في خضم التطورات الراهنة التي تشهدها المنطقة، وخاصة المسار الأخير للعلاقات السعودية الإيرانية، يبدو أن المملكة العربية السعودية تسعى اليوم بشكل حثيث إلى تعزيز قدراتها العسكرية الدفاعية في الداخل وقدرتها على العمل المشترك مع القوى الأجنبية. وذلك لردع التهديدات الأمنية المحتملة في المنطقة، والتي تنبعث من إيران ووكلائها، ولا سيما جماعة الحوثي في ​​اليمن.

ليس هناك أعظم من التهديد الذي تشكله إيران على الأمن القومي السعودي. وقد تم بالفعل استهداف منشآت البتروكيماويات في الماضي من خلال الهجمات السيبرانية الإيرانية وضربات “الحوثيين” الموالين لإيران بطائرات بدون طيار، المسيّرات، مما أدى إلى تفاقم الحاجة المُلحّة للمملكة العربية السعودية لتعزيز قدراتها الدفاعية وحتى إنشاء مستوى من الردع، استعدادا لأي تعثر قد تواجهه السعودية في علاقتها مع إيران في أي وقت، خاصة وأن طهران معروفة بمراوغاتها السياسية، وهو ما يضع نجاح واستمرارية الاتفاق السعودي الإيراني في موضع شك.

هذا وعقد الاجتماع الأول للجنة الثلاثية التي تضم المملكة وتركيا وباكستان، بهدف سبل تعزيز التعاون الدفاعي بين الدول الثلاث، فيما تسعى شركة “ريثيون”، على الجانب الآخر، إلى إدخال تقنيات جديدة إلى المملكة والمساهمة في توطين صناعتها العسكرية، مما يعني أن السعودية تسعى بشكل ملحوظ نحو تعزيز قدراتها الدفاعية. ومن هنا تبرز عدة تساؤلات حول أسباب تكثيف السعودية في الوقت الحاضر جهودها لتعزيز قدراتها العسكرية والأمنية، وما إذا كان انعدام الثقة تجاه إيران وتاريخها الحافل والمعروف بعدم الجدية في علاقاتها مع الآخرين، يسرّع من توطين السعودية للصناعة العسكرية، وخاصة صناعة المسيّرات.

السعودية وتوطين الصناعات العسكرية

رئيس قسم الحرب البرية والدفاع الجوي في “ريثيون”، توماس لاليبرتي، صرّح بأن الشركة تعمل مع قوات الدفاع الجوي الملكي السعودي على إمكانية إدخال قدرات جديدة في المملكة، وذلك كجزء من خططها للعمل كشريك موثوق به لقوات الدفاع الجوي وجهودها المستمرة لتحديث وصيانة نظام الدفاع الجوي والصاروخي “باتريوت”.

رادار الدفاع الجوي من شركة ريثيون- “الشرق الأوسط”

يمكن أن تشمل هذه القدرات نظام الصواريخ “أرض-جو” الوطني المتقدم “ناسامس” ونظام هزيمة المسيّرات الصغيرة والبطيئة والمنخفضة المتكامل “ليدس”، مضيفا يوم أمس الأحد لصحيفة “الشرق الأوسط“، أن هذا التوجه يأتي كجزء من خطط الشركة في السعودية، مشيرا إلى أنه “تتمحور أولوياتنا بالاستمرار في العمل كشريك موثوق به لقوات الدفاع الجوي الملكي السعودي”.

لاليبرتي، شدد على المُضي في المشاركة بخطط السعودية لتوطين قطاع الصناعات العسكرية، حيث نوّه إلى الإعلان عن تصنيع أجزاء رئيسية من صواريخ التوجيه المعزز “جيم – تي” لمنظومة باتريوت المتقدمة خلال فعاليات معرض الدفاع العالمي العام الماضي، وأنهم يسعون في المستقبل القريب للإعلان عن بعض الأمور المرتبطة بهذا النوع من الصواريخ، وهو ما سيؤدي إلى توسيع عمليات التوطين المرتبطة بذلك.

في هذا الصدد، يقول الأكاديمي والباحث السياسي سامح مهدي، إن المملكة تسعى منذ فترة طويلة إلى تعزيز قدراتها العسكرية الدفاعية، حتى قبل الاتفاق السعودي الإيراني، لكن هذا التوجه تزايد منذ إطلاق رؤية السعودية لعام 2030، عبر مؤسسها، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، قبل نحو ست سنوات، على اعتبار أن نجاح الرؤية السعودية لعام 2030 يتطلب تأمين المنطقة من أي تهديدات محتملة من الميليشيات الإيرانية.

مهدي أشار في حديثه لموقع “الحل نت”، إلى أن المملكة تعمل على عدة استراتيجيات لدعم وتأمين أمنها وحماية المنطقة ككل من التهديدات الإيرانية، فضلا عن إدراكها بعدم جدوى الحروب واستنزافها التي باتت مكلفة للجميع. وهذه الاستراتيجيات بحسب تقدير مهدي تعتمد أولا على تعزيز دفاعاتها العسكرية، فضلا عن حصولها على أسلحة نووية سلمية من شريكها الاستراتيجي؛ واشنطن، وهذا الأمر كثُر الحديث عنه مؤخرا، ولا يُستبعد أن يحصل اتفاق من هذا النوع، لاعتبارات عدة.

هذا وتعمل منظومة الصناعات العسكرية السعودية وفق استراتيجية جديدة أقرت منذ 2017 لتعزيز اكتفاء المملكة الذاتي من خلال توطين 50 بالمئة من إنفاقها الدفاعي في غضون 2030، وأنشأت في سبيل ذلك شركات مستقلة عدة باستثمارات يقودها صندوق الاستثمارات العامة وعدد من مؤسسات القطاع الخاص، وفق تقارير صحفية.

استراتيجية الدبلوماسية و”الحياد”

إضافة إلى ذلك، ثمة استراتيجيات أخرى تنتهجها المملكة من أجل تأمين أمن المنطقة من التهديدات الأمنية الإيرانية وميليشياتها، وتكمن هذه الاستراتيجيات في الدبلوماسية وتعزيز العلاقات مع الدول الأجنبية، وهو ما ظهر مؤخرا في دبلوماسية الرياض وكيف جمعتها ذلك باتفاقية مع إيران، على حدّ تعبير مهدي.

إلى جانب تعزيز العلاقات مع كافة الدول الأجنبية واتخاذ دور الحياد تجاه الصراعات القائمة في بعض الدول، مثل الغزو الروسي لأوكرانيا، وكذلك التوجه نحو حل الأزمة في سوريا، من خلال إعادة سوريا إلى محيطها العربي. وذلك بغية فكاك دمشق من أجندات بعض الدول الأجنبية كإيران وروسيا. وبشكل عام، تعتمد الدبلوماسية السعودية حاليا على إطفاء الحرائق المحيطة بها، حسب تحليل مهدي.

إذاً، الاستراتيجيات السعودية في الوقت الراهن لعلها باتت واضحة للعلن، والتي تتمحور حول تعزيز قدراتها الأمنية، سواء كانت عبر مساعيها لتحقيق الاكتفاء الذاتي العسكري أو الحصول على السلاح النووي، وذلك عبر عدة مسارات.

أما الاستراتيجيات الأخرى فهي فكرة توسيع وتنويع علاقاتها مع عدة دول، لتحصين أمنها وتهدئة الأوضاع في المنطقة. وهذه الرؤية تبدو واضحة، من خلال توطيد علاقاتها مع العديد من الدول مؤخرا، بالإضافة إلى الحفاظ على علاقاتها مع شريكها الأمني الأول؛ الولايات المتحدة، وخاصة عندما أبلغت الرياض الإدارة الأميركية بجهود الصين وترتيبات الاتفاق الثلاثي، قبل يوم من الإعلان عن الصفقة.

الباحث السياسي، يرى أن العوائق التي تقف في طريق التقارب السعودي الإيراني كثيرة، خاصة أنه لم يحدث أي خرق في أزمة اليمن المستعصية حتى الآن، وراجت شكوك كثيرة حول نجاح هذا الاتفاق، بسبب عدم جدّية إيران في تعاملاتها ومحادثاتها مع الدول الخارجية، وعدم حل الملف اليمني حتى الآن لا يبشّر بالخير، خاصة وأن طهران تمارس سياسة المراوغة وكسب الوقت، لتحقيق مصالحها السياسية والبراغماتية.

بمعنى أن التقارب السعودي الإيراني هو ليس سوى تقارب تكتيكي، ولفترة معينة، أي أنه ليس تقاربا استراتيجيا على المدى الطويل، وبالتالي تتجه السعودية بشكل كثيف إلى تعزيز قدراتها العسكرية الدفاعية، وهذا من حقها الطبيعي، نظرا لأن أطماع إيران في المنطقة ليست لها حدود وتتطلب ردعا قويا، وفق مهدي.

السعودية تكثف من جهودها في سبيل تعزيز قدراتها العسكرية الدفاعية- “إنترنت”

بالعودة إلى لاليبرتي رئيس قسم الحرب البرية والدفاع الجوي في “ريثيون”، وسؤاله حول التهديدات التي تعرضت لها المنطقة خلال السنوات الماضية، فقد قال “أعتقد أن ما شهدناه في الآونة الأخيرة هو أن الخصم بات ينسّق هجماته بشكل أكبر؛ حيث نرى صواريخ باليستية، وصواريخ كروز، بالإضافة إلى عدد كبير من الطائرات من دون طيار أو الأنظمة غير المأهولة التي تأتي في وقت واحد إلى أحد الأصول المدافع عنها بزاوية هجوم 360 درجة. من هنا، لدى ريثيون نظام الصواريخ أرض-جو الوطني المتقدم، الذي نتحدث إلى المملكة عنه وهو يتميز بقدرته على مواجهة صواريخ كروز والطائرات والمسيّرات الكبيرة”.

اختتم لاليبرتي حديثه بالقول “مما لا شك فيه أننا نرى تعاونا حثيثا بين دول الخليج اليوم وأنا أعتقد أن هناك حاجة ماسة إلى ذلك”.

تعزيز الشراكات

في الإطار، أعلنت وزارة الدفاع السعودية في بيان لها، إن الاجتماع الذي عُقد بالعاصمة السعودية الرياض، قبل أيام قليلة، حضره مساعد وزير الدفاع السعودي طلال العتيبي، ومدير الأركان العامة للجيش الباكستاني الفريق الأول محمد سعيد، ونائب وزير الدفاع التركي جلال سامي توفيكي. وذلك لمناقشة مستجدات التعاون في مجال الصناعات الدفاعية والقدرات النوعية، إضافة إلى نقل وتوطين الصناعة والبحث العلمي.

هذا وشكلت العلاقات السعودية الباكستانية في السنوات الأخيرة بُعدا فاعلا في تنامي وتيرة العلاقات الثنائية بينهما على مختلف الأصّعدة، وارتقت لمستوى الشراكة الاستراتيجية وتعزيز علاقاتهما في المجالات العسكرية والأمنية وغيرها، بحسب “وكالة الأنباء السعودية” (واس).

مطلع آب/أغسطس الجاري، وقّعت السعودية وتركيا، ​اتفاقية ومذكرتي تفاهم بين عدد من الشركات السعودية المتخصصة في الصناعات العسكرية والدفاعية، وشركات دفاع تركية، لتوطين صناعة الطائرات المسيّرة والأنظمة المكونة لها داخل المملكة.

مهدي، يقول إن تركيز المملكة على بناء شراكات جديدة في سبيل تعزيز منظومتها الدافعية ليس أمرا غريبا، إلا أن شراكتها الأمنية الأولى ستبقى مع الولايات المتحدة، نظرا لوجود شراكات وتعاونات سابقة بين البلدين، فقد أرسلت السعودية خلال الأعوام الماضية، مجموعة من ضباطها للتدريب في واشنطن، بغية رفع قدراتها الدفاعية.

تدرك السعودية أنها حتى لو حصلت على ضمانات أمنية رسمية من واشنطن، فإن ذلك لا يمنعها أن تعزز من قدراتها الدفاعية وتوسيع التعاونات الأمنية سواء مع الولايات المتحدة أو مع الدول الأخرى، للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة بشكل عام

كما أن التحركات الأميركية السعودية الأخيرة، يدلل بأن ثمة تفاهمات عدة بينهما، وغير مستبعد أن تحصل المملكة مجددا على ضمانات أمنية رسمية من حليفها الاستراتيجي، واشنطن، في سبيل ردع أي هجمات أو تهديدات إيرانية محتملة لأمن ونفوذ السعودية ودول الخليج ككل، وسط التوترات الإيرانية المستمرة في مياه الخليج العربي. ورغم ذلك تدرك المملكة أنها حتى لو حصلت على ضمانات أمنية فإن ذلك لا يمنعها أن تزيد من ترسانتها الدفاعية وتوسيع التعاونات الأمنية سواء مع الولايات المتحدة أو مع الدول الأخرى، للحفاظ على أمن واستقرار المنطقة بشكل عام، طبقا لحديث مهدي.

في أيلول/سبتمبر الماضي قال بن سلمان بن عبد العزيز، إن الاكتفاء الذاتي الداخلي للصناعات العسكرية ارتفع من 2 إلى 15 بالمئة، مؤملا أن يصل إلى 50 ‎ بالمئة، وذلك من خلال خطط ومساعي السعودية في تطوير الصناعات العسكرية.

قبل رؤية 2030 لم يكن الحال على ما هو عليه حاليا بما يتعلق بقطاع الصناعات العسكرية السعودية، حيث استطاعت الرؤية إنشاء قطاع متكامل بداية من إيجاد البُنى التحتية الملائمة، ووصولا إلى منتجات عسكرية سعودية قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي، بل قد تتجاوز ذلك إلى التصدير، مما يجعل الحراك في القطاع واضحا، حيث تتلخص الرؤية في تطوير قطاع صناعات عسكرية مستدام يرفع من جاهزية المعدات العسكرية، ويعزز من الاكتفاء الذاتي ويساهم بشكل فعّال في الاقتصاد الوطني.

تحول الاستراتيجية السعودية من مجرد عملية شراء بين مصنع ومستهلك للمعدات العسكرية، إلى مفهوم الشراكة وتحقيق المكاسب ودعم عملية التوطين العسكرية، أي المُضي نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي للسعودية في مجال الصناعات الدفاعية، يوضح مدى ضرورة تعزيز وتطوير المملكة من قدراتها الدفاعية، وذلك لأمرين، الأول الحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها، والثاني ضمان تحقيق رؤية الرياض لعام 2030، نظرا لأن أي خلل في أمن المنطقة قد يكون مُكلِفا للمنطقة بأكملها وليس فقط للسعودية، ومن المرجح أن تكون واشنطن الشريك الاستراتيجي الأول للمملكة لتحقيق ذلك.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات