في عالم مترابط ومتعدد الأقطاب، تلعب العملات الوطنية دورا حاسما في تحديد قوة ونفوذ الدول على المستوى الإقليمي والعالمي، ولعل أبرز مثال على ذلك هو الدولار الأميركي، الذي يُعتبر منذ عقود عملة احتياطية عالمية ووسيلة للتجارة والاستثمار والتمويل، وقد استفادت الولايات المتحدة من هذه المكانة المرموقة لتعزيز مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية في جميع أنحاء العالم، ولكن هذه المكانة لم تخلُ من التحديات والمنافسات من قِبل دول أخرى تسعى إلى تقليل اعتمادها على الدولار وزيادة نفوذها المالي.

في هذا السياق، تبرز دوران الصين وروسيا، اللتان تشكلان تحالفا استراتيجيا ضد ما تسميانه الهيمنة الأميركية، وتسعيان إلى تنويع احتياطاتهما من العملات الأجنبية وترويج عملاتها المحلية كبديل للدولار في التجارة الثنائية والإقليمية، وقد شهدت السنوات الأخيرة محاولاتٍ مكثفة من قبل بكين وموسكو لإضعاف قبضة الدولار على سوق الطاقة، وخصوصا سوق النفط، الذي يشكل جزءا كبيرا من التجارة العالمية، ولكن هل نجحت هذه المحاولات في تغيير المعادلة المالية، أو اصطدمت بعقبات وصعوبات لم تكن متوقعة.

الخطة لا تسير كما يجب

منذ عقود طويلة، كان الدولار الأميركي يحكم عالم التجارة والمال بسيطرة لا تُضاهى، وبات العملة الاحتياطية العالمية التي تُستخدم في التعاملات الدولية والتجارية، وهو الركيزة الأساسية للنظام المالي العالمي، ولكن في السنوات الأخيرة، محاولة الصين وروسيا لكسر هذا النظام باتت الشغل الشاغل لحكوماتهم منذ تأسيس “بريكس” عام 2009.

تناول موضوع تحوّل الصين وروسيا بعيدا عن الدولار الأميركي يشبه الدخول إلى قلب النظام المالي العالمي، فالبلدان يسعيان لتحدي الهيمنة الدولارية وتحقيق مستقبل ذاتي ومستدام، وتصريح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في قمة الـ “بريكس” الشهر الفائت، بأن التخلي عن الدولار لا رجعة فيه، يشير إلى أنها محاولة لاختراق التفوق الاقتصادي الأميركي وتحويل الأوضاع العالمية.

في هذا السياق، تبدو محاولات الرئيس فلاديمير بوتين، لوقف استخدام الدولار الأميركي في التجارة على أنها خطوة مهمة وجريئة، إلا أن مليارات الدولارات من أرباح مبيعات النفط الروسي العالقة في البنوك الهندية تثير تساؤلات حول فعالية هذه المحاولات وقدرتها على تحقيق الأهداف المرجوة، فبينما يحاول بوتين بيع النفط بعملات محلية مثل اليوان الصيني والروبية الهندي، يظل الدولار هو العملة الرئيسية التي تُستخدم في التجارة العالمية.

من ناحية أخرى، تستمر الصين في مساعيها للتخلص من اعتمادها على الدولار وتعزيز اليوان كعملة احتياطية دولية، وبالرغم من تقدّمها وجهودها في هذا الصدد، فإن الجهود الأخيرة لإلغاء اعتماد التجارة الثنائية مع الهند بالدولار قد تظهر على أنها تحدٍّ جديد لمشروع الصين.

الدولار هو الملك

روسيا أصبحت واحدة من أكبر مورّدي النفط للهند وحققت مبيعات بمليارات الدولارات، وقد أدى ذلك إلى تراكم ما يصل إلى مليار دولار شهريا من أصول الروبية في البنوك الهندية التي لا يمكن الوصول إليها بسبب القيود التي يفرضها بنك “الاحتياطي” الهندي، والتي تمنع الشركات الروسية من تحويل الروبية المخزنة في الحسابات المصرفية في الهند إلى روسيا وتحويلها إلى روبل.

ما يصل إلى 39 مليار دولار ما تزال محتجزة في حسابات البنوك الهندية، مما يمثل ضربة لمحاولات الرئيس فلاديمير بوتين، لوقف استخدام الدولار الأميركي في التجارة، ونتيجة لهذه القيود، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، للصحفيين في ولاية جوا الهندية في أيار/مايو الماضي، “هذه مشكلة، نحن بحاجة إلى استخدام هذه الأموال، ولكن لهذا يجب تحويل هذه الروبيات بعملة أخرى، وهذا قيد المناقشة الآن”.

في شهر أيلول/سبتمبر الجاري، بدا أن لافروف يعترف بأن موسكو قد تخلت عن إنقاذ مخزونها من الروبية الذي تبلغ قيمته المليارات من الهند، بعد محاولة بوتين الالتفاف على العقوبات من خلال بيع النفط لدول مثل الصين والهند بعملتها المحلية، اليوان والروبية على التوالي.

كما سعت الصين إلى إضعاف قبضة الدولار الأميركي على التجارة العالمية من خلال دعوة زعماء دول الخليج العربية إلى السماح بشراء النفط والغاز باليوان، ومع ذلك، يبدو أن المحاولات الأخيرة لإلغاء اعتماد التجارة الثنائية مع الصين بالدولار قد أدت إلى نتائج عكسية على بكين.

نسبة اعتماد الصين وروسيا على الدولار في تجارتهما ليست سهلة الحصول عليها، لأنها تتغير باستمرار وتختلف حسب المصادر والمؤشرات، ولكن مع استخدام بعض البيانات والتقارير المتوفرة يظهر أن نسبة اعتماد الصين على الدولار في تجارتها مع روسيا قد انخفضت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، حيث بدأت تستخدم اليوان الصيني كعملة لشراء الطاقة والسلع من روسيا. 

وفقا لبيانات الجمارك الصينية، فإن التجارة الثنائية بين الصين وروسيا بلغت أكثر من 93.8 مليار دولار من كانون الثاني/يناير إلى أيار/مايو في 2023، بزيادة 40.7 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وبلغت صادرات الصين إلى روسيا 42.96 مليار دولار منذ كانون الثاني/يناير 2023، بزيادة 75.6 بالمئة مقارنة بـ 2022، ووفقا لآخر أرقام نشرها البنك “المركزي” الروسي، فإن العملة الصينية شكّلت 34 بالمئة من واردات روسيا في تموز/يوليو و25 بالمئة من صادراتها؛ وبالتالي، يمكن تقدير نسبة اعتماد الصين على الدولار في تجارتها مع روسيا بحوالي 30 بالمئة إلى 40 بالمئة.

أما بالنسبة لروسيا، فإن نسبة اعتمادها على الدولار في تجارتها مع الصين قد زادت بشكل طفيف في السنوات الأخيرة، حيث لم تستطع التخلص من استخدامه كعملة لبيع الطاقة والسلع إلى الصين، ووفقا لبيانات مؤشر “كيل” التجاري، فإن نشاط الموانئ الروسية كان “مرتفعاً بشكل مفاجئ” في آب/أغسطس الفائت، حيث اقترب حجم البضائع التي تم تفريغها في ثلاثة من أكبر محطات حاوية في روسيا بما في ذلك فلاديفوستوك على ساحل المحيط الهادئ قرب الصين من المستوى المشهود على إثر اندلاع الحرب.

أيضا طبقا لأحدث تقارير نشرتها صحيفة “بلومبرغ” الأميركية، فإن بعض عائدات بيع الطاقة إلى الصين لا تزال عالقة في البنوك الهندية، مما يمثّل ضربة لمحاولات الرئيس فلاديمير بوتين لوقف استخدام الدولار في التجارة، وبالتالي يمكن تقدير نسبة اعتماد روسيا على الدولار في تجارتها مع الصين بحوالي 60 بالمئة إلى 70 بالمئة.

بناء على هذه التقديرات، يمكن القول بأن نسبة اعتماد الصين وروسيا على الدولار في تجارتهما تتراوح بين 30 بالمئة إلى 70 بالمئة، وهي نسبة مرتفعة نسبيا، خصوصا في ظل العقوبات والتوترات التي تواجههما من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، وهذا يدل على أن الصين وروسيا لم تستطع الاستغناء عن الدولار بشكل كامل أو فعّال في تجارتهما، وأن الدولار لا يزال يحتفظ بمكانة مهمة وقوية في الأسواق المالية والسلعية الدولية.

هل وصلت بكين وموسكو إلى ذروة الهجمة؟

في هذا السياق، أوضح الخبير في تحليل الأسواق المالية والاقتصاد السياسي الدولي، بريان ماركس، لـ”الحل نت”، أن الدولار الأميركي هو عملة احتياطية عالمية تحظى بثقة وقبول واسعين من قبل البنوك المركزية والمستثمرين والتجار في جميع أنحاء العالم. ووفقا لتقرير صادر عن صندوق “النقد” الدولي في عام 2021، يشكل الدولار حوالي 60 بالمئة من احتياطيات العملات الأجنبية للبنوك المركزية، مقارنة بـ 21 بالمئة لليورو و2 بالمئة لليوان.

كما يُستخدم الدولار في أكثر من 80 بالمئة من معاملات الصرف الأجنبي، وفي حوالي 40 بالمئة من التجارة العالمية، كما أنّه يُستخدم كعملة مشتركة ومستقرة يسهّل التجارة والاستثمار والتمويل بين الدول المختلفة، ويقلل من التكاليف والمخاطر المرتبطة بالتقلبات في أسعار الصرف، لذلك فإن التخلي عن الدولار قد يؤدي إلى خسارة فوائد اقتصادية كبيرة للصين وروسيا وشركائها التجاريين.

كذلك فإن الدولار الأميركي هو عملة مهيمنة في سوق الطاقة، وخصوصا سوق النفط، الذي يشكل جزءا كبيرا من التجارة العالمية، حيث تُباع معظم صادرات النفط بالدولار، مما يجبر المستوردين على تحويل عملاتهم المحلية إلى دولارات لشراء النفط، وهذا يزيد من الطلب على الدولار، ويزود المصدرين بالدولارات التي يستخدمونها لشراء سلع وخدمات أخرى من دول أخرى، ومحاولة الصين وروسيا بيع نفطهما بعملات أخرى، واجهت صعوبة في إقناع المشترين بقبول هذه العملات، أو اضطرا إلى تقديم خصومات أو تحمُّل تكاليف إضافية لإجراء التحويلات.

علاوة على ذلك، فإن الدولار الأميركي هو عملة مدعومة بقوة اقتصادية وعسكرية وسياسية هائلة، فالولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر مستورد ومصدر للسلع والخدمات، وأكبر مانح للمساعدات الخارجية، وأكبر مصدر للابتكارات التكنولوجية، وأكبر مصدر للثقافة الشعبية، كما تمتلك الولايات المتحدة أقوى جيش في العالم، وأكبر ترسانة نووية، وأوسع شبكة من الحلفاء والشركاء في جميع أنحاء العالم.

كل هذه العوامل تجعل من الدولار عملة جذابة وموثوقة للبنوك المركزية والمستثمرين والتجار، ومحاولة الصين وروسيا منافسة الدولار، دون تطوير قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وتحسين سمعتها وثقافتها في العالم لن تجد أيّة نتيجة، بحسب ماركس.

ليس ذلك فحسب، بل أن الدولار الأميركي هو عملة مرنة وقابلة للتكيف مع التغيرات في الظروف الاقتصادية والسياسية، على عكس بعض العملات المرتبطة بالذهب أو بغيره من الموارد، فإن الدولار يستند إلى نظام نقدي مرن يسمح للبنك “المركزي” الأميركي (الفيدرالي) بضبط سياساته النقدية لتحقيق أهدافه المتعلقة بالنمو والتضخم والتوظيف، كما يستفيد الدولار من قوة سوق رأس المال الأميركي، التي توفر سيولة عالية وشفافية عالية وحماية قانونية للمستثمرين، وهنا تحدي الصين وروسيا للدولار، دون إصلاح نظاميهما الماليين لزيادة مرونتهما وجاذبيتهما سيذهب أدراج الرياح.

صعوبة في الاستغناء عن الدولار الأميركي

طبقا لتقديرات ماركس، فإن عمق وسيولة الأسواق المالية الأميركية لا مثيل لها، وهناك إمداد كبير من الأصول الآمنة المقوّمة بالدولار، وبالتالي، فإن هناك ثقة عالية في الدولار كوسيلة للتخزين والتبادل والحساب، وهذا يجعل من الصعب على أي عملة أخرى أن تحُلّ محلّه أو تنافسه.

لا تزال هناك حواجز سياسية وتقنية وثقافية تحول دون انتشار وقبول العملات البديلة للدولار، فمن الناحية السياسية، فإن بعض الدول لا تثق في نوايا ومصالح الصين وروسيا، وتخشى من التعرض للتدخل أو الابتزاز أو العقوبات من قِبلهما.

أما من الناحية التقنية، فإن بعض الدول لا تمتلك البنية التحتية أو القدرة أو الرغبة لإجراء المعاملات بالعملات الرقمية أو المشفرة، التي قد تكون وسيلة لتجاوز الدولار، في حين من الناحية الثقافية، فإن بعض الدول لا تعتاد على استخدام العملات غير المألوفة أو غير المستقرة، وتفضل التمسك بالدولار كعملة مألوفة ومستقرة.

بالتالي، فإن الصين وروسيا تواجهان صعوبة كبيرة في الاستغناء عن الدولار الأميركي، لأنه يحظى بثقة وسيطرة عالية في الأسواق المالية والسلعية الدولية، ولأنه يحظى بمقاومة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ولأنه يستفيد من حواجز سياسية وتقنية وثقافية تحد من انتشار وقبول العملات البديلة.

إن موضوع تحوّل الصين وروسيا عن الدولار لا يُعد مسألة اقتصادية فقط، بل هو مسألة سياسية وجيوسياسية تتطلب تقييما دقيقا ومتابعة مستمرة، فتحدي الدور العالمي للولايات المتحدة واستقرار النظام المالي العالمي ليس قويا بالنسبة لروسيا والصين اللتان أصبح اقتصادهما موضع تساؤل، خصوصا بعد مقارنتهما مع التباطؤ الاقتصادي في اليابان في التسعينيات وأن هناك مؤشرات محتملة على أزمة مالية وشيكة لهما.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات