إن تدني قيمة الليرة السورية المحلية وارتفاع سعر صرف الدولار يعدان سببا رئيسيا وراء ارتفاع الأسعار الجنوني الذي يواجهه السوريون في الآونة الأخيرة، وفي هذا السياق، يظهر الدولار كشماعة يعلّق عليها تجار دمشق أسبابهم، فهو يحمل وزنا في تحديد مصير اقتصاد البلاد وحياة المواطن العادي. 

إلا أن الأمر الذي لفت الانتباه وزاد من حجم الرهبة والقلق هو الارتفاع الكبير الذي شهدته الأسواق خلال الشهر الماضي في أسعار السلع والمواد الغذائية، بينما كان هناك استقرارا في قيمة صرف الدولار وأيضا شهدت أسعار الذهب انخفاضا. فما هي الأسباب والمبررات التي تعزى إلى هذا الارتفاع المقلق الذي يبدو أنه يفوق الطبيعة ويتجاوز القوانين الاقتصادية المعتادة.

تخفيض الأسعار في مثل هذه الأوضاع يبدو أمرا مستحيلا، فالتداعيات الاقتصادية والسياسية السلبية التي تعصف بسوريا قد أثّرت بشكل كبير على البنية التحتية والإنتاجية للبلاد، وزادت من صعوبة إحلال الاستقرار وتحقيق التوازن في سوق العمل.

كل شيء بالدولار 

بالفعل، في ظل الظروف الراهنة التي تعصف بسوريا، يبدو أن الدولار يحكم الأوضاع الاقتصادية والتجارية في البلاد. حيث أصبحت العملة الأجنبية هي المعيار الذي يتم تحويل الأسعار والتعاملات به، وهو ما يضفي على الدولار قوة وقيمة استثنائية.

انخفاض القوة الشرائية بسبب ربط أسعار المواد الغذائية في سوريا بالدولار - إنترنت
انخفاض القوة الشرائية بسبب ربط أسعار المواد الغذائية في سوريا بالدولار – إنترنت

تأثير الدولار الكبير يعود إلى عدة أسباب. أولها، تداعيات الحرب والصراعات المستمرة في البلاد والتي أدت إلى تراجع قيمة الليرة السورية وانهيار الاقتصاد المحلي. ونتيجة لذلك، بات الدولار هو العملة التي يثق فيها المواطنون والتجار، ويفضلون الحفاظ على ثرواتهم وتحويل أموالهم إلى الدولار لحمايتها من التدهور المستمر لليرة.

ثانيا، العقوبات المفروضة من قبل البنك “المركزي” السوري على التجار والمواطنين أدت إلى تقييد العديد من العمليات المالية والتجارية للبلاد. وفي ظل هذه العقوبات، تتعامل العديد من المؤسسات التجارية الدولية مع سوريا بشكل محدود أو تماما بالدولار، ما يجعل الدولار هو الوسيلة الوحيدة للتعامل الخارجي واستيراد السلع والخدمات الضرورية.

إضافة إلى ذلك، تأثير الدولار ينعكس على مختلف قطاعات الاقتصاد السوري، بدءا من الواردات والتصديرات وصولا إلى القطاع المصرفي والمالي. فعندما يصبح الدولار هو العملة الأساسية للتجارة والتعاملات المالية، تزداد التبعية للدولار وتصبح سياسات السوق والأسعار مرتبطة بتحركاته.

فحتى على مستوى العلكة التي تباع داخل أصغر المحلات في سوريا باتت مرهونة بسعر الدولار، فبحسب ما ذكره موقع “أثر برس” في وقت سابق، فما تزال العلكة التقليدية التي يعرفها السوريون تقف عند 500 ليرة سورية للقطعة الواحدة، علما أن سعرها في العام 2011 كان ليرة واحدة فقط، أي إنها تضاعفت بمقدار 500 مرة، بالرغم من أنها تستخدم كـ “كمالة” وبديل عن ” الفراطة” حاليا إلا أن سعرها مرتبط بالدولار.

بالتالي، يمكن القول إن الدولار أصبح السيد الذي يحكم الأوضاع الاقتصادية في سوريا، حيث تكمن قوته وقيمته في ظل ظروف الاقتصاد الصعبة وعدم الاستقرار الذي يعصف بالبلاد، وقد يكون لهذا تأثيرات سلبية على الاقتصاد المحلي والمواطنين، إلا أن الواقع المرير الذي يواجهه السوريون والذي يتطلب جهودا جادة لإيجاد حلول مستدامة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.

السوق السوداء تبتلع غالبية الحوالات

وفقا للخبير الاقتصادي جورج خزام، يعود ارتفاع الأسعار إلى عدة أسباب مهمة. يشمل ذلك زيادة الحكومة في أسعار السلع الضرورية مثل الإسمنت والمحروقات والسماد، بالإضافة إلى زيادة الضرائب والرسوم المتنوعة والنفقات المباشرة وغير المباشرة، وزيادة تكاليف المدخلات الإنتاجية. كما أن ازدياد الاحتكار من قبل فئة معينة تسيطر على توريد السلع الأساسية مثل العلف، لعب دورا في تراجع الإنتاج وتدهور العرض وارتفاع الأسعار.

ارتفاع أسعار المواد الغذائية في سوريا بسبب ربطها بالدولار - إنترنت
ارتفاع أسعار المواد الغذائية في سوريا بسبب ربطها بالدولار – إنترنت

في حديثه أمس الخميس، لموقع “غلوبال نيوز” المحلي، أوضح خزام أن ارتفاع الأسعار على الرغم من استقرار سعر صرف الدولار يعزز من تراجع القوة الشرائية لليرة السورية، وهو يُعدّ أحد أسوأ أشكال التضخم ويندرج تحت مسمى تضخم تكاليف الإنتاج؛ إذ يقوض القدرة التنافسية للمنتجات المحلية في الأسواق المحلية والعالمية.

على هذا التضخم يترتب زيادة الطلب على المستوردات مع تراجع الطلب على المنتجات المحلية، مما يؤدي إلى المزيد من البطالة والكساد وارتفاع سعر الدولار وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج.

أما فيما يتعلق بالحوالات الواردة قبيل فترة العيد، أكد الخبير الاقتصادي أن السوق السوداء تستحوذ على غالبية تلك الحوالات بسبب الفارق في أسعار الصرف بينها وبين تسعيرة “المركزي” السوري. ولو كان سعر صرف الدولار في “المركزي” يقترب من السعر الفعلي في السوق السوداء، لما حدث انخفاض في سعر الصرف بالسوق السوداء، ولم يتمكن أحد من الحصول على ليرة سورية واحدة، حيث يحتفظ البنك “المركزي” بالحوالات في الخزينة العامة لزيادة العرض.

علاوة على ذلك، عندما يتعلق الأمر بوسائل التأثير على سعر صرف الدولار، فإن الأدوات المستخدمة والتي تتضمن التهديد بالسجن وفرض غرامات على المتعاملين بالدولار بدلا من الليرة السورية مما يعني تجريم التعامل بالدولار، وهذا يمنح الدولار قيمة أكبر في السوق بكثير مما هو عليه في الواقع. 

فالممنوعات تكتسب قيمة أعلى بكثير من قيمتها الفعلية نظرا للأرباح الكبيرة التي يحققها المتعاملون بها نتيجة تحمل المخاطرة في التعامل بها. وبالتالي، تزيد أرباح البائع دون وجود منافسة حقيقية في العرض. ونتيجة لذلك، يكون تخفيض الأسعار مستحيلا.

تخفيض الأسعار.. مستحيل

بخصوص التصريحات والمطالبات بزيادة كبيرة في الرواتب، فإن إضافة صفر إلى الرواتب ستؤدي إلى ارتفاع سعر الدولار إلى 30 ألف ليرة سورية خلال شهر واحد. وهذا يعني تعرض المصارف الخاصة والعامة للإفلاس نتيجة لتراجع القوة الشرائية للاحتياطيات النقدية بالليرة السورية التي تحتفظ بها، وتراجع القوة الشرائية للقروض بنسبة تزيد عن 75 بالمئة.

ربط أسعار المواد الغذائية في سوريا بالدولار - إنترنت
ربط أسعار المواد الغذائية في سوريا بالدولار – إنترنت

ربما لم تنجح الحكومة في رفع الرواتب والأجور التي تراجعت قدرتها الشرائية بشكل كبير بعد وقوع كارثة الزلزال، ومع تراجع قيمة الليرة السورية أمام الدولار بنسبة تزيد عن 50 بالمئة خلال الأشهر الستة الماضية، كان من المتوقع أن ترتفع أسعار اللحوم البيضاء والحمراء ومشتقات الألبان ومعظم المواد الأساسية المنتجة محليا. 

بالتالي، من يستفيد حاليا من عملية التصدير أصحاب رؤوس الأموال الذين لا يقتصرون على سحب العملة الصعبة المتحققة من التصدير، بل يقومون أيضا بتحويل كل ممتلكاتهم من العملة المحلية إلى الدولار أو الذهب. وهذا يؤدي إلى زيادة التضخم وارتفاع أسعار الخضروات والفواكه بما يوازي أسعارها في دول الخليج مع وجود فارق هائل بين الدخل هناك والدخل في سوريا.

انخفاض قوة الشراء للعملة المحلية أمام السلع المنتجة محليا بنسبة أكبر ربما من قوتها في شراء السلع المستوردة، هذا يعني أن الحكومة لم تتمكن من إدارة السياسة النقدية والاقتصادية بنجاح، ولم تستفد من الخبرات والاستشارات الاقتصادية المحلية والدولية.

بسبب ذلك، يعتقد الكثيرون أن قيمة رواتبهم، التي تعادل حاليا خمسة عشر دولارا، قد تنخفض إلى حد يعادل ثمانية دولارات في العام القادم.إذ إن شريحة العمال والمتقاعدين وصلت إلى مستوى فقر مدقع، حيث لا تكفي أجورهم اليومية سوى لشراء فنجان قهوة وكأس ماء في مقهى على الرصيف، وراتبهم الشهري لا يكفي حتى لدخول المسبح مرة واحدة، إذ يتجاوز تكلفة الدخول مئة ألف ليرة.

على الرغم من أن أي زيادة قد تطرأ على الرواتب والأجور، حتى لو وصلت إلى عشرة أضعاف الراتب الحالي، لن تحسن من مستوى المعيشة للمواطن إلا إذا رافقها مع عاملين أساسيين. أولا، يجب تحديد أسعار الأغذية والخدمات بما يتناسب مع متوسط الدخل، وثانيا، يجب تحسين سعر صرف الليرة السورية وإلا سيبقى الدولار شماعة لتجار دمشق وهو المتحكم الرئيسي بأسعار السلع داخل البلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات