على الرغم من تعهدات الرئيس التركي المنتخب حديثا رجب طيب أردوغان، بحل الأزمات الاقتصادية في البلاد من خلال تعيين فريق اقتصادي جديد، الذي بدوره قرر التخلص من السياسات غير التقليدية المستخدمة لدعم العملة، إلا أن الليرة التركية لا تزال في حالة تدهور مستمر، حيث تعاني أنقرة من واحدة من أطول سلسلة انخفاضات الليرة منذ عقود، مما يمنع كبح جماح التضخم الهائل في البلاد.

خلال الأيام القليلة الماضية نشر “مجلس العلاقات الخارجية” (سي إف آر)، أحد أبرز مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة، تقييما شاملا يشير إلى أن تركيا تتجه نحو أزمة عملات أجنبية بسبب استنفاد احتياطات العملة الأجنبية في “البنك المركزي التركي”، وفق ما نقله موقع “إندبندنت“.

التقرير لفت إلى أن تركيا على وشك استنفاد احتياطاتها من العملات الأجنبية القابلة للاستخدام الفعلي، فإما أن تبيع ذهبها أو أن تدخل في حالة تعثر، أو توافق بمرارة على برنامج “صندوق النقد الدولي”.

من جهة أخرى، يستعد أردوغان للانطلاق في جولة إلى دول الخليج، ويبدو واضحا أنه يسعى لجذب الاستثمارات والموارد المالية التي جفت من الدول الغربية، نتيجة سياساته الخارجية في إدارة البلاد. كل هذا يفتح الباب لكثير من التساؤلات حول تداعيات تراجع الليرة التركية خلال الفترة المقبلة على الاقتصاد التركي، ومدى احتمالية حدوث أزمات اقتصادية في البلاد وانعكاسات ذلك على سياسات أنقرة الخارجية، وخيارات تركيا والتوقعات حيال كل هذا.

تداعيات انهيار الليرة

تراجع قيمة الليرة التركية سيؤدي إلى تفاقم الضغوط الناتجة عن ارتفاع الأسعار في الوقت الذي تمضي فيه الحكومة قُدما في تطبيق حزمة إجراءات تتضمن زيادة مؤقتة بنسبة 34 بالمئة في الحد الأدنى للأجور، وفق العديد من الخبراء.

تراجع الليرة التركية أمام النقد الأجنبي-“إنترنت”

حيث خسرت الليرة نحو ربع قيمتها مقابل الدولار منذ إعادة انتخاب أردوغان الشهر الماضي، وبالتالي يتوقع تباطؤ ارتفاع أسعار المستهلك بأقل وتيرة مسجلة منذ تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وفق “الشرق بلومبيرغ“.

الاقتصاديون في بنك “غولدمان ساكس”، ذكروا في تقرير مؤخرا، أن تأثير البيانات القوية للعام الماضي قوبل بانخفاض حاد في قيمة الليرة عقب الانتخابات الرئاسية. ورغم أن السياسة النقدية أصبحت أكثر تشددا منذ ذلك الحين، إلا أن التوقعات تميل إلى أن استمرار الضعف في سوق العملات سيفاقم التضخم الأساسي مستقبلا.

الأكاديمي والخبير الاقتصادي، رشاد عبده، يقول لموقع “الحل نت”، إنه من المعروف أن الاقتصاد التركي قائم على أمرين أساسيين، هما التصدير والسياحة. ويجب أن يشمل التصدير منتجاتها من أجل الاستمرار في عملية التصدير، وبدون جدال تمتلك تركيا إنتاجا اقتصاديا صناعيا يُعتبر جيدا وتجري تركيا دائما التخفيضات عن عمد من أجل جذب السياحة إلى البلاد، وهو ما يسمى “التصدير من الداخل”.

بالتالي فإنه نظرا لتداعيات تراجع الليرة التركية السلبية، فإن أنقرة ربما قد تتوجه إلى زيادة التصدير التي تعتبر أحد الحلول الأساسية بالنسبة لتركيا من حيث خفض قيمة العملة التركية، ذلك لأن خفض الليرة يؤدي إلى زيادة الطلب على الصادرات، لأن التكاليف تُعتبر رخيصة وبالتالي زيادة إيراداته واحتياطاته في “المركزي التركي”، وفي الوقت ذاته يزيد من جذب السياحة، وفق عبده.

لكن هذه الخطوة ليست بالمهمة السهلة، لأنها ستؤدي إلى زيادة التضخم وعدم استقرار الأسعار، وبالتالي سيكون أمامها التوجه لخطوة التخلص من الأدوات والسياسات غير التقليدية التي تهدف إلى دعم الليرة بالاعتماد على نضوب “الاحتياطيات المركزية”. وهنا تبدو تركيا في مأزق حقيقي.

تركيا تواجه خطر أزمة توازن الدفعات التقليدية، وهذا ما سيجعلها عاجزة على الطاولة في مواجهة الدول التي ستبرم اتفاقيات قروض.

تقرير “سي إف آر”

في الوقت ذاته الحكومة في حالة عجز عن الاقتراض من الخارج، ولهذا قد تتجه إلى تخفيض احتياطاتها من النقد الأجنبي وهو ما سيخلق هوة بين وارداتها وصادراتها.

احتمالية حدوث أزمة

في المقابل، تشير التوقعات إلى احتمال حدوث أزمة مالية أسوأ من الأزمات المالية السابقة، خاصة بعد أن أقرضت البنوك التركية “المركزي التركي” الكثير من الأموال، لدرجة أنه إذا أراد الناس استرداد ودائعهم، فإن الحكومة لن تكون قادرة على القيام بذلك، وهو مؤشر خطير.

الأكاديمي الاقتصادي يضيف، أن تركيا تواجه مشكلة في الوقت الحالي بسبب افتقادها لسياسات “البنك المركزي” الجيدة، وأردوغان لهذا السبب استبدل المسؤولين في المؤسسات الاقتصادية بفريق جديد، أملا في إنقاذ البلاد ومعالجة أزماتها الاقتصادية.

لكن يجب القول بإن أنقرة في معضلة حقيقية، وهو إما أن يتوجه الفريق الاقتصادي الجديد لخيار الاقتراض من الخارج أو ببيع الأصول الحالية، وفي كلتا الحالتين ستتأثر تركيا وسياساتها الخارجية من الخيارات التي ستتخذها لاحقا.

تركيا في مأزق اقتصادي-“إنترنت”

على الرغم من العلاقات التركية الجيدة مع روسيا والصين وحتى بعض دول الخليج، وعلى صعيد التبادل التجاري والاستثمارات، إلا أن تقريرا لشبكة “ بي بي سي“، يشير إلى أن علاقة تركيا مع الصين تتمحور حول التجارة والتمويل، وانضمت إلى مبادرة “الحزام والطريق” الصينية لتحسين العلاقات التجارية وللحصول على قروض من الصين.

إلا أن هذه العلاقات لم تنقذ الاقتصاد التركي، بل يزداد سوءا يوما بعد يوم، ونظرا لأن أنقرة لها مصالح كثيرة مع الغرب، خاصة الاقتصادية منها، يجب على أردوغان استعادة علاقاته مع الدول الغربية حتى يتمكن من تحسين وضع الاقتصاد بشكل جيد ومستقر، مما سيؤثر على علاقاته مع كل من روسيا والصين، وسيتطلب ذلك تقديم الكثير من التنازلات بخصوص انضمام السويد وفنلندا لـ”حلف الشمال الأطلسي” (الناتو)، بحسب ما يراه الكاتب والباحث السياسي والمهتم بالشأن التركي مصطفى صلاح.

لكن بالتمعن إلى تحركات تركيا الأخيرة، لا يبدو أن أردوغان عازما على اتخاذ هكذا خطوة بشأن التقارب مع الغرب، بسبب عقليته السياسية القديمة، وعلاقته مع روسيا وإيران وسياسته تجاه بعض القضايا مثل الملف اليوناني وأطماعه مؤخرا في التنقيب عن الغاز بالبحر المتوسط والعديد من القضايا، وفي الوقت ذاته يصعب عليه إحداث حالة من التوازن مع الغرب والدول الأخرى، على الرغم من محاولاته العديدة، وهو ما يعني أن سياساته الخارجية ستبقى عما عليها وإن كان يحاول تغير بعضا منها تجاه دول الإقليم، وفق صلاح لموقع “الحل نت”.

لذلك يستبعد صلاح أن يكون هناك تقارب تركي غربي في الفترة المقبلة، وبالتالي سيحاول أردوغان الاستعانة بدول أخرى كدول الخليج بتعزيز علاقاته معهم ومع دول الجوار، وهو يدرك جيدا أن كلّاً من روسيا والصين لا يمكن أن يُنقذا اقتصاد بلاده، لأن الأخيرين يعانون أيضا من أزمات اقتصادية. عموما، لا يستبعد أن تدخل تركيا في أزمة اقتصادية جديدة، وهذا ليس بالأمر الجديد، فقد أدخلت سياسات أردوغان على مدى العقود الماضية البلاد لأزمات اقتصادية وسياسية جمّة.

ماذا عن الدعم الخليجي؟

معظم أزمات تركيا الاقتصادية يبدو أنها تعود إلى حقيقة أنها لا تملك ما يكفي من العملات الأجنبية، على الرغم من أن الصادرات حطّمت رقما قياسيا هذا العام إلا أنه لا يوجد ما يكفي من العملة الصعبة التي تدخل البلاد لأن ميزان المدفوعات عاش عجزا كبيرا في الحساب الجاري أي أن جزءا كبيرا من العملة الصعبة الذي تحصل عليه يُصرف للاستيراد.

في حين أن سعر الفائدة الأساسي يبلغ 8.5 بالمئة يتجاوز معدل التضخم 40 بالمئة وفق البيانات الرسمية. ولا يرغب المستثمرون الأجانب في الاحتفاظ بأصولهم بالليرة التركية في بيئة تظل فيها أسعار الفائدة على العملة المحلية منخفضة بشكل مصطنع ويكون هناك خطر واضح لفقدان قيمتها.

بيانات ميزان المدفوعات تشير إلى أنه على الرغم من تدفق ستة مليارات دولار في الربع الأول من السنة فلا يزال هناك انخفاض بقيمة 14 مليار دولار. “المركزي التركي” اقترض أكثر من 10 مليارات دولار من الخارج، إلا أن الاحتياطيات انخفضت بمقدار 30 مليار دولار على أساس سنوي، وهو مؤشر صعب.

بغية حلحلة أزمات البلاد الاقتصادية، قال وزير المالية محمد شيمشك، إن أردوغان سيزور الإمارات ضمن رحلته، وإن مندوبين من الدولتين يعملون على تقوية العلاقات الاقتصادية، فيما قال مسؤولون أتراك، تحدثوا بشرط عدم نشر أسمائهم، إن الرئيس يخطط بعد ذلك للسفر إلى السعودية وقطر.

زيارة أردوغان إلى الإمارات تأتي بعد اجتماعات مع شيمشك ونائب الرئيس جودت يلماز، خلال زيارتهما للدولة الخليجية الشهر الماضي، ولاحقاً، رد وفد إماراتي رفيع المستوى الزيارة إلى تركيا لمناقشة تفاصيل التعاون الاستثماري بين البلدين، وفق ما نقله “الشرق بلومبيرغ”.

بالعودة إلى الخبير الاقتصادي، فإنه يضيف بهذا الصدد، أن أردوغان كان له موقف سلبي تجاه الخليج، وخاصة السعودية، خلال السنوات الماضية، بشأن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في السفارة السعودية بأنقرة، وهو ما استغله أردوغان لكسب استثمارات مالية كبيرة منهم، وهو ما حدث بالفعل.

دول الخليج من جانبهم يسعون لاستثمار أموالهم في الدول التي تجلب لهم موارد مالية، وتركيا دولة جيدة في هذا السياق، وفق ما يراه عبده، وزيارة أردوغان للإمارات ومن ثم السعودية وقطر خلال هذه الفترة يبدوا أن أن أردوغان سيحاول فيه إقناع هذه الدول بزيادة استثماراتها في تركيا بالإضافة إلى بعض المنح المالية والتسهيلات وما إلى ذلك، حتى يتمكن من زيادة الاحتياطيات الأجنبية في “المركزي التركي”.

بائع متجول يبيع أعلاماً وطنية تركية مزينة بصورة كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، في مدينة بورصة، تركيا- “بلومبيرغ”

لكن هذا سيكون أحد الحلول المعقولة ربما ولن يكون نهائيا ودائما، وبالتالي لن يكون الاقتصاد التركي مستقرا في هذه الحالة، وقد تكون حلول مؤقتة، إذ سيكون اقتصاد تركيا دائما معرضا دائما لأي تذبذبات سياسية تحصل في دول الإقليم.

لدى أنقرة 48 مليار دولار من الاحتياطيات الأجنبية، و50 مليار دولار من الذهب، ومع ذلك، ليس كل الاحتياطي الأجنبي البالغ 48 مليار دولار متاحا للاستخدام، فهناك 19 مليار دولار هي اتفاقيات التبادل “سواب” مع قطر والإمارات. ويبلغ حجم العملة الأجنبية التي اقترضها “البنك المركزي” التركي، محليا 130 مليار دولار. وقد حصل على 20 مليار دولار كودائع من الخارج، ومليار دولار مقايضة مع الخليج، لذا فإن إجمالي التزامات البنك من العملات الأجنبية يبلغ نحو 150 مليار دولار، في حين أنه ليس لديه إلا 30 مليار دولار فقط.

لأجل ذلك كله، يبدو أن دخول تركيا في أزمة اقتصادية جديدة أمرٌ محتمل جدا، خاصة وأن كل التعهدات التي قطعها أردوغان مؤخرا بشأن التضخم في البلاد، وذلك أثناء تعيين فريق اقتصادي جديد لم تتحقق، حيث فقدت الليرة التركية أكثر من 20 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار. منذ تولي شيمشك منصبه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات