منذ سنوات، تسعى الصين إلى تعزيز دور عملتها الوطنية، اليوان، في التجارة الدولية، وذلك بالتعاون مع شركائها التجاريين في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وتهدف الصين إلى تخفيف اعتمادها على الدولار الأميركي، وتقليل تكاليف التحويلات والمخاطر النقدية، وتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي في المنطقة.

الاثنين الفائت، أنجزت الصين والبرازيل، عملية كاملة ومغلقة بالعملة المحلية لكلا البلدين للمرة الأولى، حيث ‏أعلنت عن ذلك السفارة الصينية في البرازيل، وفقا لما نقلت قناة “سي جي تي إن” الصينية، وفي 28 أيلول/سبتمبر الماضي، نجح بنك “الصين – البرازيل” في التعامل مع خطاب الائتمان بعملة الرنمينبي الخاصة بأعمال الخصم لشركة “إلدورادو برازيل”، وهي شركة برازيلية، وفقاً لموقع “آستوكس”.

الصين تتبادل أيضا مع روسيا وإيران وتركيا وبعض دول إفريقيا بالعملات المحلية، لكن ما لا يعلمه الكثير أن هناك جانبا مظلما قد يكون غير معروف لهم، وهو كيف يمكن للصين أن تتكبد خسائر في عمليات التبادل التجاري باستخدام عملتها المحلية، فهذه السياسة لها ثمن باهظ، وقد تؤثر على مستقبل اقتصادها وثباتها الذي بات يتداعى مؤخرا، وخصوصا بعد أزمة الرهن العقاري.

فلل فاخرة تحوّلت إلى إسطبلات ومراعٍ

في 23 آب/أغسطس الفائت، أكد قادة مجموعة الـ “بريكس” ومن ضمنهم الرئيس الصيني، شي جين بينغ، على ضرورة زيادة الاعتماد على العملات المحلية في المعاملات التجارية والاستثمارية بين دول التكتل، وسط دعوات لتسريع إجراءات توسيع التكتل وتعزيز دور المجموعة في العالم.

كيف تخسر الصين في عمليات التبادل التجارية بالعملة المحلية؟

حجم التعامل بالعملة المحلية في الصين يختلف باختلاف الشريك التجاري والفترة الزمنية والمصدر الإحصائي، لكن بشكل عام، يمكن القول إن الصين تسعى إلى زيادة حجم التعامل بالعملة المحلية في التجارة الخارجية، وقد حقّقت عدة صفقات في هذا المجال مع بعض الدول، مثل روسيا والبرازيل وباكستان وإندونيسيا وبنغلادش وكازاخستان ولاوس والعراق وإيران.

وفقا لبعض المصادر، فإن حجم التعامل بالعملة المحلية في الصين يشكّل نسبة متزايدة من إجمالي التجارة الخارجية للصين، ففي عام 2016، بلغت نسبة التعامل بالعملة المحلية 11 بالمئة من إجمالي التجارة الخارجية للصين، بينما في عام 2020، ارتفعت هذه النسبة إلى 24 بالمئة. 

كما أن حجم التعامل بالعملة المحلية في الصين يختلف باختلاف الشريك التجاري، فمثلا، في عام 2019، بلغ حجم التبادل التجاري بالعملة المحلية بين الصين وروسيا نحو 25 بالمئة من إجمالي التبادل التجاري بينهما، بينما في عام 2020، بلغ حجم التبادل التجاري بالعملة المحلية بين الصين والبرازيل نحو 3 بالمئة من إجمالي التبادل التجاري بينهما.

لكن أثر هذا التبادل بات يظهر على عماد الاقتصاد الصيني مؤخرا، فبعد نحو عامين من تخلّف شركة “إيفرغراند” الصينية، أكبر مطوّر عقاري في الصين، عن السداد في عام 2021، توجهت الأنظار نحو لاعب رئيسي آخر في هذا السوق، شركة “كانتري غاردن” التي باتت في وضع مماثل.

سوق العقارات في الصين بات يتباطأ بشكل كبير في الأشهر الستة الأولى من العام، إذ شهدت البلاد حالات تخلّف عن السداد جديدة ما يعكس أزمة القطاع العقاري الذي يعاني بالأساس من تبعات تفشي فيروس “كورونا”؛ بسبب قيود الإغلاق وتباطؤ الاقتصاد.

سوق العقارات هو العمود الفقري للاقتصاد الصيني، ومصدر الاستثمار الرئيسي للعديد من الأُسر الصينية، لذلك فإن أي مشكلة يعاني منها القطاع تؤثر على المجتمع بأكمله وربما العالم، لا سيما أنه مرتبط بسلع أخرى كالحديد ومواد البناء، وكذلك على قطاعات رئيسية بالبلاد مثل قطاع البنوك لارتباطه المباشر مع شركات تطوير عقاري، وبسبب ذلك سرعان ما تحوّلت قصور ضيوف الدولة التي جرى تصميمها لفِلل فخمة للطبقة العُليا من المجتمع الثري في الصين، إلى إسطبلات ومراعٍ للماشية بسبب أزمة الديون التي تعاني منها شركات التطوير العقاري الآن.

اليوان في خطر؟

الصين تخسر في عمليات التبادل التجارية بالعملة المحلية من خلال عاملين رئيسيين، أولهما انخفاض قيمة اليوان، حيث في حالة انخفاض قيمة اليوان بالنسبة للدولار، فإن الصين ستحتاج إلى دفع المزيد من اليوان مقابل نفس المبلغ من الدولارات، وهذا يعني أن الصين ستدفع أكثر مقابل وارداتها من الدول التي تعتمد على الدولار، مما سيؤدي إلى زيادة تكلفة المعيشة وخفض مستويات الدخل للمواطنين الصينيين.

أما العامل الثاني، فهو زيادة التكاليف المصرفية، فعندما تجري المعاملات بالعملة المحلية، فإنها تتطلب عادة استخدام البنوك كوسيط، وهذا يؤدي إلى زيادة التكاليف المصرفية، مما يمكن أن يرفع أسعار السلع والخدمات في الصين.

وفقا لدراسة أجرتها شركة “ماكنزي الشرق الأوسط” عام 2022، وهي شركة استشارات إدارية معنية  بإجراء تحليل نوعي وكمي لتقييم قرارات الإدارة عبر القطاعين العام والخاص، فإن الصين تخسر حوالي 100 مليار دولار سنويا بسبب انخفاض قيمة اليوان، كما وجدت الدراسة أن الصين تخسر حوالي 20 مليار دولار سنويا بسبب زيادة التكاليف المصرفية.

منذ بداية الأسبوع الجاري، ارتفع الدولار على خلفية بيانات قوية أظهرت زيادة فرص العمل في الولايات المتحدة بشكل غير متوقع في آب/أغسطس الماضي، لتقترب من أعلى مستوى في 11 شهرا عند 107.34 مقابل سلة من العملات، فوفقا لشبكة “سي إن بي سي” الاقتصادية، وصل مؤشر الدولار إلى 107.07 في أحدث قراءة، فيما انخفض الجنيه الإسترليني 0.03 بالمئة إلى 1.20745 دولار، ليظل بالقرب من أدنى مستوى في سبعة أشهر، الذي سجله في الجلسة السابقة عند 1.20535 دولار.

بالمقابل، ومنذ أيلول/سبتمبر الماضي، تراجع اليوان الصيني إلى أدنى مستوى له أمام الدولار منذ 2007 بعد انخفاض الصادرات، بجانب مخاوف من تباطؤ النمو في ثاني أكبر اقتصاد في العالم، في وقت تسيّدت فيه العملة الأميركية أسواق العملات، وفَقَد سعر صرف العملة الصينية 0.12 بالمئة من قيمته ليسجّل 7.3269 للدولار الواحد، بُعيد بلوغه مستوى 7.3276 للدولار، وهو الأدنى منذ ديسمبر/كانون الأول 2007.

على سبيل المثال، إذا ارتفع سعر الدولار الأميركي مقابل اليوان الصيني بنسبة 10 بالمئة، فهذا يعني أن الصين ستحتاج إلى دفع 1.10 يوان مقابل كل دولار أميركي كانت تدفعه سابقا بقيمة 1 يوان، وإذا كانت الصين تستورد سلعا أو خدمات بقيمة 100 دولار أميركي، فهذا يعني أن تكلفة هذه الواردات ستزداد إلى 110 يوان بدلا من 100 يوان.

يمكن أن يؤدي هذا الانخفاض في قيمة اليوان إلى زيادة العجز التجاري الصيني، مما يعني أن الصين تستورد أكثر مما تصدر، وهذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى انخفاض قيمة اليوان بشكل أكبر.

في عام 2022، بلغت قيمة التجارة بين الصين والولايات المتحدة 690.6 مليار دولار، وإذا ارتفع سعر الدولار الأميركي مقابل اليوان الصيني بنسبة 10 بالمئة، فهذا يعني أن زيادة تكلفة واردات الصين من الولايات المتحدة بقيمة 69.06 مليار يوان، أو 59.2 مليار دولار أميركي.

كما بلغت قيمة التجارة بين الصين واليابان 129.5 مليار دولار في عام 2022، وإذا ارتفع سعر الين الياباني مقابل اليوان الصيني بنسبة 10 بالمئة، فهذا سيؤدي إلى زيادة تكلفة واردات الصين من اليابان بقيمة 12.95 مليار يوان، أو 11.7 مليار دولار أميركي.

أما في عام 2023، بلغت قيمة التجارة بين الصين والولايات المتحدة حوالي 750 مليار دولار، وإذا انخفضت قيمة اليوان بنسبة 10 بالمئة، فإن الصين ستحتاج إلى دفع 75 مليار دولار إضافية مقابل نفس المبلغ من السلع والخدمات الأميركية.

اتفاقية المقايضة بالعملات المحلية.. فخ

بسبب هوس دول الـ “بريكس” وبالأخص الحزب “الشيوعي” الصيني، الذي يقود سياسات بكين، تسعى الصين إلى تقليل اعتمادها على الدولار في التجارة الخارجية، لكنها تواجه تحديات في تحقيق ذلك، أحد التحديات هو أن العديد من الدول تفضل استخدام الدولار كوسيلة للتبادل التجاري، والتحدي الآخر هو أن اليوان لا يزال عملة غير مستقرة نسبيا.

كيف تخسر الصين في عمليات التبادل التجارية بالعملة المحلية؟

الخبير الاقتصادي والعضو السابق في البنك الدولي، مارتن راما، في حديثه لـ”الحل نت”، أوضح أن هناك عدة عوامل تؤثر في قرار الصين بشأن عملة التبادل التجاري مع كل شريك، منها حجم ونوعية التجارة بين الصين والشريك، فكلما كان حجم التجارة أكبر وأكثر تنوعا، كلما زادت حاجة الصين لتسهيل وتخفيض تكاليف المعاملات بالعملات المحلية.

على سبيل المثال، تبادلت الصين وروسيا سلعا بقيمة 107.8 مليار دولار أميركي في عام 2020، وشملت الطاقة والزراعة والصناعة والتكنولوجيا، مما دفعهما إلى توسيع نطاق استخدام الروبل واليوان في التجارة الثنائية، لكن بسبب ارتفاع أسعار الفائدة في الصين، أدى ذلك إلى زيادة التكاليف المصرفية لشركات التجارة الصينية.

حاليا وبسبب عدم قدرة الصين بالتراجع عن سياسة التبادل بالعملات المحلية والتي انتهجتها مع أنظمة معاقبة دوليا، لجأت بكين بحسب راما، إلى نظام سعر صرف مرن معزز هو نظام يسمح بتحرك سعر الصرف بحسب قوى السوق، ولكن مع تدخل البنك المركزي لمنع التقلبات الشديدة أو غير المبررة، تهدف الصين إلى تطبيق هذا النظام لتحسين كفاءة وثبات اقتصادها وتعزيز دور عملتها الوطنية، اليوان، في التجارة الدولية، إلا أن ذلك لم ينجح حتى الآن.

هذا النظام يواجه أيضا بعض المخاطر والتحديات، ومنها مخاطر التضخم أو الانكماش، فإذا انخفض سعر الصرف لليوان بشكل كبير، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة تكاليف الواردات وارتفاع مستوى الأسعار في السوق المحلية، مما يؤثر على قدرة الشراء للمستهلكين والمستثمرين، وإذا ارتفع سعر الصرف لليوان بشكل كبير، فقد يؤدي ذلك إلى انخفاض تنافسية الصادرات وانخفاض مستوى الطلب في السوق الخارجية، مما يؤثر على نمو الإنتاج والدخل.

كذلك، مخاطر التدفقات الرأسمالية المضطربة، فإذا كان سعر الصرف لليوان يتأثر بالتغيرات في التوقعات والمزاج والسياسات في الأسواق المالية، فقد يؤدي ذلك إلى حدوث تدفقات رأسمالية متقلبة وغير مستقرة، تزيد من التذبذب في سعر الصرف وتهدد استقرار المالية.

العودة للاعتماد على الدولار

العملات المحلية هي العملات التي تصدرها السلطات الوطنية وتستخدمها في السوق المحلية، وهي تعكس الهوية والسيادة والثقة للبلدان التي تصدرها، لكن ما لم يجرِ في حسابات الحزب “الشيوعي” الصيني، أنه في ظل التطورات التكنولوجية والرقمية والابتكارات المالية، فإن العملات المحلية تواجه تحديات جديدة.

كيف تخسر الصين في عمليات التبادل التجارية بالعملة المحلية؟

علاوة على ذلك، فإن سلة العملات الأجنبية التي تستخدمها الصين لتحديد سعر المرجعي لليوان هي مجموعة من العملات التي تعكس حجم التجارة والاستثمار بين الصين و شركائها الرئيسيين، وتتغير هذه السلة بناء على تطورات الاقتصاد العالمي والوضع المحلي للصين. 

وفقا لآخر تحديث للبنك “المركزي” الصيني في عام 2016، تتألف سلة العملات من 24 عملة، بما في ذلك الدولار الأميركي واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني والروبية الهندية والراند الجنوب إفريقي، كما تم إضافة عشر عملات جديدة إلى السلة، بما في ذلك الفرنك السويسري والكرونة السويدية والدرهم الإماراتي، ويتم تحديد أوزان كل عملة في السلة بناءً على مؤشرات مثل حجم التجارة والتدفقات المالية والتبادلات المباشرة بين الصين وبلدان أخرى، ولكن حتى هذه الخطوة لم تحقق هدفها بجعل سعر صرف اليوان أكثر انعكاسا لقوى السوق وتقليل التأثير المفرط لحركات الدولار.

سياسات الصين النقدية والمالية تؤثر على قوة وثبات عملتها بطرق مختلفة، وذلك حسب طبيعة وحجم هذه السياسات، فعلى سبيل المثال، إذا اتخذت الصين سياسات تحفيزية كبيرة لدعم نمو اقتصادها في ظل ضغوط خارجية أو داخلية، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة المعروض النقدي والائتمان في السوق المحلية، مما يزيد من خطر التضخم وانخفاض قوة شرائية العملة. 

كما يؤدي ذلك إلى تزايد عجز الموازنة وارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي، مما يضعف موقف المالية العامة للصين وثقة المستثمرين في استقرار عملتها، بالإضافة إلى ذلك، قد تؤدي سياسات التحفيز إلى زيادة فائض موازنة المعاملات الجارية للصين، مما يزيد من ضغط التقوية على سعر صرف العملة، ما يستدعي تدخلاً من جانب البنك “المركزي” لإبقاء سعر صرف مستقرا. 

لكن إذا أصرت بكين على معاندة الدولار الأميركي عبر الاستمرار في سياسة تبادل العملات المحلية مع دول وأنظمة تخضع لعقوبات، ولم تتخذ سياسات مشددة لمواجهة المخاطر المالية أو العقارية أو البيئية، فقد يؤدي ذلك إلى تزايد المعروض النقدي والائتمان في السوق المحلية، مما يرفع من خطر التضخم ويخفّض القوة الشرائية للعملة، ويزيد الضغط على سعر صرف العملة، وهنا لن يسمح بتحرير أكبر لسعر صرف وتحسين مرونة العملة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات