحها على حساب حقوق المستهلك.

كذلك تواجه الأسواق السورية عوائق كثيرة تحد من توافر البدائل، مثل نقص الطاقة والمواصلات والأمن والتمويل والتكنولوجيا، كما تعاني من انعدام الشفافية والمعلومات، وانتشار الغش والتزوير، وهذا يجعل المستهلك عرضة للاستغلال من قبل الموردين الحصريين أو المحتكرين، الذين يفرضون عليه أسعارا مرتفعة أو جودة منخفضة.

في النهاية، فإن تحرير الأسواق من القيود في سوريا قد لا يكون حلّا سحريا لمشاكل الاقتصاد والمعيشة، بل قد يزيد منها، فلا يمكن تطبيق هذا المبدأ في ظروف غير ملائمة، دون إصلاحات جذرية في السياسة والإدارة ولذلك فإن التخفيضات النفطية لا تُحسَّن الوضع الاقتصادي والدورة الاقتصادية في سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات