مرّت دراما البيئة الشامي خلال العشرين سنة الماضية بالعديد من المراحل في طريقة التناول والطرح، فتعرّضت في مواسم رمضانية عديدة لانتقادات لاذعة، بسبب الصورة النمطية التي طرحتها عن دمشق في فترات القرن الماضي، كذلك تعرّض منتجو هذه الأعمال لانتقادات لاذعة بسبب الصورة المُسيئة عن المرأة التي ترسّخت في أذهان الجمهور العربي فيما يتعلق بفكرة أنّ “الشرف” دائما ينحصر في إناث العائلة والمجتمع.

لكن هذه الانتقادات كان لها دورٌ بارز في تغيير طريقة الطّرح، لكنها بالطبع لم تمنع استمرار أعمال البيئة الشامية، التي كان لها في كلّ المراحل شعبيةٌ واسعة لدى الجمهور السوري والعربي، فحقّقت هذه المسلسلات انتشارا واسعا وغالبا ما كانت على قائمة الأعلى مشاهدة خلال موسم “دراما رمضان”.

نهاية القرن الماضي، بدأت شعبية البيئة الشامية بالارتفاع، ويُعتبر مسلسل “أيام شامية” نقطة انطلاق وتوجّه المنتجين، بعد هذا المسلسل الذي حقّق انتشارا واسعا في سوريا، والذي تناول قصّة حيّ من أحياء دمشق في أواخر الحكم التركي وبداية عصر النهضة، ويعرُض جانبا من العادات والتقاليد والعلاقات التي كانت سائدة في ذلك الوقت.

نقطة تحول

أما نقطة التحول فكانت مع بداية القرن الحالي، عندما عُرض مسلسل “الخوالي” الذي ما زال إلى الآن حاضرا في أذهان الجمهور العربي، وهو الذي يتناول جانب من قصص حيّ الشاغور في دمشق، ويتناول قصة بطل شعبي اسمه نصار وهو المناضل ضد الظلم، فالمسلسل سرد حياة الحارة الدمشقية ودور المرأة التي غاب عنها زوجها أثناء الحج وأصبحت هي المسؤولة عن البيت وأربع بنات لحين عودة الزوج.

خلال هذه الفترة كانت هناك حالة من شبه الإجماع على تلك المسلسلات، والانتقادات اللاذعة لم تبدأ بعد، لكن مع مرور عدّة سنوات وفي العام 2006، عندما بدأت السلسلة الأشهر من مسلسل”باب الحارة”، بدأ النّقاد والحركات النسوية بفتح النار على مسلسلات البيئة الشامية واستمرت هذه الحملة لسنوات.

في البداية كان التأثير محدودا، فبعد جزأين من “باب الحارة”، تم عرض مسلسل “أهل الراية” الذي فجّر الانتقادات ضد هذه المسلسلات، فمعظم السيناريوهات هنا عزّزت صورا نمطية مسيئة عن المرأة، وذلك انطلاقاً من الفكر الذكوري الذي يُعدّ أنه يتعيّن على الأنثى أن تذهب “من بيت أهلها إلى بيت زوجها عالطّبخ والنّفخ” والأخطر هو تفاعل الشارع العربي وتأثره بهذه المسلسلات.

الفترة الأسوأ

الناشطة النسوية السورية زين الآغا (34 عاما)، ترى أن فترة “باب الحارة” في أجزائه الأولى و”أهل الراية”، كانت الأسوأ على دراما البيئة الشامية لما كان لها دورٌ في الإساءة للمرأة ودورها في المجتمع، فمشهد بالحلقة الثامنة من الجزء الثاني لـ”باب الحارة” ما زال عالقا في أذهان الجماهير، وعلى الرغم من أن النظام الأبوي ما زال قائما، إلا أن الآغا ترى أن هذا النوع من المشاهد عزّزته من خلال العبارات والتعامل المسيئين للمرأة.

هذا المشهد الذي يقول فيها أبو عصام لزوجته سعاد وهي تبكي وتتوسل وكأنها تتوقع ما سيقول، “شوفي يا بنت الناس.. أنتي هلأ خلص ما عاد تلزميني، بوشك على أوضتك بتضبي أواعيكي وبتنقلعي برات البيت.. أنتي طالق”، جاءت هذه العبارات بعدما قالت له سعاد “فشرت” خلال مشادة كلامية بينهما.

وفي “أهل الراية”، تمحورت قصة المسلسل حول الشابة “قطر الندى” بنت زعيم الحارة “أبو الحسن” وهروبها وإصابتها بأزمة نفسية جعلتها خرساء بعد فقدان ثقة والدها بها، وذلك عقِب تلفيق زوجة الزعيم تهمة تتعلق بإقامته علاقة جنسية مع أحد شبان الحارة، وهنا شرع الزعيم بقتل ابنته من أجل “غسل العار”.

استمرت هذه النمطية في مسلسلات البيئة الشامية سنوات عديدة، وكان مسلسل “طوق البنات” الذي أُنتج عام 2014، واحدا من تلك المسلسلات الذي طالها النّقد، نتيجة احتوائه على مشاهد عديدة تغرق في التنميط الذكوريّ وتقدّم أمثلةً عن سلطة أبوية تحكم النساء، وفق ما تؤكد الآغا.

ونتيجة تصاعد الانتقادات ودخول العديد من المنتجين الجدد على خط الإنتاج، كان هناك وجودٌ لرغبةٍ في تحويل طريقة التناول لمسلسلات البيئة الشامية، فكانت البداية في مسلسل “جوقة عزيزة” الذي حاول إظهار الجانب الآخر من مدينة دمشق في ذات الحقبة، ورغم تعرّض المسلسل لانتقادات واسعة إلا أنه كان من بين المسلسلات التي تصدّر قائمة الأعلى مشاهدة خلال عرضه.

الناشطة النسوية توافق على تحوّل دراما البيئة الشامية في طريق الطرح خلال السنوات الأخيرة، لكنها تعتقد في المقابل أن الذكورة والوصاية الأبوية ما تزال تسيطر على معظم قصص هذه المسلسلات، وحول ذلك أضافت “المشكلة ليست في طرح القضية، فالنظام الأبوي والذكوري موجود في تلك الفترة ولا مشكلة في نقلها، لكن الكارثة هي في طريقة الطرح وكأنها تعزيز لهذا النموذج من العائلات والحارات”.

مواقف الفنانين

الفنانون والممثلون السوريون بدورهم، انتقدوا في عديد المناسبات هذا النوع من الإنتاج الدرامي، لكنهم على النقيض فقد نرى بعضهم في أدوار مهمة في “البيئة الشامية”، الأمر الذي قد يبرّره الأموال التي يحصلون عليها في هذه المسلسلات.

في آخر التصريحات المتعلقة بالبيئة الشامية، فقد أكد الممثل السوري جمال سليمان أن أعمال البيئة الشامية تحولت شيئا فشيئا إلى فلكلور سيىء الصنع، “ورخيص جدا مثل البلاستيك”.

خلال تصريحات لموقع فوشيا، أعرب سليمان عن استعداده لإعادة تجربته في مسلسلات البيئة الشامية، “شريطة أن تكون القصة جديدة وغير مكررة، وأكد أنه لم يتخذ بعد قرار المشاركة في دراما رمضان 2024”.

وكما قال الممثل السوري “آندريه سكاف”، فإن التمثيل هو عبارة عن مهنة كغيرها من المِهن، التي قد يضطر صاحبها لإنجاز عمل ليس بالضرورة أن يكون على كامل القناعة به، وقد أشار في تصريحات صحفية سابقة إلى أن “النجار على سبيل المثال قد يضطر لعمل غرفة نوم رديئة بناء على رغبة صاحبها للحصول على المال، لكن التمثيل لأنه يحصل أمام الكاميرا فإن العيون جميعها تركّز عليه”.

يُشار إلى أن موسم “دراما رمضان” الفائت، حفِل بالعديد من أعمال البيئة الشامية التي تصدرت قائمة الإنتاج، ويأتي على رأسها مسلسل “زقاق الجن” من تأليف محمد العاص، وإخراج تامر إسحاق وإنتاج ماهر برغلي، وتدور أحداث العمل في حي زقاق الجن الشهير في قلب دمشق خلال القرن التاسع عشر، ويتناول ظاهرة اختطاف الأطفال، في ظل صراع دموي بين عائلات شامية متنفذة، تحاول السيطرة على مقاليد الأمور، بينما تخيّم أجواء الدسائس والمؤامرات على مجريات الأحداث التي يؤدي بطولتها أيمن زيدان وأمل عرفة وعبد المنعم عمايري.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات