على خلاف السنوات الماضية، تتبنى المملكة العربية السعودية اليوم نهجا يقوم على إحياء الأمن والاستقرار في المنطقة من خلال تفعيل دورها الرئيسي في العديد من القضايا العالقة بالدول العربية. في الآونة الأخيرة، دخلت المملكة في اتفاق مع خصمها اللدود؛ إيران بهدف إحداث التهدئة والسلام في دول المنطقة التي تشهد استعصاء سياسي وتوترات أمنية بين الحين والآخر.

دور السعودية كان جليا في الفترة الماضية في إيجاد حلول للعديد من القضايا العالقة في المنطقة ومنها الملف السوري، إذ استطاعت المملكة مؤخرا إقناع الدول العربية، بفعل ثقل دورها، إعادة مقعد سوريا إلى “جامعة الدول العربية “كخطوة أولى في بداية مسار الحل الشامل بسوريا، إضافة إلى جهودها لإنهاء حالة الحرب في اليمن من خلال عقد اجتماعات مباشرة مع “الحوثيين” في العاصمة صنعاء بهدف الوصول إلى حل يقود اليمن إلى برّ السلام.

من هنا لابد من طرح بعض التساؤلات حول آفاق نجاح السعودية في نزع فتيل كل التوترات والصراعات في اليمن، في ظل رغبة سعودية بارزة في أن تكون لاعبا سياسيا حقيقيا في المنطقة، وما إذا كانت المملكة قادرة على لعب دور محوري رئيسي في المنطقة وتكون اليمن بوابة ذلك.

تطورات لافتة ومتسارعة

في سياق إحداث خرق في مسار الأزمة اليمنية المستمرة، تواصل الدبلوماسية السعودية بخطوات واسعة ومتسارعة للوصول إلى مخرج لإنهاء مختلف القضايا العالقة بين الفرقاء اليمنية، من خلال إرسال وفد سعودي برئاسة السفير محمد آل جابر مؤخرا إلى صنعاء، والذي التقى بقيادات لجماعة “الحوثي” وأولهم مهدي المشاط رئيس ما يسمى “المجلس السياسي الأعلى” التابع لـ”الحوثيين”. وقد تكون هذه الزيارة انطلاقة جديدة لبدء مفاوضات لإنهاء الوضع المأزوم في اليمن.

السفير السعودي في اليمن، محمد آل جابر يصافح رئيس المجلس السياسي في صنعاء مهدي المشاط في نيسان/أبريل 2023- “أ ف ب”

قبل نحو أسابيع، ذكرت “وكالة أنباء سبأ” التي يديرها “الحوثيون”، أن وفدين سعودي وعُماني وصلا إلى العاصمة اليمنية، لإجراء محادثات مع رئيس “المجلس السياسي الأعلى”، لإحياء عملية السلام. وقد أظهرت صورة نشرتها وسائل إعلام تابعة لـ”الحوثيين” السفير السعودي وهو يصافح المشاط، وأخرى وهما يتوسطان الوفد السعودي ووفدا عُمانيا يقود الوساطة بين الجانبين ومسؤولين “حوثيين”.

الكاتب والمحلل السياسي اليمني ومدير مركز “أبعاد” للدراسات والأبحاث، عبد السلام محمد، يقول إنه أولا عندما نحاول تفسير التحركات السعودية في المنطقة يجب أن نحدد هدفها المحوري إذا ما كانت في إطار أمني أو لحاجة اقتصادية  أم هو بغية توسيع وزيادة نفوذها. وهذا يدفعنا إلى متابعة أولويات الرياض في هذه المرحلة.

 حسب تقييم وتقدير المحلل السياسي اليمني لموقع “الحل نت”، فإن أولوية الرياض الآن استقرار المنطقة وتوقف الحروب المحيطة بها، وهي حاجة أمنية اقتصادية مزدوجة، فلدى الرياض استراتيجية طموحة لتحقيق وضع اقتصادي يتماشى مع استراتيجية ورؤية المملكة 2030.

قد يهمك: دعم إيران لوحدة اليمن.. مناورة سياسية لإرضاء السعودية؟

أيضا، من المُلاحظ أن السياسة السعودية قد غيرت اتجاهها خلال الفترة الماضية، حيث بدأت في اتباع عدة أساليب واستخدام كل أنواع الدبلوماسية التي من شأنها أن تسهم في إحياء السلام وإطفاء حرائق المنطقة وحل قضاياها، وكل ذلك يأتي في سياق تنفيذ رؤية المملكة لعام 2030 التي تحتاج إلى خلق ظروف سياسية داخلية وإقليمية وخارجية وإعادة العلاقات السياسية للمملكة مع المجتمع الدولي برمّته.

