في فيلم “زوجة رجل مهم” من تأليف السيناريست المصري رؤوف توفيق، وإخراج محمد خان، كان الضابط هشام الذي أدى دوره الفنان المصري أحمد زكي، يحاول أن يملأ فراغات السلطة بعدما انزاحت من حوله، وفقد على إثرها قدراته ونفوذه وتوحّشه، فضلاً عن ممارساته في الهيمنة بتلفيق القضايا بدعوى حماية أمن البلاد، وسياسات النظام، عبر البطش بالمواطنين.

إذ إن عزله من وظيفته في إطار حركة تصحيحية مرتبطة بظرف تاريخي وسياسي مهمّين بمصر، جعله يتوهم أن الأمر مؤقت، ولم تكن رغم نزع السترة العسكرية منه، كافية لعزلها من شخصيته والخروج من إطاراتها وأقفاصها الحديدية وفي النهاية كانت النتيجة هي إطلاق النار على نفسه في مشهد انتحاري يحمل بلاغة سينمائية وقد فقد كل شروط الحياة وانحسر وجوده في زاوية تباعد بينه وبين الأيام التي باتت تخنقه في ضغوطها.

الأسد وعائلته في شوارع دمشق

المفارقة أن المشهد الذي يتطابق وهذا الحال ليس سينمائياً، غير أن الدراما فيه قائمة بسياقات متعددة، و لها سوابق في الواقع كما على الشاشة. فمع ظهور الرئيس السوري بشار الأسد وزوجته في عدة مناطق سورية، وهو الظهور المتكرر والذي يبدو مقصوداً ومتعمداً لا يبدو أنه ظهور انتقامي ليعلن عن وجوده الافتراضي، وقدرته على السيطرة وملء نفوذه الذي لم تتقاسمه الاحتلالات المتباينة والمتصارعة بسوريا، بل هو أشبه بالضابط هشام. فيتقاسم كل منهما مشهد الوهن والعجز. كل منهما لا يعترف بأنه فصلٌ في الماضي، وفصلٌ منبوذ ولم يعد له التأثير السابق في التلفيق والتنكيل أو حتى إحداث حركة أو صخب ولو محدود بالمجال العام. 

بشار الأسد وزوجته في عيد الفطر بجمعية المبرة النسائية- “من صفحة أسماء الأسد”

الانفصال عن الواقع، وليس كما يقول المصريون “ذوات الجلد التخين”، هو ما يعبّر عن تجوّلات “الأسد” التي تشبه ظل خافت لا يثبت في مكان، وكأنما خروجه وتنقّله يشبه انعكاس الضوء في يد خفية تقوده وتحركه للمخاتلة وإدارة مشهد ترفيهي عبثي ليس ببعيد عن الحال الذي انتهى إليه آخر رجالات البعث في دمشق. وكأنه يودع المدينة قبل أن يطلق الرصاص على ذاته وقد اختار الانتحار السياسي مرة والأخلاقي مرات عديدة والوجودي أخيراً كأي مافياوي قبض على السلطة بالمنطق الإجرامي القائم على النهب والقتل وصناعة مدن الخوف والأشباح بدموية ليس لها من سقف أو حدود، والأفق الوحيد هو القتل من أجل القتل ولاستمرار الرعب الذي يضمن البقاء في السلطة، والإبادة العلانية حتى يتعطل مؤقتاً العشاء الأخير لآل “الأسد” في قصره المعزول فوق جبل قاسيون. 

والحال أن الانتحار الذي يرافق زعماء ورؤساء بفعل العزلة الشعورية عن الواقع ليس جديداً، سواء ما جرى مع معمر القذافي الذي هتف ضد الثوار بـ”من أنتم؟!”، أو في التاريخ الممتلئ بحوادث ووقائع مريرة وكاشفة مثل انتحار النازي أدولف هتلر.

طبيب العيون الذي يعاني إصاباتٍ جمّة تحوّل دون أن تكون رؤيته كاملة، وذلك للحد الذي يجعله يشاهد أو يعاين حجم الخراب الذي قاد إليه المدينة والبلاد، فيتجوّل وهو سعيد بل يركض من هنا إلى هناك وعلى ملامحه سعادة لا مبالية، وهو المتهم ونظامه بجرائم حرب وإبادة تصل إلى تدمير مدن وأحياء كاملة وقصفها بالكيماوي والبراميل المتفجرة. 

لكن الأمر الأكثر فداحة، هو تلقي الأسد المديح والثناء لدرجة التأليه الذي يحقق له النشوة، غير أن هذا النمط من النفاق القديم إنما يؤكد دلالة بأنه قد أصبح وثناً لا تصل إلى أطرافه المشاعر أو يستجيب لأي ردود فعل. ففي مسجد التقوى قال الشيخ حسام الدين فرفور: “شو بدنا نحكي أمام سيادتك، الله يزيدكم من مدده ويديم فكركم، فلسفة اقتصاد سياسة وعلم اجتماع.. الله يحفظكم ويديم فضلكم”.

الاحتفاء بالعنف بحجة حماية النظام

ففي خطبة عيد الفطر قال الشيخ أحمد محمد عدنان الأفيوني، مدير مركز الشام الإسلامي الدولي عضو المجلس العلمي الفقهي: ” إن عيد الفطر يوم فرح وسرور، ولكن رمضان أتى هذا العام ولنا أخوة في غزة يستصرخون أمتهم وهم يعانون تحت وطأة الهمجية الصهيونية الإجرامية التي تمارس أبشع أشكال الإبادة الجماعية في هذا العصر الحديث”.

وتابع: نحن نفخر بأن سوريا هو برئيسها وشعبها وجيشها اختارت أن تكون مقاومة عزيزة، وأن تدفع في سبيل هذا الاصطفاف المبدئي أغلى الأثمان في الاقتصاد والسياسة والاستقرار والإنسان، ولذلك كما كانت في قلب “محور المقاومة” كانت أيضاً في قلب الاستهداف من أعداء الأمة، فبذروا فيها بذور التطرف وسقوها بالأدوات الإعلامية المأجورة، ولكنهم ما أدركوا أنهم بَذَروا البذور في تربة عصية على إنباتها. فسوريا عبر تاريخها بلد يلفظ التطرّف ويأبى إلا أن يكون بلداً يعيش الإسلام كما عاشه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لذلك هو الآن منارة من منارات هذا الفكر الوسطي وتجربة رائدة من تجارب مواجهة التطرف والإرهاب، ونشر قيم التسامح، وفي سبيل ذلك دفع أثماناً باهظة”.

“الأسد” الذي جلس في جامع التقوى بمشروع دمر في دمشق، لا يعترف بأنه قاتل أو دموي أو خارج عن نطاق القانون، بل هو يحتفي بالعنف والإرهاب بحجة حماية النظام، والنظام من وجهة نظره المحدودة والمسيّسة لا تتخطى كونها عبارة عن مجموعة بشر من المنتفعين.

بل “إن الله سبحانه وتعالى قيّض لهذا البلد المبارك رؤية حكيمة لقائد حكيم كان وما زال راعياً للقيم والأخلاق والمبادئ والتمسك بالثوابت، لذلك وكما انهزمت مشاريع التطرف على أعتاب سوريا بقيادتها وشعبها وعلمائها وجيشها، فإننا واثقون بأن مشاريع التدمير الأخلاقي والتفتت الأُسري والتبعية الفكرية والقيمية لهيمنة الليبرالية الحديثة ستُهزم بإذن الله”، وفق الأفيوني وقد ختم قائلاً “أن يحفظ الله سوريا وشعبها وقائدها وجيشها الباسل ويرحم شهداءها ويشفي جرحاها، وأن يوفق الرئيس الأسد ويسدد خطاه لما فيه خير الوطن ومصلحته، وأن يعلي راية الحق وأن يفرج عن أهلنا في غزه فرجاً قريباً عاجلاً، وأن ينصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً مؤزراً”.

المثير للسخرية والامتعاض في ما قاله الشيخ والذي هو حالة متكررة في التاريخ من جماعة مشايخ السلطة، ورجال دين السلطان/ الخليفة، ومهمتهم شرعنة القتل والنهب، أن نفاق الشيخ يرقى أو بالأحرى يحمل سخرية من ذات “الرئيس الأب القائد”، لكن في ما يبدو أن الأخير لم يفقد بصره إنما كذلك بصيرته، وهو مثل النجم الذي هوى وربما استبد به الغرور والاستبداد ذاته، فلم يعد يهتز شيء بداخله ليبعث فيه مجسات التنبيه بين ما هو حقيقي وجاد أو خيالي ومزحة سمجة أو سخرية لاذعة تنال من قدراته العقلية.

لكن الرئيس رد وقال بجدية: “عندما نتحدث عن الدعم على أنه ينطلق من أيديولوجيا أو من دافع خيري، فإنه لن يكون ناجحاً ولا توجد دولة أو مجتمع يسير في هذا النهج، ولكن عندما نرى الدعم جزءاً من الاقتصاد، عندها فقط يتحول إلى حالة مفيدة”.

بشار الأسد وأسماء الأسد يشاركان في إفطار جماعي بالمدينة القديمة في طرطوس- “صفحة رئاسة الجمهورية العربية السورية”

“الأسد” الذي جلس في جامع التقوى بمشروع دمر في العاصمة دمشق، ربما، لا يختلف كثيراً عن الضابط هشام في فيلم “زوجة رجل مهم”. لا أحد منهما يعترف بأنه قاتل أو دموي أو خارج عن نطاق القانون، بل هو يحتفي بالعنف والإرهاب بحجة حماية النظام، والنظام من وجهة نظره المحدودة والمسيّسة لا تتخطى كونها عبارة عن مجموعة بشر من المنتفعين. فضلاً عن بقية باقية تعيش على امتداد عصا الأجهزة الأمنية ودائرتها الجهنمية، ويتعين إعلانهم الإذعان والطاعة كما حدث في مشهد الطاعة أمام الرئيس بالمسجد، وقبلها في لقائه بالنخبة الفنية، وبينهما خروجه لحارات الشام القديمة، بينما لا أحد يعترض طريقه وفي حالة سكون تشبه الطاعة لشيء مخيف. أما “المتمردين” من وجهة نظرهم فمصيرهم الإبادة، ويتساوى في ذلك الكُردي مع العربي مع الآشوري والعلوي مع السّني والدرزي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات