بينما يُمنّي العراقيون النفس بتحرك حكومي فاصل لمشكلة استيراد الغاز، الذي تعتمد فيه البلاد على تشغيل محطات الكهرباء التي تمثل أزمة مفصلية في حياة المواطنين الذين يعيشون الويلات منذ عقدين بسببها تحت درجات حرارة تصل لنصف المئوية في فصل الصيف، لا تزال قرارات الجهاز الحكومي محل ريبة وتشكيك لدى المختصين والمتابعين، لاسيما مع التوجه الأخير لاستيراد الغاز من تركمانستان، الدولة التي تتوسط القارة الآسيوية.

مشكلة الغاز في العراق، قصة شائكة منذ سنوات، حيث تعتمد بغداد على الغاز الإيراني الذي يمثّل أحد الملفات التي تركت البلاد رهن قرارات طهران التي لم تتوانَ في كل صيف عن قطعه، ليُترك العراقيون تحت وطأت درجات الحرار اللاهبة. فإيران ومنذ انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي الموقع عام 2015، بين طهران والدول الست الكبرى، يحظر التعامل معها ماليا كواحدة من العقوبات الأميركية، ما يعطل وصول المستحقات المالية المترتبة على العراق لصالح إيران مقابل توريد الغاز.

الأمر الذي تتخذه طهران ذريعة لوقف تدفقات الغاز مع اشتداد درجات الحرارة، ما يتسبب بأزمة كارثية نتيجة النقص الذي يحصل في ساعات التجهيز الكهربائي، ذلك إلى جانب ما يمثّله هذا الملف من هدر كبير للأموال، بما يتسبب بأضرار اقتصادية بالغة، بسبب اعتماد الحكومات العراقية المتعاقبة على الاستيراد، مقابل عدم استغلال الغاز المصاحب في البلاد. فالعراق يُعد نسبيا غنيا بالغاز لكن دون استثمار رغم الحاجة الكبيرة.

العراق وأزمة الغاز إلى أين؟

وسط ذلك، ومع تزايد الضغوط الشعبية، بسبب الأضرار الاقتصادية التي تتسبب بها عملية الاستيراد للغاز، وعدم الاستفادة منها لعدم حلّها لمشكلة الكهرباء، فقبل أسابيع قليلة غرق العراق بالظلام نتيجة قطع متعمد لتدفقات الغاز التي تصل إلى 750 مليون قدم مكعب قياسي من الغاز في اليوم من إيران، أي ما يعادل ثلث احتياجات العراق؛ طرحت الحكومات العراقية عدة مشاريع وخطط لاستثمار الغاز المصاحب للعمليات النفطية، وهو الحل الذي يضع حد لمشكلة الطاقة وهدر الأموال، وهو ما لم يُنفّذ على أرض الواقع.

فبدل ذلك، عادت الحكومة العراقية لتعلن توقيع مذكرة تفاهم لاستيراد الغاز من تركمانستان بهدف تحسين الطاقة الكهربائية، حيث جرى الاتفاق مبدئيا مع عشق أباد، على استيراد كميات من الغاز لتلبية جزء من احتياجات محطات الطاقة، الأمر الذي طرح تساؤلات عدة حول الجدوى الاقتصادية من ذلك، وما إذا كان حلا منطقيا، بخاصة مع النظر للموقع الجغرافي المتباين بشكل كبير بين البلدين، مقابل حرق بشكل سنوي بحدود 18 مليار قدم مكعبة من الغاز المصاحب لاستخراج النفط.

في هذا الصدد، قال الخبير الاقتصادي قصي الكناني في حديث لموقع “الحل نت”، إن العراق البلد النفطي بحضارته التاريخية وخيراته التي لا تنتهي المكتشفة منها وغير المكتشفة، ورجاله، من المعيب جدا أن يعتمد في احتياجاتها للمشتقات النفطية على الاستيراد طيلة العشرين عاما، حيث كلفت هذه الاستيرادات العراق الذي يمتلك وفرة نفطية كبيرة جدا، طيلة العقدين الماضيين، 140 مليار دولار.

في حين يستمر حرق الغاز المصاحب بكميات عالية جدا طيلة تلك السنوات، الأمر الذي تسبب بمشكلات اقتصادية وبيئية وصحية بسبب ما نتج عن ذلك من تشوهات خُلقية للأطفال وأمراض السرطان وغيرها من الأمراض، بحسب الكناني، الذي لفت إلى أن لجوء العراق إلى استيراد الغاز من تركمانستان يعطي ذريعة جديدة لتركيا التي يوجد بينها وبين العراق الكثير من الملفات العالقة.

الكنعاني، أشار إلى أن، استيراد العراق للغاز من تركمانستان عبر تركيا سيعطي الأخيرة ذريعة للضغط على العراق في المستقبل القريب، لذلك أن مثل هذا المشروع ليست فيه أي جدوى اقتصادية، ويُعد مشروعا فاشلا من حيث طول الأنبوب الممتد على أراضٍ لا يمتلك العراق أي سلطة عليها، وهذا ما لا يضمن استقرار هكذا مشروع.

توجه العراق لاستيراد الغاز من تركمانستان “فاشل”

علاوة على ذلك، لفت الخبير الاقتصادي إلى أنه بدل التوجه لاستيراد الغاز من تركمانستان، يمكن للعراق أن يستثمر كلف هذا المشروع في استغلال الغاز المصاحب الذي يتم حرقه أثناء العمليات النفطية، لاسيما وأن هناك العديد من الشركات التي بإمكانها تحويل الغاز المحترق أو المصاحب إلى بخار يتم من خلاله تدوير توربينات محطات توليد الكهرباء.

العراق يوقع اتفاقا لاستيراد الغاز من تركمانستان/ إنترنت + وكالات

وفقا لذلك، فإن الخطوة الأنسب للعراق في هذه المرحلة، بحسب الأوساط الاقتصادية، تتمثل في التوجه نحو استيراد الغاز من قطر أو الجزائر، بدلا من التوجه شرقا والاعتماد على الأراضي الإيرانية التي تواجه مشاكل الحظر الدولي، أو عبر الأراضي التركية التي تشهد هي الأخرى مشاكل دبلوماسية تتعلق بالمياه من جهة وأنبوب نفط جيهان من جهة أخرى، وهو ما يعني من الصعب المجازفة بمدّ هذه الخطوط عبر أراضيها.

إذ يُعد الغاز القطري الأنسب والأجدى اقتصاديا بالنسبة للعراق، حيث قرب المسافة الجغرافية، وإمكانية نقل الغاز عن طريق السفن عبر الخليج العربي باتجاه البصرة، بدلا من صرف الأموال الطائلة على مدّ أنابيب بمسافات طويلة تستخدم لفترة مؤقتة، إلا أن الحكومات العراقية هي من أصرّت طيلة السنوات الماضية على الاعتماد على الغاز الإيراني الذي تقول تقارير بأنه يُباع لبغداد بأسعار مضاعفة.

بناء على ذلك، يؤكد اخصائيون في الاقتصاد، بأن الحكومة العراقية وضعت البلد في مأزق خطير، باعتمادها على الغاز المستورد، على الرغم من توفر كل الإمكانات اللازمة لتوليد الطاقة الكهربائية محليا، إذ يمتلك العراق كميات كبيرة من احتياطيات الغاز، فضلا عن إمكانية توفير الكهرباء من خلال الطاقة المتجددة والنظيفة عبر الرياح والطاقة الشمسية.

هذا وينقسم الغاز الطبيعي في العراق إلى نوعين؛ أولهما الغاز المصاحب للنفط، وهو ما يشكل الجزء الأكبر من الثروة الغازية في البلاد، والثاني الغاز الطبيعي الحر، ويتمثل في حقل عكاز بمحافظة الأنبار (غربي البلاد)، وحقل سيبة في البصرة (جنوبا)، والمنصورية في ديالى (شرقا).

لكنه حتى الآن فشل في استثمار تلك الكميات، وبالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية التي يسببها فشل تجربة الاستثمار في الغاز واستيراده بنحو 5 مليارات دولار سنويا، ومن إيران تحديدا، وعدم الاستفادة منه في محطات توليد الكهرباء، إذ إن إحراقه يسبب كوارث بيئية بتأثيراته السلبية على المناطق الجنوبية من البلاد، ومنها محافظة البصرة تحديدا.

العراق والغار بالأرقام

استمرار العراق لحرق الغاز المصاحب وضعه ثانيا بعد روسيا عالميا للسنة الرابعة على التوالي بين أعلى الدول إحراقا للغاز الطبيعي، حيث تشير بيانات “البنك الدولي” إلى أنه أحرق عام 2016 ما مجموعه 17.73 مليار متر مكعب من الغاز، ثم ارتفع ذلك عام 2019 ليصل إلى 17.91 مليار متر مكعب.

خبراء يقللون من أهمية توقيع بغداد اتفاقا مع تركمانستان لاستيراد الغاز/ إنترنت + وكالات

فارتفاع نسبة حرق الغاز المصاحب في العراق، يأتي طرديا مع زيادة إنتاج النفط، في ظل استمرار معاناة البلاد من الحروب التي شهدتها خلال العقود الأربعة الأخيرة، والتي أدت بدورها إلى تدمير منشآت استثمار الغاز المصاحب التي كان العراق قد بدأت بتشييدها في سبعينيات القرن الماضي.

بيانات “وكالة الطاقة الدولية”، كانت قد أشارت إلى أن كمية الغاز التي يحرقها العراق يوميا تكفي لإمداد ما لا يقل عن 3 ملايين منزل بالطاقة الكهربائية، التي عجزت حكومات ما بعد 2003 عن معالجة مشاكلها حتى الآن.

فيما يقدر الاحتياطي الطبيعي من الغاز العراقي بـ132 تريليون قدم مكعبة -حسب منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”- أُحرق 700 مليار قدم مكعبة منه نتيجة ضعف القدرة على استغلاله، مع بلوغ إنتاجه اليومي من الغاز الطبيعي المصاحب 2.7 مليار قدم مكعبة، ويستهدف وصوله إلى 3.1 مليارات قدم مكعبة، ويقدر بنسبة 1.5 من الاحتياطي العالمي من “أوبك”، و1.8 للاحتياط العالمي، ويحتل المرتبة 11 عالميا بالنسبة للترتيب الدولي.

الجدير بالذكر، أن العراق قد أتلف عام 2020 –بحسب بيانات دولية- ما يقدر بـ 18 مليون متر مكعب من الغاز، وإذا حُولت هذه الكمية إلى البرميل، فإنه يتلف ما يعادل 62 بالمئة من إنتاجه من الغاز، أي ما يعادل 196 ألف برميل من النفط، أي بما يعادل 45 مليار دولار تقريبا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات