أزمة الديون الضخمة تتفاقم ولا تزال في مسار معقّد، خاصة بعد أن توقّع أكبر مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية أن الفترة المقبلة ستشهد المزيد من حالات التخلف عن سداد الديون أو “الإفلاس”، سواء على صعيد ديون الشركات أو الديون السيادية للحكومات.

في العقد الماضي، شكل تفاقم الديون الخارجية، خاصة في اقتصادات السوق الناشئة والنامية والدول الفقيرة، أحد أهم التطورات المالية في العالم، وأبرز المخاطر التي أدت إلى الانكماش، وعدم الاستقرار الاقتصادي العالمي، وتباطؤ في النمو واضطراب الأسواق المالية في البلدان المقترضة؛ وغذى ذلك التداعيات الاقتصادية لوباء “كوفيد -19” والغزو الروسي لأوكرانيا.

في خضم الأزمات والتحديات الاقتصادية الحالية، فإن ما يزيد من مخاطر ملف تفاقم الديون العالمية وزيادة تبعاته على الاقتصاد العالمي هو توقعات بحدوث “ركود عالمي وشيك”، وسط جهود البنوك المركزية حول العالم لتشديد السياسة النقدية ورفع أسعار الفائدة لمواجهة أكبر موجة تضخمية منذ أكثر من 4 عقود.

على إثر توقع استمرار تفاقم أزمة الديون خلال 2023؛ عدة تساؤلات تثار عن أزمة الديون الضخمة وتأثيرها على الاقتصاد العالمي، فضلا عن تبعات ذلك على العالم ككل وما إذا ستكون هناك تدخلات دولية لمعالجة أزمة الديون والحد من تأثيرها على الاقتصاد العالمي.

كما أشارت العديد من التقارير إلى أن حوالي 69 دولة من أفقر دول العالم تحتاج إلى 436 مليار دولار إضافية على مدى السنوات الخمس المقبلة لمعالجة آثار تداعيات جائحة “كورونا”، والغزو الروسي لأوكرانيا. لذلك، هل ستعمل الدول الكبرى على إنشاء “طوق نجاة” لإنقاذ الدول الفقيرة من أزمة الركود المتوقعة.

نسب الديون العالمية ستنخفض خلال 2023؟

بيانات جديدة كشفت أن الدين العالمي العام والخاص تراجع بأكبر وتيرة في 70 عاما خلال 2021، لكنه لا يزال أعلى من مستويات ما قبل وباء “كورونا”. وذكر “صندوق النقد الدولي” في دراسة بحثية حديثة، أن الدين العام والخاص تراجع بمقدار 10 بالمئة ليصل إلى 247 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021، مقارنة بذروته في العام السابق عند مستوى 257 بالمئة، ومقابل نحو 195 بالمئة في عام 2007.

“صندوق النقد الدولي” قال  إن 69 دولة فقيرة بحاجة لـ 436 مليار دولار “أ ف ب”

لكن على صعيد القيمة الدولارية، استمر الدين العالمي في الارتفاع لكن بوتيرة أقل، ليسجل مستوى قياسيا جديدا عند 235 تريليون دولار خلال العام الماضي. وأشار “النقد الدولي”، إلى أن الدين الخاص تراجع بنحو 6 بالمئة ليصل إلى 153 بالمئة من الناتج المحلي في العام الماضي، بينما هبط الدين العام بنسبة 4 بالمئة مسجلاً مستوى 96 بالمئة. ما يزيد من خطورة ملف تفاقم الدين العالمي وحدوث ركود اقتصادي وشيك.

بدوره، قال الخبير الاقتصادي الدكتور محمد أنيس، “بناء على حقيقة أن الدين الخاص الذي قدر بنحو 153 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي، بينما سجل الدين العام نحو 96 بالمئة، وإذا تحدثنا عن أزمة الديون العالمية، يجدر النظر أولا في مستوى الفائدة على العملات العالمية. على سبيل المثال، مستوى الفائدة على الدولار مرتفع في الوقت الحاضر، حيث رفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي مستوى الفائدة إلى نحو 4.5 بالمئة، وبالتالي فإن مستوى الفائدة على العملات الدولية، وتحديدا الدولار، مرتفع، لذا تكلفة سداد الدين مرتفعة، أي احتمالات زيادة الديون الخارجية أقل من ذي قبل، ذلك لأن قيمة التسديد مرتفعة. بالتالي، من المتوقع أن تنخفض نسب الدين العالمي في عام 2023”.

بحسب تقرير لـ “المعهد الدولي للمالية” في أيار/مايو 2022، فإن حجم الدين في اليابان بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي قُدر بنحو 257 بالمئة، واليونان بنحو 207 بالمئة. فيما تقود كل من الصين والولايات المتحدة الدين العام العالمي إلى مستويات قياسية، مع ارتفاع ديون الصين على مدار الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2022 بمقدار 2.5 تريليون دولار، وزيادة ديون الولايات المتحدة بنحو 1.5 تريليون دولار في الفترة ذاتها.

قد يهمك: رغم تراجع أرقام التضخم.. لماذا يواصل الفيدرالي الأميركي رفع نسبة الفائدة؟

في وقت سابق، كان “البنك الدولي”، قد لفت إلى أن البلدان الأشد فقرا المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية تنفق حاليا أكثر من 10 بالمئة من عائدات صادراتها لخدمة الديون العامة طويلة الأجل والديون الخارجية المضمونة من الحكومة، وهي أعلى نسبة يتم تسجيلها منذ عام 2000، وذلك بعد وقت قصير من بدء تنفيذ المبادرة المتعلقة بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون “هيبيك”.

كذلك، المخاطر المرتبطة بتزايد الديون لجميع الاقتصادات النامية، منخفضة ومتوسطة الدخل على حد سواء، حيث بلغ إجمالي الدين الخارجي لهذه الاقتصادات 9.2 تريليون دولار في نهاية عام 2021، أي أكثر من ضعف قيمته المسجلة قبل عشر سنوات.

التداعيات

في سياق تداعيات الديون العالمية الضخمة على اقتصاديات الدول الكبرى، ستكون انكماشية في الخطط الاقتصادية المستدامة العالية، أو سيكون هناك تباطؤ اقتصادي، بحسب تقدير أنيس لـ”الحل نت”.

أما عن الدول النامية، فهي من بين الدول التي سحبت بكثافة خلال السنوات الماضية على أساس أن تكلفة التمويل كانت رخيصة وبالتالي، فإن الاستدامة الاقتصادية ستنخفض وهذا الأمر سيختلف من دولة إلى أخرى حسب حجم اقتصاد كل دولة على حدة، كما توقّع أنيس أن “تتراجع هذه الدول أيضا في الاقتراض من الخارج، خاصة وأن معدلات التضخم لا تنخفض في هذه البلدان”.

السودان منو أحد الدول الفقيرة والمتخلفة عن سداد الديون الخارجية

أما بالنسبة لدول الشرق الأوسط النفطية وغير النفطية، فطالما إن أسعار النفط عند مستويات مقبولة، فلن تواجه هذه الدول النفطية مشاكل اقتصادية. أما الدول غير النفطية فتنطبق عليها نفس تأثيرات الدول النامية، على حدّ تعبير أنيس.

“طوق نجاة دولية”؟

في المقابل، أشار “النقد الدولي”، في تقرير مؤخرا، إلى أن 69 دولة الأكثر فقرا حول العالم بحاجة إلى 436 مليار دولار إضافية خلال الخمس سنوات المقبلة لمعالجة آثار تداعيات جائحة “كورونا”، مبينا، أنه سيتم تخصيص 170 مليار دولار من المبلغ المطلوب لمعالجة آثار الوباء مثل تفاقم الفقر وزيادة الاحتياطيات، وبقية المبلغ لمساعدة الدول منخفضة الدخل على اللحاق بمتوسط نسبة الإنفاق للناتج المحلي الإجمالي في الأسواق الناشئة بحلول عام 2026.

قد يهمك: انفصال إقليم أزواد.. تصعيد جديد في مالي؟

الصدمات المركبة من الوباء والحرب في أوكرانيا أثرت بشكل غير متناسب على الدول منخفضة الدخل. هذا وتظهر حسابات الصندوق أن حوالي ثلث الاقتصاد العالمي سوف يشهد على الأقل ربعين سنويين متتاليين من الانكماش خلال العام الحالي والمقبل، وأن الناتج الاقتصادي المفقود حتى عام 2026 سيكون 4 تريليونات دولار.

بالعودة إلى الخبير الاقتصادي، أنيس، فبحسب تقديره، فإن التدخل الدولي مطلوب لمعالجة أزمة الديون، يعتمد على إطارين؛ الأول من خلال “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي” اللذين يتدخلان عادة لدعم وتأهيل اقتصاديات بعض الدول التي تحتاج إلى دعم وإنقاذها من العقبات المالية وتخفيف آثار الأزمات الدولية مثل أزمة “كورونا”، الحرب في أوكرانيا، والتضخم الاقتصادي.

أما الإطار الآخر فهو قمم المناخ، حيث توجد آليات تمويل تلتزم بها الدول الكبرى ذات العملات الدولية، والتي تساعد من خلال “صندوق التعويضات” لمساعدة الدول الفقيرة المتضررة من التغيّر المناخي، من خلال توفير فرص الاستثمار وتوفير التمويل بقيمة منخفضة للعملات الدولية، للخروج من أزماتهم والتخفيف من آثارها على الاقتصاد العالمي في الوقت ذاته، على حد قول أنيس.

إن ارتفاع الدولار وتراجع مبيعات السندات مؤخرا، ساهما في خفض الدين العالمي بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من عام 2022، وفق تقرير جديد صادر عن “معهد التمويل الدولي” في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2022.

لكن ذلك الانخفاض لا يمكن التعويل عليه؛ إذ إنه في الوقت الذي انخفض فيه حجم الديون لبعض البلدان، ارتفع نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي، بفعل النمو الضعيف والإنتاج المنخفض.

في المجمل، ووسط التوقعات السلبية عن اتجاهات الاقتصاد العالمي واحتمالية حدوث ركود عالمي، التي من ضمنها زيادة تعقد أزمة الديون العالمية، خاصة بالنسبة للبلدان النامية والفقيرة، تزداد المخاوف من الدخول في موجة جديدة في التخلف عن سداد الديون وبالتالي “الإفلاس”، وعلى الرغم من أنه إذا حدث هذا فلن يتسبب في أزمة اقتصادية دولية، ذلك لأن حجم تلك الاقتصادات بالنسبة للاقتصاد العالمي “صغير”. ومع ذلك، ستكون آثار الأزمة الاقتصادية على الاقتصادات النامية والفقيرة كبيرة، مثل حدوث المجاعات وحالات النزوح والهجرة، فضلا عن المخاطر الأمنية من حدوث الاضطرابات السياسية والاجتماعية، والصراعات الأهلية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.