رغم مضي 70 عاما على حالة الهدنة بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، منذ اندلاع حرب الثلاثة أعوام التي وقعت عام 1950- 1953، إلا أنه التوتر المتمثل بالتهديدات الحدودية للجانبين، لم يغب يوما، غير أنه هذه المرة يشهد مرحلة جديدة، بخاصة مع الانفتاح الكبير لكوريا الشمالية “الشيوعية” على شركاء يحملون أطماع توسعية في القارة الآسيوية مثل روسيا والصين، ما يدفع بكوريا الجنوبية للمسارعة نحو تعزيز قدراتها الأمنية والعسكرية التي تعتمد فيها على حليفتها الاستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية.

فبينما تعزيز كوريا الشمالية علاقاتها مع الصين وروسيا التي تعاني من حصار اقتصادي وعزلة دولية، بسبب ما يصفه الغرب بالسياسات العدائية، تعمل كوريا الجنوبية على وضعه نفسها بحالة أكثر استعداد لأي تهديدات حالية أو مستقبلية، لاسيما مع استمرار جارتها الشمالية في تطوير نظامها الصاروخي، ولغة الخطاب العدائية التي لا تفارق زعيمها كيم جونغ أون، الذي أنهى لتو زيارة إلى روسيا. قال خلالها أنه مستعد لتخطيط مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن “خطة للأعوام المئة المقبلة”.

فتحركات كوريا الشمالية، التي يبدو أنها لا تبدي أي ممانعة من أن تكون جزءا رئيسيا من معادلة الصراع الدولي الذي تخوضه موسكو وبكين، بمواجهة القوى الغربية متمثلة بالولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، ضمن ما يسمى صناعة نظام عالمي جديد متعدد القطبية؛ ساعدت بشكل كبير في تعزيز قدرات جارتها كوريا الجنوبية، حيث تعمل واشنطن على تمكينها كحليف استراتيجي في واحدة من أكثر بؤر التوتر عالميا، وفي سياق الحفاظ على توازن النظام العالمي الخاضع للهيمنة الغربية.

واشنطن بمواجهة مساعي القطبية العالمية

تعمل الصين على بناء تحالف قائم على روسيا وكوريا الشمالية وإيران كقوى أساسية، وتسعى من خلاله إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، يبدأ من حيث تقويض نفوذ الولايات المتحدة الأميركية والحد من انتشار سيطرة المحور الغربي في المناطق الاستراتيجية، والتي تحمل قيم اقتصادية وسياسية، وضمن هذه المعادلة صراع الكوريتين، فالصين وحلفائها ينظرون إلى كوريا الجنوبية إلى جانب اليابان على أنهما تهديدا غربيا في قلب القارة الآسيوية، ما يتطلب تحيدها وإبعادها عن واشنطن بأي شكل من الأشكال.

بالمقابل تدرك واشنطن ذلك جيدا، وتعمل ضمن سياسة مدروسة تقوم على أساس القوة والاحتواء، حيث تعمل الإدارة الأميركية ضمن برنامج سياسة متكامل على احتواء الخطر الأكبر المتمثل بالصين، من خلال دمجها بالنظام العالمي مع تجريدها من أي عناصر تهديد، وذلك بموازاة تدعيم الخواصر الاستراتيجية التي تمثل نقاط احتكاك وعزل بين المعسكرين، من بينها كوريا الجنوبية.

فإلى جانب الشراكات الاقتصادية والتكنولوجية والتجارية والعسكرية، وافقت واشنطن مؤخرا على بيع بيع كوريا الجنوبية مقاتلات”إف 35″ المتطورة، في صفقة فسرها مراقين، بأنها تندرج ضمن سياسة الرد والردع الأميركي على تحركات المعسكر الصيني، التي كان أخرها تحركات بيونغ يانغ نحو روسيا التي تخوض معركة مباشرة ضد المحور الغربي في أوكرانيا منذ شباط/فبراير الماضي.

وزارة الخارجية الأميركية أبلغت، اليوم الخميس، “الكونغرس” بأنها أعطت الضوء الأخضر لبيع 25 طائرة حربية من هذا الطراز، إضافة إلى المحركات وتجهيزات مرتبطة بها إلى سول، وذلك في صفقة من شأنها أن تعزز قدرة كوريا الجنوبية على التصدي لمخاطر حالية ومستقبلية من خلال توفير قدرات دفاعية ذات موثوقية لردع أي عدوان في المنطقة وضمان التوافق التشغيلي مع القوات الأميركية، بحسب بيان الخارجية التي لفتت إلى أن، الصفقة المقترحة لهذه المعدات والتجهيزات الداعمة لن تغير التوازن العسكري الأساسي في المنطقة.

كوريا الجنوبية ضمن نسيج من التحالفات الأمنية

في هذا السياق يقول الخبير الاستراتيجي عقيل الطائي، إن الصفقة تأتي في سياق سياسات الردع الأميركي، حيث تعمل الولايات المتحدة الأميركية ومنذ اندلاع الحرب الأوكرانية، على إعادة رسم خارطة النفوذ الدولي، فمع تحركات المحور الصيني الروسي الذي يضم كوريا الشمالية وإيران وعدد من الدول الشمولية، نحو تكريس نفوذها في مناطق مثل إفريقيا وحتى الشرق الأوسط، مستغلين انشغال المحور الغربي في الأزمة الأوكرانية، دفع بواشنطن إلى التحرك سريعا لتأمين مناطقها.

من بين هذه التحركات الأمريكية، رأب الصدع بين كوريا الجنوبية واليابان، ودمجها في اتفاق دفاع مشترك واستراتيجي لمواجهة أي تهديدات صينية، كما أوضح الطائي، بالتالي أن ذلك يعني أن القوات الأميركية تتولى بشكل مباشر بعض المسؤوليات الأساسية في بحر الصين والمحيط الهادئ، مع تبني طوكيو موقفا فاصلا من أي تحركات صينية من جانب تايوان، في حين تتولى كوريا الجنوبية سياسة الردع ضد كوريا الشمالية، وذلك في إطار تطويق بكين وحلفائها.

الخبير الاستراتيجي، لفت إلى أن، يمكن اعتبار صفقة طائرات “إف  35” على خط المواجهة الإقليمية بين الكوريتين، وضمن السلاح الكوري الجنوبي سيمثل عامل حاسم في تمكن سول من غريمتها بيونغ يانغ من حيث السيطرة على المجال الجوي، وهذا يشمل الناحية العسكرية والاستخباراتية،  بما يضع كوريا الشمالية مستباحة جويا أمام كوريا الجنوبية.

 إلى ذلك، تشغل كوريا الجنوبية مقاتلات “أف 35” منذ العام 2018، وتحصر الولايات المتحدة موافقتها على بيع المقاتلات بشركائها المقربين، وقد استبعدت تركيا من برنامج هذه المقاتلات بعد شرائها منظومة دفاع صاروخي من روسيا، في حين تأتي الصفقة في خضم توترات متصاعدة مع كوريا الشمالية التي أطلقت من الأربعاء الماضي صاروخا بالستيا واحدا على الأقل، في الوقت الذي كان الزعيم كيم جونغ أون، يزور روسيا.

“ناتو” آسيوي استراتيجي

في السياق، كانت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان، قد عززت تعاونها في مجال الدفاع خلال الأشهر الأخيرة، رغم الخلافات التي طالما كانت تحول في التقارب بين سيول وطوكيو وتباعد بينهما، قبل أن يتحول الأمر إلى أكثر جدية بما يتطلب تجاوز الخلافات الثنائية والشعور بالقيمة الاستراتيجية.

طائرة “إف 35″/ إنترنت + وكالات

ذلك يأتي بالرغم من أن الولايات المتحدة من جهتها كانت قد وضعت استراتيجية “احتواء الصين” هدفا معلنا لها، حيث عملت على تنفيذه طوال السنوات الماضية، وخصوصا خلال ولايتي كلّ من ترامب وبايدن.

لكن الغزو الروسي لأوكرانيا ومواقف الصين من تايوان، جعلت الموقف الأميركي أكثر خشية من تكرار بكين أو أي من حلفائها مثل كوريا الشمالية لسيناريو موسكو ضد أوكرانيا، بخاصة وأن كوريا الشمالية طالما كانت تستخدم لغة العداء مرارا وتكرارا ضد جارتها الشمالية، وهو ما زاد المخاوف الأميركية والغربية من أن تتخذ بيونغ يانغ التي اتخذت موقفا منحازا إلى جانب روسيا ضد أوكرانيا أي خطوة عدائية.

بل إنها تؤيد وتدعم موسكو في غزوها لأوكرانيا، على الرغم من أن الصين ذاتها لم تتدخر جهدا من إظهار موقف غير منحاز إلى أي طرف من طرفي الحرب، تغلبا منها كما تدعي لمبدأ المفاوضات والعودة إلى السلام كوسيلة لحل الخلافات الدولية، وهذا ما تؤكده الدوائر الغربية بأنه غير صحيح.

بسبب ذلك، عملت واشنطن على نسج طوق من التحالفات الأمنية والعسكرية في منطقة محيط الصين وشرق آسيا، وهو ما جعلها تفكر بإنشاء “ناتو” آسيوي، إلى جانب تحالف “أوكوس” الذي ضم كلا من أستراليا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، والذي نتج منه تزويد الولايات المتحدة الأميركية أستراليا بغواصات نووية متطورة بغية تأمين المحيطين الهندي والهادئ.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات