في ظل التوترات الجيوسياسية والجيواقتصادية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، تبرز إيران كلاعب عنيد ومؤثر في سوق النفط العالمية. فرغم عدم رفع العقوبات الأميركية عن صادراتها النفطية، أعلنت إيران عزمها على زيادة إنتاجها من الخام إلى 3.5 مليون برميل يوميا بحلول نهاية الصيف الحالي، متحدية بذلك قرارات “أوبك+”، التحالف المشكّل من منظمة البلدان المصدرة للبترول “أوبك” وروسيا ودول أخرى، بخفض الإنتاج لدعم أسعار النفط.

هذا التحدي يثير تساؤلات حول مستقبل “أوبك+”، التحالف الذي يضم 23 دولة تنتج نحو 40 بالمئة من إجمالي إنتاج النفط في العالم، والذي يقوده ثنائي السعودية وروسيا، أكبر منتجَيْن في التحالف.  فهل ستستطيع إيران، التي تمثل ثالث أكبر منتج في “أوبك”، أن تزعزع استقرار هذا التحالف، وأن تخلق صراعا جديدا بين المصالح المختلفة لأعضائه، وما الآثار المتوقعة لهذا التحدي على استقرار الأسواق النفطية وعلى تحالف السعودية وروسيا.

تجربة إيران تعقد المشهد

إيران من جديد تشعل لهيب تحدّي جريء تجاه تحالف “أوبك+” الضخم، الذي يضم عمالقة إنتاج النفط كالسعودية وروسيا. في خطوة تُنذر بعودة تخمة المعروض إلى أسواق النفط، وذلك نتيجة لهدوء المبيعات وعدم استعادة الأسعار عافيتها كما تتمنى أكبر منتجي النفط في العالم، السعودية وروسيا.

لا شك أن هذه الخطوة تُعبّر عن رغبة النظام الإيراني في استغلال فرصة نهم الأسواق العالمية، على أمل تحسين الوضع المالي الذي عانت منه لسنوات طويلة نتيجة لسوء إدارة اقتصادها. ولكن على الجانب الآخر، تواجه إيران تحدّيا خطيرا يتمثل في آفاق ضبابية للطلب على النفط، وقد تكبح جهودها وتحول آمالها إلى أوهام، مما يحجم عنها الاستفادة القصوى من هذه الزيادة ويقيد إمكانية جني مزيد من العائدات النفطية.

على خلفية هذا التحدي الاقتصادي، يتداخل مصير إيران مع تحالف “أوبك+”، الذي يحمل في طياته تفاصيل معقدة لتنسيق إنتاج النفط العالمي. فالقرارات التي تتخذها هذه الكتلة تلعب دورا حاسما في استقرار الأسواق وتحديد الأسعار. وفي ظل خفض الإنتاج الذي يقوده التحالف لدعم سوق النفط، تبرز التحديات أمام إيران بصورة أكبر، إذ يُتوقع أن يؤدي ضعف الاقتصاد العالمي إلى تقليص حجم الطلب على النفط، مما يتسبب في تراجع عائداتها.

رئيس شركة النفط الوطنية الإيرانية، ذكر أمس الأربعاء، أن إيران تتوقع زيادة إنتاجها النفطي بمقدار 250 ألف برميل يوميا ليصل إلى 3.5 مليون برميل يوميا بنهاية الشهر المقبل. ونقلت وكالة “تسنيم” شبه الرسمية للأنباء عن الرئيس التنفيذي للشركة الإيرانية محسن خوجاشمهر، قوله إنه في الوقت الذي تولت فيه الإدارة الإيرانية الحالية مهامها في عام 2021، كانت البلاد تنتج 2.2 مليون برميل يوميا من النفط.

وفقا لمصادر “أوبك” الثانوية في أحدث تقرير شهري لسوق النفط، بلغ إنتاج النفط الخام الإيراني 2.754 مليون برميل يوميا في حزيران/يونيو الفائت، بارتفاع 56 ألف برميل يوميا مقارنة بشهر أيار/مايو الماضي، وأعلى من متوسط ​​2022 البالغ 2.554 مليون برميل يوميا. ولم تبلغ إيران نفسها “أوبك” بأرقام الإنتاج منذ عودة العقوبات الأميركية على صناعتها النفطية في 2018.

تجارة غير مشروعة مع الصين

تكمن خلفية هذه الزيادة في الإنتاج  في أعقاب اتفاقية خطة العمل الشاملة المشتركة “جكبوا” لعام 2015، والتي شهدت رفع العقوبات الدولية عن إيران وزيادة لاحقة في الإيرادات. وخلال هذه الفترة ، ارتفعت عائدات النفط الإيرانية مؤقتا إلى 66 مليار دولار في عام 2017. 

مع ذلك، تعطّل هذا المسار التصاعدي بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في أيار/مايو 2018، مما أدى إلى تجديد العقوبات التي اشتدت بعد عام. ونتيجة لذلك، واجهت صادرات النفط الإيرانية انخفاضا كبيرا، حيث انخفضت إلى ما بين 15 و20 مليار دولار بحلول عام 2020. 

بعد انتخاب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أعرب عن نيّته بإعادة العمل بخطة العمل الشاملة المشتركة، استغلت الصين هذا التصريح لصالحها وشرعت بطريقة غير شرعية في مسار ارتفاع واردات النفط من إيران، حتى على حساب خطط حلفائها السعودية وروسيا.

كما تعوّل طهران على الآبار غير النشطة لتعزيز مستويات إنتاجها، فقد أصبحت تنظر إلى هذا الإجراء على أنه حلّ قصير الأجل لجني المزيد من العوائد.

بالإضافة لذلك، أثار التدفق الأخير للعائدات من صادرات النفط المتزايدة تساؤلات في إيران وحول العالم. فالجدير بالذكر أن العملة الوطنية الإيرانية فقدت منذ بداية العام أكثر من 25 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار في السوق المفتوحة. وعائدات النفط الكبيرة لم تسفر عن التأثير الإيجابي المتوقع على الاقتصاد، بسبب السياسات الضريبية الحكومية وعوامل أخرى.

ربط البعض هذه العودة بشروع طهران في عدم رغبتها بإصلاح العلاقات مع المنافسين الإقليميين، وفي مقدمتهم السعودية، وتعزيز شراكاتها مع القوى البارزة في آسيا وأيضا روسيا إلى درجة أنها بدأت بالانخراط في مفاوضات دبلوماسية مع الولايات المتحدة.

مع أن الرقم أكثر من إيرادات العام الماضي البالغة 54 مليار دولار، إلا أن ذلك لم يؤثر على الحياة اليومية في إيران، حيث يواجه قطاع الأعمال والأُسر الأقل دخلا ارتفاعا في معدلات التضخم وتراجعا في قيمة العملة وزيادة في نسبة البطالة. والشعور بمزايا ارتفاع عائدات النفط ليس محسوسا بين الكثير من الناس.

معدل التضخم الرسمي يبلغ أكثر من 45 بالمئة في حين يقدره البعض بأكثر من 70 بالمئة، كما أن حوالي نصف سكان إيران البالغ عددهم نحو 82 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر.

إيران تخطط للضرب بعصا الصين وتركيا

قرار إيران زيادة إنتاج النفط يتحدى تحالف “أوبك+” بعدة طرق طبقا لتقديرات الخبير في سياسات النفط في الشرق الأوسط، محمد سحيمي. إذ إن هذا القرار يخالف اتفاقية التحالف التي تقضي بخفض الإنتاج لدعم أسعار النفط. 

أيضا بحسب حديث سحيمي لـ”الحل نت”، فإن قرار طهران يزيد من المعروض في السوق، مما قد يؤدي إلى انخفاض أسعار النفط وخسارة دول التحالف للإيرادات. فضلا عن أنه يثير توترات داخل التحالف بين دول مختلفة تتباين مصالحها وأهدافها في سوق النفط. 

علاوة على ذلك يشكل هذا القرار تهديدا لمصداقية وشرعية التحالف كمنظمة قادرة على التأثير على سوق النفط. خامسًا، يؤثر هذا القرار على تحالف السعودية وروسيا، اللذين يواجهان صعوبات في التنسيق والتوافق على سياسة مشتركة ترضي جميع أعضاء “أوبك+” وتحمي مصالحهم في سوق النفط.

طبقا لحديث سحيمي فإن هناك عدة أسباب تدفع إيران للسعي نحو زيادة إنتاج النفط رغم التحديات العالمية والتوقعات المتقلبة للأسواق. أولها هو الحاجة الماسة لإيران لزيادة إيراداتها من صادرات النفط بعد استمرار العقوبات الأميركية عليها، خصوصا في ظل أزمة اقتصادية حادة تعاني منها بسبب سوء إدارة دفة الاقتصاد. 

أيضا رغبة إيران في استغلال فرصة نهم الأسواق الصينية للنفط بعد تخفيف قيود الإغلاق في بعض دول العالم، مما قد يزيد من حجم الطلب على المدى المتوسط. فضلا عن رغبتها في استعادة حصتها في سوق النفط التي فقدتها بسبب قرارات السعودية وروسيا، وإظهار قدرتها على المنافسة مع دول أخرى منتجة للنفط. 

هذا بدوره وفقا لتوقعات سحيمي يظهر طهران بمركز قوة أمام السعودية خصوصا بعد تعكر صفو أجواء المصالحة الأخيرة بسبب حقل “الدرة” المشترك مع الكويت، إذ يحقق هذا أهدافها السياسية والاستراتيجية، مثل تعزيز علاقاتها مع الصين والهند وتركيا وغيرها من الدول المستوردة للنفط من إيران.

تأثيرات على تحالف “أوبك+”

تصاعد إنتاج النفط من قبل إيران قد يؤثر على أسعار النفط العالمية وعلى موقف دول أخرى منتجة للنفط بعدة طرق. إذ يؤدي زيادة المعروض من النفط الإيراني إلى انخفاض أسعار النفط، مما يضر بمصالح دول التحالف التي تعتمد على الإيرادات النفطية لتمويل موازناتها. 

في السياق ذاته، فإن زيادة المعروض من النفط الإيراني قد يؤدي إلى تغيير التوازن بين العرض والطلب في سوق النفط، مما يزيد من التقلبات والحساسية للعوامل الخارجية، مثل التغيرات في السياسات والأحداث الجيوسياسية والكوارث الطبيعية. 

إضافة لذلك ستغير نمط التجارة والتبادل بين دول المنطقة والعالم، مما يؤثر على حصص السوق والتنافسية بين دول مختلفة منتجة ومستوردة للنفط. الأمر الذي سيؤدي إلى تغيير المشهد السياسي والأمني في المنطقة، والذي من شأنه أن يؤثر على التحالفات والصراعات بين دول المنطقة حول قضايا مختلفة، مثل سوريا واليمن ولبنان والعراق.

هذه الزيادة ستؤدي إلى تقلبات أكبر في أسواق النفط العالمية وفق ما يراه سحيمي، خصوصا في ظل عدم التأكد من حجم وسرعة زيادة إنتاج إيران، ومن رد فعل دول “أوبك+” على هذه الزيادة. فإذا كانت زيادة إنتاج إيران كبيرة وسريعة، فقد تخلق فائضا في المعروض يضغط على أسعار النفط للانخفاض. 

أما إذا كانت زيادة إنتاج إيران صغيرة وبطيئة، فقد تكون محدودة التأثير على أسواق النفط. كذلك، إذا كان رد فعل دول “أوبك+” هو خفض إنتاجها لمواجهة زيادة إنتاج إيران، فقد يحافظ هذا على استقرار أسعار النفط. أما إذا كان رد فعل دول “أوبك+” هو زيادة إنتاجها للمنافسة مع إيران، فقد يؤدي هذا إلى حرب أسعار قد تضر بجميع المنتجين.

العواقب المحتملة للسوق النفطية والاقتصادات العالمية إذا تجاوز إنتاج النفط المعروض الفعلي الطلب هي سلبية بشكل عام. فإذا كان هناك فائض في المعروض، فإن ذلك يؤدي إلى انخفاض أسعار النفط، مما يخفض دخل الدول المنتجة ويزيد من عجز موازناتهم. 

كما يؤثر انخفاض أسعار النفط على استثمارات الدول المنتجة في قطاعات أخرى، مثل التنمية والصحة والتعليم. بالإضافة إلى ذلك، يؤثر انخفاض أسعار النفط على مستوى التعاون والتضامن بين دول المنتجين، مما قد يزيد من التوترات والصراعات بينهم.

الأبعاد السياسية والاقتصادية والاستراتيجية لهذا التحدي الحيوي وتأثيراته على توازن القوى العالمي، يعكس عدم توازن القوى والتحديات في عالم النفط؛ لكن الآثار المحتملة لزيادة إنتاج إيران على “أوبك+” وعلى تحالف السعودية وروسيا، حتما ستكون على مصالح ورفاهية الدول المنتجة والمستهلكة للنفط.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات