من المسلّمات أن الهوية هي حق أساسي لكل إنسان، تحدد من هو ومن أين، فالهوية هي الوثيقة التي تمنح الإنسان حقوقه وواجباته كمواطن في مجتمعه، وهي الضمانة التي تحمي الإنسان من التمييز والاستغلال والظلم؛ لكن في سوريا هناك آلاف من النساء اللائي فقدن هذا الحق، وبتن بلا هوية وبلا حقوق تحفظ كرامتهن.

هؤلاء النساء اللواتي يعشن في مناطق مختلفة من سوريا، تحت سيطرة أطراف متعددة، يواجهن صعوبات جمّة في الحصول على أوراق ثبوتية تعكس حالتهن الشخصية والأسرية والمدنية، فبعضهن فقدن أوراقهن بسبب الحرب والتهجير والتدمير، وبعضهن لم يتمكن من تجديدها أو تحديثها بسبب الإجراءات المعقدة والمكلفة والخطرة، وبعضهن لم يحصلن عليها أصلا بسبب التقاليد والعادات والأعراف المجتمعية.

هذا الوضع، الذي يخالف المواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، يؤثر بشكل سلبي على حياة هؤلاء النساء، ويحرمهن من ممارسة حقوقهن كمواطنات في سوريا، فهؤلاء النساء لا يستطعن التسجيل في المدارس أو الجامعات أو المستشفيات أو المؤسسات الحكومية، ولا يستطعن الحصول على جواز سفر أو رخصة قيادة أو شهادة زواج أو طلاق أو وفاة، كما يتعرضن لخطر التجارة بالبشر والزواج المبكر والإجباري والعنف المنزلي والجنسي.

غير موجودات رسميا لدى الدولة

إنّ تأثير النزاع والحروب على السكان لا يقتصر على الخسائر المادية والجسدية فحسب، بل يتعداها إلى الأبعاد الاجتماعية والإنسانية، في سوريا باتت النساء ضحايا هذه الحروب بشكل خاص، فهنّ يعيشن تحت وطأة الصراع والمعاناة في ظروف قاسية لا يحتملها أي إنسان، وتزيد معاناة النساء في سوريا بشكل مزمن بسبب فقدانهنّ للأوراق الثبوتية، مما يجعلهنّ “سوريات بلا هوية”.

هذا الموضوع يطرح تساؤلات ملحّة حول أهمية وجدوى تحسين الوضع القانوني للنساء في سوريا، إذ إنّ حصول المرأة على وثائق وهوية تعترف بها الدولة ليس مسألة استثنائية بل هي حاجة أساسية لضمان حياتها وحياة أسرتها، كما أن عدم وجود وثائق وهوية تحرم المرأة من حقوق أساسية كالتعليم والعمل والرعاية الصحية. 

حصل “الحل نت” بشكل استثنائي على شهادات بعض النساء اللواتي يعانين من فقدان هويتهن، حيث تكشف قصصهن حياة مؤلمة ومأساوية، خصوصا أن فقدان الهوية الشخصية يترتب عليه العديد من المشاكل والتحديات التي تؤثر بشكل كبير على حياة النساء وحياة أسرهن.

سارة وهي سيدة سورية تعيش في مخيم اليرموك بمدينة دمشق، فقدت هويتها خلال النزوح بسبب تدمير منزلها في القتال، وباتت بدون هوية، ولم تتمكن سارة من تسجيل أبنائها في المدارس أو الحصول على المساعدة الإنسانية، وتعيش في حالة من العزلة والفقر المدقع.

أيضا ليلى وهي أم لثلاثة أطفال في منطقة دير الزور، وبعد محاولات متكررة للفرار من المنطقة، تم القبض عليها وزوجها وتم منعهما من مغادرة المنطقة، وتم سحب هوياتهما وتعرضا للاعتقال والتعذيب، والآن ليلى وزوجها ليس لديهما هويات ويعيشان تحت وطأة التهديد والقهر.

كذلك الشابة نور التي فقدت هويتها عندما تعرض منزلها للتدمير أثناء القصف بمدينة دوما في ريف دمشق، لم تتمكن من الزواج رسميا أو التقدم بطلب للعمل بسبب فقدان أرواقها الثبوتية، وتعيش في حياة بلا حقوق وتشعر بالعجز والاستياء، وهذه الشهادات تعكس حجم المأساة التي تمر بها العديد من النساء في سوريا بسبب فقدان هويتهن.

استخراج الأوراق الثبوتية تحتاج الملايين

معظم النساء اللواتي تحدث معهن “الحل نت”، حاولن خلال السنوات السابقة استخراج أوراقا ثبوتية جديدة، إلا أنها مهمة شبه مستحيلة. وبالإضافة إلى ذلك، تكشف بعض الشهادات عن وجود سوق سوداء نشطة للأوراق الثبوتية السورية، حيث يتم بيع وشراء الهويات بأسعار باهظة تصل إلى ملايين الليرات، وهذه السوق تزيد من حجم المشاكل والتعقيدات التي يواجهها النساء وتجعل من الأمر أكثر صعوبة.

هذه السوق السوداء بحسب نور تنشط في مدينة دمشق وتحديدا على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وتستغل حاجة السوريين لاستخراج أو استرجاع وثائقهم المحتجزة لدى الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية السورية، ووفقا لحديثها فإن هذه السوق تضم سماسرة محليين وآخرين يعملون في مؤسسات الدولة لإعادة واستخراج الوثائق مقابل مبالغ تصل إلى 10 ملايين ليرة سوريا، أي ما يعادل 715 دولار أميركي.

ليس ذلك فحسب، بل يستخدم بعض السماسرة وثائق مزورة أو مسروقة، لبيعها للذين فقدوا أوراقهم أو لم يحصلوا عليها من الأساس، وتتراوح المبالغ المدفوعة لبطاقة الهوية وشهادة الميلاد بين 150 إلى 200 دولار، حيث لا يقبل السماسرة سوى التعامل بالعملة الصعبة.

علاوة على ذلك وطبقا لحديث ليلى، فإنه يتم عرض وثائق هوية سورية مزورة أو مسروقة للبيع في هذا السوق السوداء، وتشمل هذه الوثائق جوازات السفر، وبطاقات الهوية الوطنية، ورخص القيادة، وشهادات الميلاد، وشهادات الزواج، وغيرها من الوثائق الرسمية.

يتم تنظيم هذا السوق خارج إطار القانون وبطرق غير شرعية، بسبب خوف النساء من الاعتقال أو الاحتجاز لمدة غير معلومة، وهذا يعرض المشترين والبائعين لمخاطر قانونية كبيرة في حال تم اكتشاف الوثائق المزورة، في حين تكافح النساء في سوريا للحصول على وثائق بغض النظر عن مصدرها من أجل الوصول إلى الخدمات الأساسية والفرص الاقتصادية.

الأشخاص الفقراء والمحرومين هم الأكثر تضررا من هذا السوق، حيث يجدون أنفسهم مضطرين لشراء الوثائق بأسعار مرتفعة للوصول إلى الخدمات والفرص التي يحق لهم الاستفادة منها بشكل طبيعي.

المعاناة من قانونية الوجود

 إن أثر فقدان الوثائق المدنية يمتد ليشمل العديد من الحقوق الأخرى بما في ذلك الحق في حرية التنقل، وحقوق السكن والأراضي والملكية، والقدرة على تلقي الخدمات التعليمية والمساعدة الإنسانية، والحق في التصويت والمشاركة في الحياة السياسية.

وفقا لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، فإنه مع مرور سنوات على تشرد السوريين دون أن يتمكن العديد منهم من الحصول على وثائق جديدة، فإنهم يعانون من عدم القدرة على تسجيل الوقائع المدنية من زواج وطلاق، والحصول على شهادات ميلاد لحديثي الولادة، مما يؤدي بالضرورة إلى وجود آلاف الأطفال معدومي الجنسية وحرمانهم بالتالي من حقهم في التسجيل في المرافق التعليمية.

حديث سارة لـ”الحل نت” وصل إلى أعمق نقطة بداخلها، فهي التي لا يراها القانون السوري، وبسبب انخراط زوجها بالأعمال القتالية ضد الحكومة، باتت تعيش تحت سلطته، فهي تزوجته دون موافقتها وبضغط من أهلها الذين فروا إلى أوروبا خلال موجة اللجوء الكبيرة عام 2015.

حتى الآن لا تستطيع سارة تقديم معاملة طلاق، بالإضافة لذلك تحتجزها جدران المنزل الذي تعيش فيه حسب وصفها عن السفر إلى أهلها؛ فهي لا تمتلك هوية أو وثائق ثبوتية، فضلا عن أن واقعة زواجها وحتى أولادها غير مسجلين لدى الدوائر الرسمية.

لا يوجد رقم دقيق عن أعداد فاقدي الوثائق الثبوتية في سوريا، لأن هذه المشكلة تتعلق بملايين السوريين الذين تأثروا بالحرب والتهجير والتدمير؛ لكن بعض التقارير والدراسات تشير إلى أن نسبة كبيرة من السوريات لا يملكن أوراق ثبوتية تعكس حالتهن الشخصية والأسرية والمدنية، مثل الهوية الشخصية، ودفتر العائلة، وعقد الزواج، وشهادة الميلاد، وشهادة الوفاة، وجواز السفر، ووثائق الملكية.

في عام 2018، أجرت منظمة “العدالة من أجل الحياة” دراسة عن فقدان الوثائق الثبوتية في سوريا، استنادا إلى استبيان شمل 1000 شخص من مختلف المحافظات، وبحسب هذه الدراسة، فإن 40 بالمئة من المستجيبين لا يملكون دفتر عائلة، و35 بالمئة لا يملكون هوية شخصية، و30 بالمئة لا يملكون جواز سفر. كما أن 60 بالمئة من المستجيبين لديهم مشكلات في تسجيل حالات الزواج أو الطلاق أو الولادة أو الوفاة، وأشارت الدراسة إلى أن أسباب فقدان الوثائق تتعلق بالحرب والتهجير والإجراءات المعقدة والمكلفة والخطرة.

حجم المأساة التي تمر بها العديد من النساء في سوريا بسبب فقدان هويتهن كبيرة جدا، ويتعدى تأثيرها على المستوى الشخصي والنفسي، فدون وثائق رسمية تتعرض النساء للتجاهل من قبل القانون ويصعب عليهن ممارسة حقوقهن المدنية والاجتماعية، فضلا عن عزلهن اجتماعيا واقتصاديا وتهميشهن وجعلهن عرضة للاستغلال والاضطهاد بشكل أكبر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات