في ظل التهدئة الكبيرة للأعمال العدائية في سوريا، فإن التعافي السياسي والاقتصادي في البلاد لا يزال غير مؤكد. 

وفقا لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” هذا العام، فإن الظروف المعيشية تزداد سوءا في سوريا، حيث يعيش حوالي 90 بالمئة من السكان تحت خط الفقر ويعاني 12.4 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي. 

من جهتها، حاولت إيران ومليشياتها وقواعدها العسكرية في سوريا استغلال الوضع الذي ساهمت في تدهوره منذ ما يزيد عن عقدٍ من الزمان لفرض نفوذها الاقتصادي بعد الهيمنة العسكرية، واعتمدت طهران استراتيجيات وأدوات مختلفة لتحقيق أهدافها. بمعنى أن إيران تعتقد أن أفضل وسيلة للحفاظ على مصالحها هي وجود الأسد، الأمر الذي يتطلب ضخ استثمارات اقتصادية تساعد على فرض نفوذها أكثر في سوريا.

إنشاء إمبراطورية اقتصادية

لقد استثمرت إيران تاريخياً قدراً كبيراً من المال والموارد والقوات والعمالة في سوريا، وتم تكثيف هذه الاستثمارات، على وجه الخصوص، في السنوات القليلة الماضية قبل اندلاع الاحتجاجات في آذار/مارس 2011 في جميع أنحاء البلاد. 

الرئيس السوري بشار الأسد (إلى اليمين) يتصافح ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي بعد توقيع مذكرتي تفاهم حول “التعاون الاستراتيجي طويل الأمد” في دمشق في 3 أيار/مايو 2023. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

وعلى الرغم من تخصيص مبالغ كبيرة من الأموال والموارد للاستثمار في وسائل النقل والبنية التحتية السورية، إلا أن العلاقات الاقتصادية الإيرانية والسورية لا تقتصر على هذه المجالات. فقبل أشهرٍ قليلة من اندلاع الاحتجاجات الشعبية، وقّعت السلطات الإيرانية اتفاقية غاز طبيعي بقيمة 10 مليارات دولار مع سوريا والعراق لبناء خط أنابيب للغاز يبدأ في إيران، ويمر عبر سوريا ولبنان والبحر الأبيض المتوسط، ويصل إلى عدة دول غربية. 

وبموجب الاتفاقية يحصل العراق وسوريا على كمية محددة من الأمتار المكعبة من الغاز الطبيعي يوميا. وتمت الموافقة على هذا الاقتراح من قِبل المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، الذي أيّد أيضًا تخصيص 5.8 مليار دولار من المساعدات لسوريا من قبل “المركز الإيراني للبحوث الاستراتيجية” (CSR)، والذي يركز على استراتيجيات طهران في ستّة مجالات مختلفة بما في ذلك أبحاث السياسة الخارجية، وأبحاث الشرق الأوسط والخليج العربي وأبحاث الاقتصاد السياسي الدولي. 

وهناك اتفاق فريد وهام آخر تم توقيعه قبل عام 2011، وهو اقتراح إنشاء بنك مشترك في دمشق، تملك الحكومة الإيرانية 60 بالمئة منه. وكان من شأن الاتفاق أن يسمح لإيران بتحديد مراكز مالية أخرى لإجراء معاملاتها في سوريا. 

في ذلك الوقت، سُمح للبنوك السورية بالمشاركة في التجارة والمعاملات مع الغرب، قبل فرض العقوبات بعد بدء الصراع، وناقش النائب الأول للرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي، والرئيس السوري بشار الأسد، اتفاقاً أكثر شمولاً قبل وقت قصير من اندلاع الانتفاضات سعياً إلى إنشاء كتلة اقتصادية إقليمية. ونتيجة لهذا الاقتراح، تم التوقيع على اتفاقية من 17 مادة ركّزت على التجارة والاستثمار والتخطيط والإحصاء والصناعات والنقل الجوي والبحري والسكك الحديدية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والصحة والزراعة والسياحة.

الاقتصاد السوري فريسة الهيمنة الإيرانية

منذ عام 2014، ساعد الإيرانيون الأسد من خلال قناتين رئيسيتين: أولاً، قدمت خطَّين ائتمانييَن لاستيراد البضائع الإيرانية (بما في ذلك الأسلحة)، بقيمة إجمالية تبلغ حوالي 2 مليار دولار أميركي. وثانياً، تنقل إيران نحو 70 ألف برميل من النفط يومياً إلى سوريا، وهو ما يشكّل ثُلثي الاستهلاك السوري بقيمة متراكمة تزيد عن 6 مليارات دولار. 

من هيمنة عسكرية إلى اقتصادية كيف تشكل إيران مستقبل سوريا الاقتصادي؟ (4)
أفراد عسكريون من الحرس الثوري الإسلامي يقفون حراسة بجوار صاروخين باليستيين إيرانيين من طراز خيبر شيكان في وسط مدينة طهران بينما يلوح المتظاهرون بالأعلام الإيرانية والسورية خلال مسيرة لإحياء يوم القدس العالمي. (تصوير مرتضى نيكوبازل/ نور فوتو)

وبشكل عام، في السنوات الثلاث الماضية، قدّمت إيران ما يقرب من 8 مليارات دولار أميركي كمساعدات اقتصادية مباشرة لسوريا. ولا يشمل هذا التقدير مئات الملايين من الدولارات سنويا في شكل دعم عسكري مباشر. 

وإذا كانت طهران من أكثر القوى المؤثّرة الداعمة لحكومة دمشق، فمن المتوقع أن تجني طهران فوائد الانتعاش الاقتصادي في سوريا لسنوات عديدة مقبلة، وهو ما يمثّل احتكاراً للاقتصاد السوري، ومع ذلك فإن حقيقة هذه الديناميكية معقّدة، ولقد جاءت المشاركة في الحرب السورية بتكلفة كبيرة جدا بالنسبة لإيران التي تواجه صعوبات اقتصادية خاصة بها في الداخل، وهو ما يمثّل قيداً على محاولات إيران للهيمنة على الاقتصاد السوري بشكل كلي.

على الرغم من أن المسؤولين الإيرانيين أشاروا مراراً وتكراراً إلى أن تحالفهم الاقتصادي لن يهتز بسبب القضايا الأمنية منذ بدء الاحتجاجات، إلا أن الشركات الحكومية السورية ومشغّلي الأعمال واجهوا صعوبات وعقبات متزايدة في التجارة والتوصل إلى صفقات مع إيران بسبب القيود المفروضة على المعاملات بالدولار. 

وعمل التحالف الاقتصادي الإيراني والسوري على عقودٍ متعددة المستويات لمنظمات حكومية وشبه خاصة من خلال اعتماد الدولار في المعاملات التي بلغت قيمتها مليارات الدولارات. ومع ذلك، فإن اللوائح التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي الأخرى بعد بدء الصراع جعلت من الصعب استخدام العملات الأجنبية والحصول عليها من خلال البنك “المركزي” السوري.

ولهذا طالبت إيران بتنازلات اقتصادية من سوريا مقابل دعمها؛ والأهم من ذلك من الناحية الاستراتيجية، أن إيران حصلت على حقّ بناء ميناء بحري في سوريا، ظاهرياً للاستخدام التجاري، ولكن أيضاً للاستخدام العسكري.

ومنحت العقود الجديدة إيران 5000 هكتار من الأراضي في المنطقة الساحلية لبناء محطات النفط والغاز. و5000 هكتار إضافية من الأراضي الزراعية والماشية المملوكة للحكومة السورية. 

كما أعرب النظام الإيراني عن رغبته في المساعدة في إعادة إعمار المناطق التي استعادتها دمشق، وفي هذا الصدد، سبق أن أعلنت “وكالة إعادة الإعمار الإيرانية” عن أولى مبادراتها، وأبرزها ترميم 85 مدرسة في عموم مدينة حلب ومحيطها؛ لكن هذا لم يكن من طابع إنساني، بل لأن المشاركة الإيرانية في إعادة إعمار سوريا تعني أرباحاً مالية للشركات الإيرانية، والاستحواذ على الأراضي والعقارات، وفرصة إنشاء بنية تحتية عسكرية داخل المدن المعاد بناؤها. 

 تسلل اقتصادي

تظهر عدة أمثلة أخرى مطالب إيران الصارمة فيما يتعلق بالاقتصاد السوري، إذ وقّعت الحكومتان خمسَ صفقات تجارية كبرى في كانون الثاني/يناير 2017. وكجزء من هذه الصفقات، مُنحت شركة تابعة لشركة “الاتصالات” الإيرانية (TCI) الحقوق لتصبح مزوّدة خدمة الهاتف المحمول في سوريا، مما أدى إلى تحويل الشبكة المملوكة لسوريا إلى مجرد حصة 20 بالمئة. 

وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان (يسار) يعقد مؤتمرا صحفيا بحضور نظيره السوري فيصل مقداد في العاصمة دمشق في 23 مارس 2022. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

شركة “TCI” مملوكة لـ”الحرس الثوري” الإيراني، وهذا يعني أن التحكم في شبكات الهاتف المحمول يحمل أيضاً آثاراً أمنية. ولهذا يطالب المتظاهرون في السويداء وغيرها من المدن السورية وعلى فترات متباعدة بالانسحاب الكامل للقوات الإيرانية من بلادهم، مشيرينَ إلى وجود الميليشيات المدعومة من إيران كقضية خلافية تساهم في العنف وعدم الاستقرار.

ومن ناحية أخري، تشعر الحكومة الإيرانية بالقلق من أن روسيا، التي تدخلت إلى جانب الأسد بقوة جوية حاسمة في عام 2015، قد تتنافس مع إيران على عقود ما بعد الحرب. 

وتصاعدت هذه المخاوف في عام 2016 عندما وافقت دمشق على إعطاء روسيا الأولوية في عقود إعادة الإعمار، وفي عام 2019 عندما منح الأسد روسيا حقوقاً حصرية لإنتاج الغاز والنفط في سوريا. 

وقد ساهمت الاتفاقيات الثنائية الأخيرة بين سوريا وروسيا إلى حدّ ما، في زيادة مخاوف إيران بشأن موقفها في سوريا بعد الحرب. وموضع القلق بالنسبة لإيران أن سوريا قدمت امتيازات هائلة لموسكو في حين تم إعاقة طهران بسبب فساد الدولة السورية، والعقبات البيروقراطية، وترى طهران أنها قدمت مساهمات مالية واقتصادية كبيرة لدمشق بالإضافة إلى مشاركتها المباشرة بالحرب.

وبالتالي يحقّ لها الحصول على كل الامتيازات دون منافسة مع موسكو. ولهذا ترفض طهران أن يكون لها شريك في فرض نفوذها على الاقتصاد السوري حتى لو كانت صديقة مثل موسكو. ولهذا ونظرا لخوف طهران من التدخلات الدولية في سوريا، ومحاولات فرض المشاركة في النفوذ من جانب موسكو، فإن النظام الإيراني لجأ إلى الضغط وبشكل مستمر ومباشر على الاقتصاد السوري خلال الاتفاقيات التعسفية طويلة الآجل والتي تفضي إلى فرض سيطرته على منابع الاقتصاد.

تلاعب بالأوضاع الاقتصادية

أن كل المؤشرات السابقة تدلّنا على أن الحكومة السورية تسير في طريق نهايتها السياسية أو ربما تحوّلها إلى مجرد لعبة منتهية الصلاحية في يد طهران.

تاجر يجلس بجوار الكمأة الصحراوية في سوق بمدينة الرقة شمال سوريا في 14 مارس 2023. (تصوير دليل سليمان / وكالة فرانس برس)

في الأسبوع الماضي، وبحسب صحيفة “الشرق الأوسط”، ذكرت وسائل الإعلام الرسمية السورية، أنه سيجري بحثٌ في جميع نواحي التعاون بين البلدين، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي، وآليات تنفيذ الاتفاقيات ومذكّرات التفاهم، التي تم التوصل إليها خلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى سوريا في أيار/مايو الماضي.

مصادر اقتصادية متابعة في دمشق قالت: إن إيران زادت في الآونة الأخيرة ضغوطها على دمشق لاسترداد ديونها المستحقة عليها، المقدّرة بخمسين مليار دولار، بحسب وثائق سُرّبت في وقت سابق لمحاضر من اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني. 

وخلال زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق تم توقيع خمس اتفاقيات كبرى لسداد الديون، من بينها استثمار مبقرة “زاهد” في طرطوس وأخرى في دير الزور مجموع أراضيهما الزراعية خمسة آلاف هكتار، ومناجم للفوسفات، وآبار نفط، ومشروع اتصالات.

ورأت المصادر، أن إيران تبذل مساعي حثيثة لتفعيل خط ترانزيت نقل بري عبر العراق إلى سوريا، إلى جانب خط ملاحي منظّم وغير منظّم بين إيران والموانئ السورية، بهدف تنشيط خط تجاري معزول لتجنّب العقوبات الاقتصادية الدولية، ويطلق على هذا المشروع في إيران “ممر الشرق – غرب”. 

ويشار إلى أن اتفاقية تصفير الرسوم الجمركية، بين البلدين دخلت حيز التنفيذ مؤخراً والتعامل بالعملة الإيرانية بدلاً من الدولار في التعاملات المالية مع سوريا، حيث دعا وزير الطرق الإيراني إلى تشكيل لجنة دائمة للطاقة بين الجانبين، لتواصل نشاطها حتى تنفيذ مذكرات التفاهم الثنائية حول الغاز والكهرباء.

كما أكد على ضرورة إكمال مشروع الربط السّككي؛ لكونه يسهم في تعزيز تجارة الترانزيت بين البلدين، وأبدى استعداد شركة السكك الحديدية الإيرانية لدراسة موضوع إصلاح السكك الحديدية في الجانب السوري، التي تعرّضت لتفكيك بشكل كامل في الأراضي السورية خلال السنوات الأخيرة.

رئيس الوزراء السوري، حسين عرنوس، بدوره قال إن للشركات الإيرانية الأولوية في المشاركة بإعادة الإعمار في سوريا، مشددا على وضع جميع الاتفاقيات والتفاهمات الموقّعة حيّز التنفيذ وفق برامج وجداول زمنية محددة، ما يفسر أن النظام الإيراني بات يضغط بشدة على دمشق من أجل تنفيذ التزاماتها.

وأخيرا، بما أن الاقتصاد في أي دولة هو المرتكز الرئيسي الذي تعوّل عليه الدولة كل استراتيجيتها المستقبلية، فإن خطورة هذه الاتفاقيات والتصريحات والاستثمارات تتجسد في كونها خطوة ومحاولة واضحة لبسط نفوذ طهران على منابع الاقتصاد السوري بعد أن تتحقق لها النفوذ العسكري مما يدفعنا إلى القول أن هذه الاستثمارات جعلت من إيران العمود الفقري للاقتصاد السوري، خلال تزويد دمشق بشريان حياة من السلع ومصادر الطاقة في مقابل السيطرة على أجزاء رئيسية من الحصة الاقتصادية، وهنا تحوّلت حكومة دمشق إلى مجردة صورة باهتة بلا معالم في يد إيران بعد السيطرة العسكرية والاقتصادية من إيران على البلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات