منذ فبراير 2007 على الأقل، عندما ألقى خطابه السيئ السمعة في مؤتمر ميونيخ للأمن، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينتهج سياسة خارجية تهدف إلى قلب نظام الأمن العالمي الذي ظهر في نهاية الحرب الباردة. يريد بوتين إعادة ترسيخ هيمنة موسكو في المنطقة التي كان يسيطر عليها الاتحاد السوفيتي بما في ذلك أعضاء “الناتو”، في أوروبا الشرقية، وإضعاف كلا من “الناتو” والاتحاد الأوروبي.

وسعيا إلى تحقيق هذا الهدف، شنت موسكو حربا ضد جورجيا في عام 2008، واستولت على شبه جزيرة القرم، وأثارت حربا غير سرية تماما في شرق أوكرانيا في عام 2014، والآن صادق مجلس الاتحاد الروسي الغرفة العليا بالبرلمان بالإجماع، على اتفاقيات ضم أربع مناطق أوكرانية إلى روسيا، بعد موافقة الغرفة السفلى مجلس الدوما، الإثنين الفائت، على ذلك بالإجماع أيضا، وذلك بعد توقيع بوتين في 30 أيلول/سبتمبر الماضي، وثيقة ضم مناطق دونيتسك وخيرسون ولوغانسك وزاباروجيا الأوكرانية، وسط رفض وتنديد غربي واسع.

إذا نجح بوتين، فعلا في سحب اعتراف المناطق الأوكرانية لصالحه، فسوف يوجه انتباهه إلى أعضاء “الناتو” في أوروبا الشرقية، ولكن ما خيارات كييف والغرب للرد على الروس بعد ضم 4 أقاليم أوكرانية، وكيف سيكون سيناريو التصعيد بين موسكو وكييف، من ناحية، وموسكو و”الناتو” من ناحية أخرى.

معركة وجودية مع الغرب

يوم الجمعة الفائت، أكد بوتين، أن روسيا ستسيطر على أربع مناطق أوكرانية، وندد بتحركات الولايات المتحدة وحلف “الشمال الأطلسي” (الناتو)، وذلك في خطاب شهد تصعيدا في حرب موسكو ضد أوكرانيا، ووضع روسيا في موقف تصادمي صارخ، باعتبارها تخوض معركة وجودية مع النّخب الغربية التي اعتبرها “العدو”.

وفي حديثه إلى المئات من المشرّعين والحكام الروس في إحدى قاعات “الكرملين” الكبرى، قال بوتين، إن سكان المناطق الأربع التي لا تزال تسيطر عليها جزئيا القوات الأوكرانية سيصبحون مواطنين لروسيا “إلى الأبد”. ثم عقد مراسم توقيع مع رؤساء تلك المناطق الذين عينتهم روسيا لبدء عملية الضم الرسمية، قبل أن يصفق معهم ويردد: “روسيا روسيا”.

جاء خطاب بوتين، على خلفية الإحراج الذي تعرضت له قواته في ساحة المعركة، حيث حققت قوات أوكرانيا انتصارات مذهلة في الأسابيع الأخيرة في الشرق. وحتى عندما كان يتحدث الزعيم الروسي، برزت تصريحات من المسؤولين في الجيش الأوكراني في ذات الوقت، بأن قواتهم قد اقتربت أكثر من تطويق بلدة ليمان، التي تحتلها روسيا، والتي تُعد مركزا هاما من الناحية الاستراتيجية في منطقة دونيتسك، التي تقع داخل الأراضي التي يدّعي بوتين، وجوده فيها.

حتى بمعايير بوتين المعادية بشكل متزايد، كان الخطاب غير عادي، وهو مزيج من التهديد والوعيد التي خلطت بين ضغوطات المؤامرات ضد “النظام الكولونيالي الجديد”، بقيادة أميركية مع مناشدة العالم النظر إلى روسيا كزعيمة للانتفاضة ضد ما أسماه “السلطة الأميركية”.

فقد أشار في خطابه إلى “الدوائر الحاكمة فيما يسمى بالغرب” بوصفها “العدو”، وهي كلمة نادرا ما استخدمها في الإشارة إلى الغرب، ولكن لم يقدم سوى تفاصيل قليلة جديدة بشأن المسألة التي ربما تشكل الآن مصدر قلق بالغ في العواصم الغربية سواء كان مستعدا، وعند أي مرحلة، لاستخدام أسلحة الدمار الشامل لإجبار أوكرانيا على الاستسلام. في حين قال المتحدث باسمه في وقت سابق، إنه بعد ضم المناطق الأربع، وهو الإجراء الذي لا يتوقع أن تعترف به أية دولة أخرى تقريبا، فإن أي هجوم على هذه المناطق سيعامل على أنه هجوم على روسيا.

يقول الخبير والمحلل السياسي الروسي، فاتسلاف ماتوزوف، لـ”الحل نت”، “هذا هو المكان الصحيح للولايات المتحدة وحلفائها لمنع فوز بوتين، عبر إمدادات الأسلحة والمساعدات الاقتصادية لأوكرانيا والعقوبات ضد روسيا. وهذا لا يتطلب قوات أميركية للدخول في صراع مباشر. في حين قد يؤدي الفشل في منع بوتين في أوكرانيا أيضا إلى منح الصين سببا آخر لتحدي الولايات المتحدة بشأن تايوان. حيث ستعتبر بكين، فوز بوتين، علامة على ضعف الغرب والولايات المتحدة، وستصبح أكثر ثقة في التحرك في تايوان”.

خطة كييف لقلب المعادلة

الضم الذي أُعلن عنه من طرف واحد، جاء في اليوم الذي ورد فيه أن الجنود الأوكرانيين حاصروا آلاف القوات الروسية بالقرب من مدينة ليمان في شرق أوكرانيا، وبعد أسبوعين فقط من هجوم مضاد ناجح دفع القوات الروسية من المنطقة بالقرب من خاركيف، ثاني أكبر مدينة في البلاد إلى التراجع.

يشير ماتوزوف، أنه قد تهدف روسيا لاحقا إلى عزل الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أو تهجيره، وتوسيع المكاسب الإقليمية في شرق أوكرانيا للاعتراف بـ “الجمهوريات المنشقة”، وإنشاء جسر بري من شبه جزيرة القرم إلى أوديسا، وإقليم مولدوفا المحتل في ترانسنيستريا، أو على الأرجح الثلاثة.

كما سيسعى بوتين، إلى زرع الفتنة وعدم الاستقرار في كييف، على الأرجح بهجوم إلكتروني قوي يستهدف البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك الطاقة والحرارة والاتصالات. وسيواصل استخدام حملات التأثير التي تعتمد على المعلومات الخاطئة والمضللة، ومن المرجح أن يستخدم القوات الخاصة لتنفيذ عمليات زعزعة الاستقرار في العاصمة، وهذا ما سيعجل من رد قوي لكييف.

الخطة الصريحة التي تقررها أوكرانيا، كشف عنها سيرهي شيريفاتي، المتحدث باسم التجمع العسكري الشرقي الأوكراني، للتلفزيون الأوكراني، حيث قال يوم الجمعة الفائت، “عمليا جميع الطرق والطرق اللوجستية للعدو، التي ينقل من خلالها الذخيرة والقوى العاملة، هي بالفعل تحت سيطرتنا وضمن خطوط نيرانا”.

مستشار الرئيس الأوكراني، ميخايلو بودوليك، قال لصحيفة “بوليتيكو” في اليوم ذاته، “تظهر التعبئة الجزئية التي أقرتها روسيا لجنود الاحتياط، أن عناصر الجيش الروسي قد انتهوا، ولذلك يتم استبدال هذا الجيش بأشخاص غير مدربين تماما، ومع ذلك سيتم القضاء عليهم ببساطة”.

دفعت التعبئة كييف للمطالبة بمزيد من الأسلحة من حلفائها الغربيين، حيث بيّن بودولياك، إحدى الخطط، قائلا: “على سبيل المثال، 100 صاروخ آخر من عيار 155 ملم من شأنه أن يحل المشكلة، إذا سمحت لي بوضعها على هذا النحو، وضرب الموارد البشرية الإضافية التي تستخدمها روسيا في ميدان المعركة”.

وفي هذا السياق، يعتقد ماتوزوف، أن لدى روسيا الآن ورقة واحدة متبقية لتلعبها في هذه الحرب، هي الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية. خصوصا وأن القلق هو كيف سيكون رد فعل بوتين، على جهود أوكرانيا لتحرير الأراضي التي استولت عليها روسيا، وإذا كان “الكرملين”، سيرى ذلك على أنه هجوم على روسيا نفسها. لكن الرد الأوكراني المحتمل برأي ماتوزوف، سيكون بتدمير القوات البحرية الروسية في البحر الأسود بالكامل لمنع محاولة روسيا شن ضربة نووية تكتيكية ضد المواقع القتالية للجيش الأوكراني.

مواجهة ضد الغرب؟

الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي، وقّع مرسوما أمس الثلاثاء نشر عبر موقع الرئاسة الأوكرانية، يعتبر قرار ضم روسيا مناطق من أوكرانيا “باطلا”. وبحسب المرسوم فإن ضم روسيا مناطق من أوكرانيا، بدءا من شبه جزيرة القرم عام 2014، وحتى مناطق دونيتسك ولوهانسك وخيرسون وزابورجيا، في الأيام الأخيرة، يعتبر باطلا. وفي وقت سابق من اليوم ذاته، وقّع زيلينسكي مرسوما ينص على عدم إجراء مباحثات مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين.

بالعودة إلى خطاب بوتين، الذي ألقاه الجمعة الفائت، كان حديث بوتين، محاولة لإلقاء اللوم في الصراع على الغرب متجاهلا قراره الفردي بغزو أوكرانيا، حيث وصف ذلك بعبارات أشد قسوة من الخطابات السابقة، ملقيا بظلاله على قرون من الأعمال العسكرية الغربية للتنديد بالنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة على أنه أساسا شرير وفاسد وشرع في تدمير روسيا. وأصر بوتين على أن موقف روسيا من ضم الأراضي الأربعة غير قابل للتفاوض، مضيفا أن البلاد ستدافع عنها “بكل ما في متناولنا من قوة وموارد”.

برأي ماتوزوف، من غير المرجح أن يرسل الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي رفض عملية الضم الأخيرة قوات طالما ظل الصراع محتجزا في أوكرانيا. خصوصا وأنه وعد صراحة بعدم إرسال قوات أميركية إلى أوكرانيا. ولكن إذا امتد القتال خارج الحدود الأوكرانية لسبب ما، فهناك احتمال أن يتدخل الأميركيون.

بصفته المؤسسة البارزة المكرسة للأمن الأوروبي، المؤسسة التي أنشئت لحماية أوروبا من أي نوع من العدوان، يُعد “الناتو” لاعبا رئيسيا في هذه الأزمة. ومن بين الأدوار الأخرى، فهو منتدى للتشاور بين حلفائه وشركائه، وسلطة مؤسسية وأخلاقية تدين عدوانية “الكرملين”، وقناة للحوار مع روسيا.

ويضيف ماتوزوف، “في الواقع، الناتو ليس عليه أي التزام بالدفاع عن أوكرانيا ولن يرسل قوات للقيام بذلك. لكن بدلا من ذلك، سيركز الحلف على ردع العدوان الروسي على أراضي الناتو من خلال زيادة جاهزية قواته، واستكمال وضع قوته في دول المواجهة، وتنسيق القيادة والسيطرة على تلك القوات. ومع ذلك، فإن التعاون الروتيني الذي يروج له الناتو بين حلفائه وشركائه سيمكن الأعضاء من العمل نيابة عن أوكرانيا على المستوى الثنائي أو من خلال الائتلافات”.

ويؤكد ذلك الخبير في السياسية الأوروبية، تيم نيجوث، خلال حديثه لـ”الحل نت”، حيث قال: “توسع الناتو كنتيجة مباشرة لهذه الأزمة غير مرجح. فعلى الرغم من التعهد الذي أعلن عنه عام 2008 بأن أوكرانيا وجورجيا ستنضمان في النهاية إلى الناتو، إلا أن احتلال روسيا لأراضي في كلا البلدين أدى بحكم الواقع إلى منع هذا الاحتمال وهي حقيقة عززتها الأزمة الحالية”.

وبينما رفض “الناتو” بحزم مطالب موسكو بعكس سياسة الباب المفتوح، يعتقد نيجوث، أن جميع الأطراف تعي بأن عضوية أوكرانيا في “الناتو” غير مجدية حاليا. تشمل الحالات المحتملة حاليا لتوسيع “الناتو” فنلندا والسويد، وهما أقرب شريكين للناتو ولكنهما ليسا عضوين بعد. ولكل منها تاريخ صعب مع موسكو وتشاركها مخاوف جدية بشأن مسار أفعال روسيا.

ولكن، يشير نيجوث، ستكون عقوبات “الناتو” أشد صرامة من تلك التي فُرضت بعد الغزو الروسي، وستكون على شكل قيود مشددة على البنوك المملوكة للدولة، وضوابط التصدير وستكون ضربة اقتصادية مؤلمة، وعقوبات شخصية ضد الدائرة الفاسدة التي تدير روسيا، في حين سيكون تسليح الجيش الأوكراني هو السمة الأبرز وهذه المرة بمعدات حديثة ومتطورة قد تعقد صورة بوتين أمام المجتمع الروسي الذي بدا أنه غير راض عن سياسية الحكومة الحالية في موسكو.

وعليه، فإن الاحتمالات مفتوحة في الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا، فروسيا التي بدأت تستشعر الورطة الحقيقية التي وقعت فيها والخسائر الكبيرة التي تكبّدها جيشها في المعدات والأفراد، جعلت الحكومة الروسية تبحث عن أي مخرج ممكن من هذه الحرب حتى لو اضطرت لمخالفة القوانين الدولية باستخدام أسلحة محرّمة، خاصة وأن هذا الصراع العسكري لم يشهده العالم منذ أكثر من 30 عاما الماضية، ما سيقابله بالتأكيد رد غربي على هذه الخطوة ربما ليس بمفهوم التصعيد العسكري المباشر، إنما بزيادة الدعم لكييف ومحاولة حشر موسكو عبر العقوبات الدولية للتراجع عن مواقفها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.