لذلك لن يكون أمرا مباغتا أن تتوصل الدبلوماسية السعودية إلى حلّ شامل مع مختلف القوى السياسية في اليمن، وحل معضلة الأزمة اليمنية المستعصية التي دخلت عامها التاسع، وسط مساعي المملكة الدؤوبة لإنهاء الملفات المأزومة بالمنطقة، وعلى رأسهما الملف اليمني الذي استنزف جهودا كبيرة من السعودية.

“حاجة اقتصادية”

العديد من التحليلات تشير إلى أن الدبلوماسية السعودية تمكّنت من تحقيق اختراق كبير في المنطقة من خلال التوصل إلى عدة اتفاقيات، منها الاتفاق مع طهران، والذي حققت منه المملكة الكثير من المكاسب، منها إنهاء بعض الخلافات في المنطقة وفتح آفاق سياسية واقتصادية وتجارية.

الرياض، التي تواجه جماعة “الحوثي” المدعومة من طهران في اليمن منذ عام 2015، لا شك أنها مصرّة في الوقت الحالي أكثر من أي وقت مضى لإنهاء حالة الصراع الذي استنزف منها الكثير وعرّض منشآتها النفطية لهجمات الطائرات المسيّرة والصواريخ خلال السنوات الماضية، وبالتالي ونظرا لدورها الكبير في المنطقة، فإنها ستتّبع شتى الأساليب للتوصل إلى أولى خطوات إنهاء الحرب باليمن.

بالعودة إلى المحلل السياسي اليمني، فإنه يرى أن دافع تحقيق رؤية السعودية لعام 2030 يدفعها إلى أن تكون جميع البلدان المحيطة وفي المنطقة بالذات التي تشهد صراعات ونزاعات، شريكة في هذا الاستقرار والأمن، وهذا ما يشجع كثير من هذه البلدان لخوض تجربة إطفاء الحرائق والقبول بمقابل تنموي تحتاجه فترة ما بعد الصراعات والحروب.

مدير مركز “أبعاد” للدراسات والأبحاث، عبد السلام محمد

كذلك ثمة رغبة سعودية في شغل دور كبير في المنطقة بما يحقق الظروف المواتية لتطبيق رؤية السعودية لعام 2030، ولا يمكن التغاضي عن أن حلّ النزاعات والقضايا العالقة في المنطقة ولا سيما اليمن، يحقق المصالح الاقتصادية الكبيرة لكل دولة على حدة.

بالرغم من أن الرياض لا تثق بطهران كثيرا، لكنها تحركت نحو المصالحة معها، بدافع أن الاتفاق يمثل أولوية قصوى في الوقت الراهن، وربما رأت أن الظروف العصيبة، خاصة الظروف الداخلية والاقتصادية السيئة لإيران، قد تغيّر شيئا من سلوكها. ولكن في المجمل، سيستمر البلدان في سياسة الردع والاحتواء لفترات طويلة ربما وإن كان بأشكال مختلفة، السعودية بنفوذها الاقتصادي بينما إيران بوكلائها العسكريين، ومن أهمهم جماعة “الحوثي” كما يقوله تحليل لموقع “المجلة”.

حلول ممكنة؟

منذ الاتفاق السعودي الإيراني مؤخرا، كانت الأولى تتحرك بدبلوماسية نشطة لإيجاد حلول للملف اليمني. وفي الواقع، يعيش اليمن في هدنة منذ ذلك الحين، لكنها هدنة يمكن أن تنفجر في أي وقت. وذلك لأن “الحوثيين” ما زالوا يواصلون هجماتهم وانتهاكاتهم من حين لآخر ولم يلتزموا بأي حلول يقترحها الوسطاء، بحسب مراقبين.

تحليل “المجلة” يقول إنه في الوقت نفسه، لا يمكن التقليل من أهمية الصفقة السعودية الإيرانية في بناء الثقة بين البلدين حتى الوصول لتكامل إقليمي ينعكس على اليمن وغير اليمن. لكن هذا التحول نحو نظام سلمي وتعاوني هو عملية متدرجة ستكون إعادة العلاقات السعودية الإيرانية إحدى مراحلها الرئيسة والحتمية التي سيُبنى عليها هذا النظام الأمني لاحقا. الأسئلة الرئيسة الآن هي ما الجهود التي يجب بذلها لجعل الإيجابية الحالية في اليمن دائمة، وكيف يمكن تحصين اليمن مستقبلا من الانتكاس والنكوص. الجزء الأساسي من نجاح هذا الأمر يتعلق باليمنيين و”الحوثيين” وانعتاقهم من تحكم واستخدام إيران لهم، والجزء المهم الآخر يتعلق بالتوازن الإقليمي والتفاهمات بين الرياض وطهران.

ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان أطلق مشروع “نيوم” باستثمارات 500 مليار دولار- “واس”

كذلك، اتبعت السعودية وإيران دوافعهما الخاصة والمختلفة للتوصل إلى اتفاق بينهما. هذا التناقض في الدوافع والأهداف بين البلدين هو فرصة ومخاطرة في الوقت نفسه؛ فمن جهة، هو ظرف مصلحي بحت، وبالتالي هذا ينعكس على هشاشة المصالحة حيث يمكن لأي طرف أن ينعطف عن المسار ويتراجع عن المصالحة إذا تم تحقيق أهدافه الخاصة أو حتى اليأس من عدم تحقيقها، كعودة التصعيد في اليمن لمستوياته السابقة.

إلا أنه وبالنظر إلى طبيعة الاتفاق القائمة على مصالح بحتة فهي تغلب الاحتمالات لجعل المصالحة حقيقية ومستدامة وذلك بتوسيع مجالات الاهتمام والمصالح المشتركة. فمن المنظور الاستراتيجي للمملكة، تحول الصفقة الصراع بين البلدين إلى المجال الاقتصادي بعيدا عن المنافسة الأمنية، لأن الأخيرة ضارة ومكلفة ليس فقط للسعودية بل للجانب الإيراني أيضا، وبالتأكيد لليمن وفصائله المتعددة ككل بما فيهم من يتعاون مع إيران.

طهران التي تدرك الآن التغيرات في استراتيجية السعودية، من حيث تهيئة الظروف في المنطقة بما يتماشى مع استراتيجية المملكة الجديدة لتوسيع المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، وأنها لن تخوض أي حرب في منطقة الخليج، في حالة هجوم إسرائيلي على منشآت نووية إيرانية، إذا ذهبت طهران لاستكمال برنامجها النووي، وهو ما قد تقوّضه طهران بتنازلات عن بعض الملفات التي تريدها الرياض، مثل الملف اليمني.

لكن ثمة مسألة أخرى قد تتمكن السعودية من اللعب على أوتارها بشكل أكثر فعالية وإيجابية في إيجاد مقاربة سياسية للأزمة اليمنية. وهو إذا ما تركت طهران جماعة “الحوثي” لتسوية سريعة وبراغماتية، فإنها ربما تنقلب بسلاحها ضد مصالح الطرف الذي كانت ترتهن لحسابه، وهجمات “الحوثي” خلال عيد الفطر الماضي أثبتت ذلك. وسلوك “الحوثي” في تنفيذ هجمات خلال الفترة الماضية رغم التوصل إلى هدنات مؤقتة، تبدو كعامل لتحقيق المزيد وتحسين موقفهم من المشاورات التفاوضية مع الجانب السعودي، من أجل الحصول على مكاسب إضافية.

بالمثل، وعلى الرغم من خضوع الجماعة لطهران، فقد يكون هناك هامش للتحرك، نتيجة وجود شكوك ومخاوف من قبل “الحوثي” للتقارب السعودي الإيراني، وأن لا يكون هذا التقارب على حسابها، ولهذا السبب قد ترى أنه يجب أن توفر لنفسها هامشا للحركة والنفوذ من أجل تعزيز موقعها على طاولة المفاوضات، وبما يسمح لها بالاستثمار السياسي داخل اليمن والبحث عن حواضن جديدة للمراحل المستقبلية، بمعنى أدق، لن يتنازل “الحوثيون” بسهولة عن استحقاقاتهم في الحرب لمراعاة أهداف إيران السياسية والإقليمية، الأمر الذي قد يسهّل عملية التفاوض مع الرياض أكثر، نظرا لأن الرياض ومع الدول الخليجية عززت ورفعت من مستوى الشراكات الدفاعية الاستراتيجية، وخصوصا قواتها الدفاعية الجوية من المسيّرات، مع العديد من الدول، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية.

بالتالي جماعة “الحوثي” التي طالما كانت تتغنى بالطائرات دون طيار والصواريخ عالية التقنية، ستدرك في القادم القريب أن هذا التكتيك الدفاعي لن يدوم لفترة طويلة مقابل تطور الرياض لتقنياتها في هذا المجال، لا سيما وأن المملكة تضمنت زيادة ملحوظة في حصة القطاع العسكري، في موازنة 2023، حيث بلغت 295 مليار ريال قرابة 78.4 مليار دولار. وهذا يعني أنه من مصلحة “الحوثيين” التوصل إلى اتفاق مع السعودية الآن أكثر من أي وقت مضى، وهنا يمكن القول، بأن مسألة توصل الدبلوماسية السعودية إلى صيغة تفاهم من أجل تحقيق الاستقرار في اليمن ليست مستبعدة في المستقبل المنظور.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات