في عالم المخابرات والسياسة، تدور صفقات خفية وتحاك خطط غامضة، تتحكم في مصير الأمم وتقرر مستقبل الشعوب على حد سواء، فالصفقات “الفاوستية”، تلك التي تكتمل في ظل الليل الطويل، لمن يبرم عقدا مع الشيطان ويسلم إليه روحه في مقابل الحصول على المعرفة المطلقة وكافة الملذات الدنوية، تدفع بالعقول للبحث عن الحقائق المخفية.

مناطق نفوذ “هيئة تحرير الشام” هذا التنظيم المتشدد في إدلب وحلب، شهدت خلال الأشهر الماضية احتجاجات غير مسبوقة، تزامنت مع حملة أمنية نفّذها “جهاز الأمن العام”، ليطال مئات الأشخاص من قادة وعناصر عسكرية وأمنية. وفي خضم هذا الفوضى والمتاهة من التهم والمعتقلين، يثير التساؤل عن دور تركيا في هذا السياق، وهل كانت مجرد مراقب للأحداث أم أنها لعبت دورا أكثر تدخلا وقوة.

مصادر خاصة لـ”الحل نت”، كشفت عن دور للمخابرات التركية للمرة الثانية في إنقاذ قائد “هيئة تحرير الشام” من انقلاب داخل صفوفه، لكن هذه المرة كانت الأمور أكثر تعقيدا وخطورة. فالصفقة “الفاوستية” التي أبرمت الآن، تكشف عن انقسام داخلي في هذا التنظيم المتطرف، وصراع بين القوى المدنية والعسكرية التابعة لـ”الهيئة”، كما تظهر رهانات سياسية كانت تحاك في الخفاء.

 محاولة انقلاب على “الجولاني” في إدلب

منذ بدء دخول الجهاديين على خط الاحتجاجات السورية منتصف عام 2012، ظلت “هيئة تحرير الشام” المعروفة سابقا باسم “جبهة النصرة”، واحدة من أهم الفصائل المسلحة في شمال غربي سوريا. وتُعرف “الهيئة” بنهجها المتشدد، وعلاقاتها الوثيقة بتنظيم “القاعدة”.

“تحرير الشام” تتحدث عن اعتقال عناصرها خلية لـ”حزب الله” في إدلب - إنترنت
“تحرير الشام” تتحدث عن اعتقال عناصرها خلية لـ”حزب الله” في إدلب – إنترنت

في الآونة الأخيرة، شهدت “الهيئة” توترات أمنية كبيرة، حيث تصاعدت الاحتجاجات ضدها من قبل المدنيين، وازدادت الخلافات بين قادتها. ووصل الأمر إلى حد التخطيط لانقلاب عسكري ضد قائد “الهيئة”، أبو محمد الجولاني.

لكن “الجولاني” بحسب تسريبات خاصة حصل عليها “الحل نت”، تمكن من النجاة من الانقلاب، بفضل دعم المخابرات التركية. فقد نجحت الأجهزة الأمنية المعنية بمتابعة الشأن السوري في أنقرة، من تجنيد عدد من الضباط والعناصر في الهيئة، وقامت بتزويدهم بالمعلومات التي ساعدتهم على الكشف عن خطط الانقلاب. كما قامت المخابرات التركية بتقديم الدعم اللوجستي للهيئة، مما مكنها من صد الانقلاب.

الانقلاب الفاشل ضد “الجولاني” كان بمثابة ضربة قوية لـ”الهيئة” التي ما زالت تتمتع بدعم كبير من “القاعدة”، حيث كشف عن مدى ضعفها، وتراجع شعبيتها بين المدنيين. فبحسب المصادر الخاصة، فإن الانقلاب كان مدبرا من قبل ضباط وعناصر في الهيئة، وشاركت فيه أيضا بعض من الفصائل المسلحة الأخرى في المنطقة.

لتبرير هذا الفشل، ولا سيما بعد التوترات التي شهدها كيان “تحرير الشام”، روجت قيادة “الهيئة” أن الاعتقالات التي شنتها خلال الأيام الماضية لما يقارب من 280 شخص بينهم قادة وعناصر عسكريين وأمنيين في صفوفها، كان بعد كشف خلية تتخابر مع روسيا وأميركا و”حزب الله” اللبناني، رغم اختلاف استراتيجية وأيديولوجية الأطراف الثلاثة التي ذكرتهم “تحرير الشام”.

بوادر الانقلاب بدأت تظهر في الآونة الأخيرة، حيث شهدت مناطق نفوذ “هيئة تحرير الشام” في أرياف إدلب وحلب، احتجاجات ضدها، وطبقا لمصادر “الحل نت” داخل “الهيئة”، فإن الانقلاب كان يهدف إلى الإطاحة بـ “الجولاني” من منصبه، وتشكيل قيادة جديدة لـ “تحرير الشام” تكون أكثر وطنية وأقل ارتباطا بتركيا. وكان الانقلاب على وشك النجاح، لولا تدخل المخابرات التركية في اللحظات الأخيرة.

مسرحية “الجولاني”.. تأكيد المؤكد 

كانت وما تزال قيادة “تحرير الشام” تنفي صلتها بتركيا، رغم انصياعها للاتفاقيات التي وقعتها أنقرة مع موسكو حول شمال سوريا، وأبرزها اتفاقية “خفض التصعيد” التي أبرمت بين الطرفين في آذار/مارس 2018، وعملت على إزاحة “التشكيلات الجهادية” من الدخول في مواجهة مع تركيا.

حملة اعتقالات واسعة لـ "تحرير الشام" - إنترنت
حملة اعتقالات واسعة لـ “تحرير الشام” – إنترنت

كما أيضا امتثلت “تحرير الشام” للبنود الموقعة بين تركيا وروسيا والتي فرضتها عليها أنقرة، حول الجماعات الجهادية، وعزلت قسم من التيار المتشدد، والذي شكل بدوره تنظيم “حراس الدين”، واستقطبت بعض المجموعات “المتطرفة” من “الهيئة” وأدرجتها في صفوفها.

أيضا عمل الجولاني، خلال الفترة الماضية، على تحويل خطابه من متشدد إلى معتدل بطلب تركي، عبر تعهده بعدم استخدام سوريا من قبل تنظيم “القاعدة” أو أي فصيل آخر، كمنصة إطلاق للعمليات الخارجية، والتركيز على قتال الجيش السوري وحلفائه في سوريا.

جميع هذه الأحداث كانت تشير إلى علاقة “تحرير الشام” بتركيا، لكن تدخل تركيا للمرة الثانية في إفشال انقلاب على “الجولاني” يؤكد حرص أنقرة على استمرار التنظيم. ففي عام 2018، نجحت المخابرات التركية في إحباط محاولة انقلاب قادها أبو همام الشامي، أحد أبرز القادة في “هيئة تحرير الشام”، بعد إعلان “الهيئة” انسلاخها عن “القاعدة” والتزامها باتفاقية “خفض التصعيد”.

الشامي في ذلك الوقت، أصدر نسخة صوتية مخاطبا فيها أنصاره ومقاتلي “الهيئة”، “حذاري من الخضوع لضغوط الداعمين أو الانخداع بوعود الضامنين، فتسلب منكم إرادة القتال، فتصبحوا بعد ذلك أسرى لقراراتهم، فتباعوا وتشتروا”.

مناطق نفوذ “تحرير الشام” في أرياف إدلب وحلب، شهدت خلال الأشهر القليلة الماضية، احتجاجات ضدها، وذلك بعد حملة أمنية أطلقها “جهاز الأمن العام” الذراع الأمنية لـ”تحرير الشام” في منطقة إدلب.

بحضور “الجولاني”.. تخريج أول دفعة من ضباط الكلية العسكرية - إنترنت
بحضور “الجولاني”.. تخريج أول دفعة من ضباط الكلية العسكرية – إنترنت

المتحدث الرسمي باسم “جهاز الأمن العام”، ضياء الدين العمر، أكد حينها أن “الحملة الأمنية نُفذت ضد شرذمة من العابثين بأمن المناطق المحررة، والمحرضين ضد رموز الثورة السورية ومؤسساتها المدنية والعسكرية بناء على أمر قضائي صادر عن النيابة الأمنية العامة”، وفق بيان وزعته “الهيئة” على وسائل الإعلام المحلية.

قبل تلك الحملة، تلقى “أبو محمد الجولاني” تهديدات من بعض قيادات “الهيئة” بتصفيته، وذلك بسبب سياساته المتشددة التي أدت إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في مناطق سيطرة “الهيئة”، بالإضافة إلى علاقته الوثيقة بتركيا، التي تعتبرها بعض الفصائل الجهادية أنها دولة “علمانية لا يجوز التحالف معها”.

طبقا لما حصل عليه “الحل نت”، فإن المقابل الذي حصلت عليه أنقرة من “الجولاني”، هو موافقته على عدم الانخراط في أي نشاطات دون تنسيق، ومقابل منحها الحماية والدعم وأسماء وإحداثيات رؤوس الجماعات الجهادية الأجنبية في سوريا، ما يعني تحويل “الهيئة” لفصيل تابع لأنقرة كما هي فصائل “الجيش الوطني” المدعومة من قبلها.

التدخل القوي والخفي لتركيا

دور تركيا في إنقاذ “الجولاني” من انقلاب وشيك، بحسب حديث الأكاديمي والخبير في الشؤون السياسية والعسكرية، أشرف الزعبي، لـ”الحل نت”، كان ضمن استراتيجية تركية مُحكمة، حيث تُراعي تركيا دائما مصالحها الجيوسياسية والأمنية في المنطقة بغض النظر عمّن تتعامل معه. 

زعيم "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني - إنترنت
زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني – إنترنت

قد تكون هذه الخطوة بحسب الزعبي، جزءا من التحركات الاستباقية التي تسعى تركيا لتنفيذها للحفاظ على نفوذها وتأثيرها في المنطقة والتصدي لأي تهديدات محتملة لمصالحها.

علاوة على ذلك، يمكن تفسير دور تركيا في إنقاذ “الجولاني” على أنه دعم واضح له لأسباب متعددة. فربما تعتبر تركيا “الجولاني” شريكا استراتيجيا أو لديها تحالفات سياسية مشتركة معه، ولذلك فإنها تحرص على الحفاظ على استمرارية وجوده وتأثيره في المنطقة.

الدور التركي مع “هيئة تحرير الشام” بتحليل الزعبي، يمكن تفسيره أيضا بأنه دافع سياسي وأمني وراء ذلك. فقد تكون أنقرة تريد الترويج لنفسها كقوة إقليمية مؤثرة قادرة على دعم وحماية الفصائل المتشددة في المنطقة، وبالتالي تتمكن من تحقيق أهدافها الاستراتيجية.

المستقبل المتوقع للعلاقات بين تركيا و”تحرير الشام” بعد هذه المحاولة يمكن أن يكون متقلبا. إنقاذ “الجولاني” قد يؤدي إلى تعزيز الثقة بين الطرفين وتعزيز التعاون والتنسيق في المستقبل. ولكن قد تظهر أيضا تحديات جديدة لتركيا في إدارة علاقتها مع “تحرير الشام” والتصرف في الأوضاع الداخلية لهذا التنظيم المتطرف.

لكن هذه الصفقة بحسب الزعبي، لا تخلو من المخاطر، حيث قد تؤدي إلى تفاقم الأزمة السورية، بالإضافة إلى تحول “الجولاني” إلى عبء كبير على تركيا في المستقبل. فإذا لم تتمكن أنقرة من السيطرة على “الجولاني” وجماعته، فقد يتحول إلى تهديد حقيقي لأمنها وأمن جيرانها القومي.

 يبدو أن “الصفقة الفاوستية” التي نُفذت من قبل تركيا لإنقاذ “الجولاني” من انقلاب وشيك داخل صفوف “تحرير الشام” كانت بمثابة لعبة معقدة تحمل في طياتها العديد من الأسرار والتعقيدات الجيوسياسية. وهذه الصفقة تثير التساؤلات حول دوافع تركيا ودورها السياسي والأمني مع الجماعات الجهادية في المنطقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة