رغم أن الساحة العراقية لم تخلُ من التدخلات الخارجية يوما منذ ما بعد 2003 وحتى الآن، إلا أنها كانت متمثلة بجهات معروفة لم تغيب يوما عن المشهد، وبيد أن تركيا كانت باستمرار طرفا في ذلك، حتى وإن لم تكن بشكل فاعل أو مواز لباقي الأطراف، إلا إنها وعلى ما يبدو حريصة على الحفاظ على مساحتها الخاصة، إن لم تظهر من فترة إلى أخرى رغبة في توسعتها، مستغلة بذلك -كما باقي الفواعل- ما يشهده العراق من تحولات ومتغيرات.

آخر تلك المحاولة التركية، كما رآها مراقبين، تمثلت بتصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن الأحداث التي شهدتها محافظة كركوك شمال العراق الأسبوع الماضي، من تجاذبات سياسية وشعبية بين المكونات الكردية والتركمانية والعربية.

التجاذبات بين المكونات العرقية في المحافظة، تصاعدت على خلفية أنباء حول إصدار رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، قرارا بتسليم مبنى مقر قيادة العمليات المشتركة في كركوك إلى الحزب “الديمقراطي” الكردستاني، الذي يتزعمه مسعود بارزاني.

المبنى بحسب مسؤولين أكراد في “الديمقراطي”، تعود ملكيته للحزب، قبل أن تسيطر عليه القوات الحكومة الاتحادية عام 2017 بعد أن أخلته من الحزب، أثناء عودتها لتسلم زمام الأمن والسلطة في المحافظة المتنازع عليها، بعد أن كانت قوات البيشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان من يدير شؤون المحافظة.

من هنا بدأت القصة.. فما علاقة أنقرة؟

فالبيشمركة طيلة ثلاث سنوات ما بعد 2014، هي من كان يدر الملف الأمني في كركوك، بعد أن بادرت في ملء الفراغ الأمني الذي تركته القوات الاتحادية بعد انسحابها من القواعد والمقرات الأمنية على إثر سيطرة تنظيم “داعش” على مساحات شاسعة من البلاد، ضمنها أجزاء من كركوك.

جانب من صدامات المتظاهرين بالقرب من قيادة العمليات المشتركة بكركوك/ إنترنت + وكالات

بعد عودة سيطرة القوات الحكومية على المحافظة في 2017، استمر “الديمقراطي” الكردستاني بالمطالبة بـ “مقره” الحزبي، وعلى هذا الأساس وبحسب المتداول على لسان سياسيين، بأن القوى السياسية الشيعية، بينها رئيس الحكومة، كانوا قد وعدوا “الديمقراطي” وبجانب وعد أخرى، بإخلاء المقر وتسليمه للحزب.

ذلك مقابل مشاركة الحزب “الديمقراطي” في تشكيل الحكومة وتمريرها، بعد أن تعطل تشكيلها إثر انقسام حاد بين القوى الشيعية المقربة من إيران؛ بحيث يتم إعادة إخلاء المبنى من قيادة العمليات وتسليمه للحزب، وبعد أنباء حول الشروع بإجراءات تسليم المقر، شهدت المحافظة موجة عنف، وجد وسطها أردوغان لبلاده مصلحة كما يرى مراقبون.

إذ نظم محتجون من العرب السنة والتركمان، احتجاجات قرب قيادة العمليات في محافظة كركوك الغنية بالنفط، والتي كانت تاريخيا محل نزاع بين الحكومة الفيدرالية في بغداد والسلطات الكردية شبه المستقلة شمال البلاد، كما قطعوا الطريق الرابط بين كركوك وأربيل عاصمة كردستان.

الأمر الذي قابله مؤيدين أكراد بتظاهرات اقتربت من مقر قيادة العمليات، وطالبت بفتح الطريق الحيوي، قبل أن تنتهي بصدامات أدت إلى مقتل 4 أفراد وإصابة 16 أخرين، ليوجه رئيس الحكومة الاتحادية محمد شياع السوداني، بالتريث بتسليم المقر، وتعزيز التواجد الأمني بالمحافظة، قبل أن تصدر المحكمة الاتحادية العليا (أعلى سلطة بالبلاد) قرارا ولائيا يقضي بوقف إجراءات تسليم المقر.

الأحداث التي وضعت العراق أمام سيناريو خطير، خصوصا مع النظر لتركيبة كركوك من عدة مكومات كلا منها يعتقد بأحقيته في المحافظة، استغلها الرئيس التركي بالحديث عن حقوق التركمان الذين يشكلون أحد المكونات العرقية بكركوك، قائلا إن كركوك موطن التركمان وتعيش فيها ثقافات مختلفة، لذا أن بلاده لن تسمح بزعزعة السلام، ومن الضرورة الابتعاد عن ممارسات من شأنها تغيير التركيبة الديمغرافية لكركوك، حفاظا على السلام.

تركيا لن تقف على الحياد

تصريحات أردوغان التي أثارت موجة رفض بين الأوساط السياسية العراقية، والتي قال ضمنها بأنه طلب من وزير خارجيته هاكان فيدان، ورئيس “جهاز الاستخبارات” إبراهيم قالن، متابعة هذا الملف، وأن الهدوء بدأ بالعودة إلى كركوك إثر اتصالات أجرتها أنقرة مع بغداد وأربيل، فسرها مراقبون، بأنها رسالة لعدم سكوت تركيا في حال تسليم المحافظة للأكراد، وأنها قد تقود إلى مضاعفة الدور التركي، بما يعمق نفوذه بالعراق.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان/ إنترنت + وكالات

تعليقا على ذلك، قال الباحث في الشأن العراقي، عمار الغريباوي، إن تركيا مثل باقي الدول التي لا تكف عن التدخل في الشأن العراقي، كما أنها تخوض صراعا دوليا وإقليميا مع الأطراف الفاعلة في المشهد العراقي مثل إيران وأميركا، بالتالي أن ذلك يدفعها لتحويل البلاد إلى ساحة مواجهة تحقق من خلالها مكتسبات لتفاوض عليها في ملفات أخرى.

الغريباوي وفي حديث لموقع “الحل نت”، أشار إلى أن أنقرة تريد تعزيز أوراق ضغطها على الأكراد قدر المستطاع، بالتالي مما لا شك فيه أنها تملك رغبة التوغل قدر المستطاع بملفات مثل كركوك التي يمكن من خلالها ممارسة تأثير مباشر على الأكراد في شمال العراق، مبينا أن ذلك أيضا يندرج تحت مساعي تركيا في التوسع على مختلف الساحات، بما في ذلك من مردودات سياسة واقتصادية.

لذا، بحسب الباحث في الشأن العراقي، أن تركيا تعمل ضمن استراتيجية ناعمة تحاول من خلالها اصطياد الفرص والاستثمار في الأزمات لتضع موطئ قدم لها، وهو ما يسمح به ضعف الموقف العراقي، وعدم وجود سياسة واضحة، ومدركة لمثل هذه المخاطر، مشيرا إلى أنه قبل تركيا عمل أطراف عدة لاستخدام ذات الأسلوب ونجحت به.

الغريباوي أوضح، أن غياب الموقف العراقي، وتسيد طبقة سياسة متخادمة وتعمل لصالح أجندات خارجية، أتاح لعديد من الأطراف التي من ضمنها تركيا فرض تأثيرها داخل البلاد، فهناك “لوبيات” سياسية مثل التي تحمل شعارات الأقليات أو المستقلين، وجودها وهدفها الأساسي هو تهيئة الأجواء للتدخلات الخارجية وحماية مصالحها، سواء من خلال التصعيد الإعلامي، أو خلط الأوراق، وحتى عقد الصفقات داخل “البرلمان”، ذلك لأنها لا تحمل مشروعا وطنيا يمثلها.

بناء على ذلك، أن استمرار التجاذبات في كركوك وعدم إيجاد صيغة حل نهائي تضمن لجميع المكونات حقوقها ولجميع الأطراف فضائها العام الذي يمكنها ممارسة نشاطاتها داخله، سيمنح لتركيا وحتى غيرها فرصة التدخل بما لا يعنيها، لذلك أن يحتاج إلى مسؤولية وطنية مشتركة بين جميع الأطراف السياسية.

اتهامات متبادلة وخطوات محصنة للعراق

إلى ذلك، كان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، قد أصدر أمرا بتأجيل تسليم مقر قيادة العمليات المشتركة في محافظة كركوك، الذي كان السبب في التوترات، إلى قوات البشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، التي كانت تملك المقر في الأساس، حتى إشعار آخر، كما طالب بـ”تشكيل لجنة تحقيق”، وتعهد في بيان بـ”محاسبة المقصرين الذين تثبت إدانتهم في هذه الأحداث وتقديمهم إلى العدالة لينالوا جزاءهم العادل”.

رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني إلى جانب زعيم الحزب “الديمقراطي” الكردستاني مسعود بارزاني/ إنترنت +.وكالات

من جهته ذكر بيان لمحافظة كركوك، أن محافظ كركوك راكان سعيد الجبوري “أعلن التريث في إخلاء مقر العمليّات في كركوك”، وأشار إلى أن “المتظاهرين قرروا سحب الخيام وإنهاء اعتصامهم وفتح الطريق”.

لكن المقابل، اتهم مسعود بارزاني، الزعيم الكردي المخضرم في المنطقة المتمتعة بالحكم الذاتي، من وصفهم بـ “مثيري الشغب” بإغلاق الطريق السريع من كركوك إلى أربيل خلال اعتصامهم، وقال إن ذلك “يخلق وضعا متوترا وخطيرا للسكان”، مستغربا إنه “من المفاجئ” أن قوات الأمن لم تمنع “الفوضى والسلوك غير القانوني ممن أغلقوا الطريق”، بينما “استخدم العنف مع الشباب الأكراد والمتظاهرين”.

بدوره، وصف مسرور بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان عبر صفحته الرسمية على موقع “أكس” (تويتر سابقا)، قرار المحكمة الاتحادية العليا في العراق بإصدار أمر يقضي بإيقاف إجراءات تسليم مقر العمليات المشتركة للحزب الديمقراطي في محافظة كركوك، بالمهزلة، وذلك بينما كانت المحكمة الاتحادية قد أصدرت أمرا يقضي بإيقاف إجراءات تسليم المقر إلى حين حسم الدعوى التي رفعها بهذا الشأن رئيس “تحالف العروبة” في محافظة كركوك وتتعلق بمن يجب أن يؤول إليه مبنى المقر.

وفقا لهذه المعطيات، يتطلب من الأحزاب السياسية والسلطات العراقية الاتحادية والكردية، إعادة تقيم الأحداث ووضع معالجات من شأنها أن تردم الهوة الحاصلة ما بين المكومات في المحافظة الشمالية، ذلك في خطوة يمكن أن تجنب البلاد تحول واحدة من أهم مصادره الاقتصادية إلى نقطة تدافع دولي، وبؤرة توتر تهدد الاستقرار والتماسك الداخلي، وفق مراقبين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات