لم تكن الهجمات المباغتة التي شنّتها حركة “حماس” في قطاع غزة على إسرائيل محض صدفة. بل إنها تكشف عن تطورات عديدة ومتفاوتة على الصعيد الميداني بخصوص تحالفات “حماس” وتحركاتها الخارجية، الأمر الذي ينذر بترتيبات إقليمية في طور التشكّل، حتى الآن. فيما يُعد الدور الإيراني الخفي في الأحداث الأخيرة بين غزة وإسرائيل أمرا لافتا، لاسيما أنه يتجاوز مسألة “وحدة الساحات”، والتي تبدو مجرد دعاية وبروباغندا سياسية لـ”حزب الله” اللبناني الموالي لطهران، إلى وجود يحقّق توازنات تتصل برغبة طهران في تعميق نفوذها بالقضية الفلسطينية وذلك بنفس درجة سعي ورغبة “حماس” فرض هيمنتها وتهميش السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس في الضفة الغربية.

ورغم نفي المرشد الإيراني علي خامنئي، أو بالأحرى تراجعه عن مسألة وجود دعم إيراني لـ”حماس” في الهجوم الأخير على إسرائيل، فإن مؤشرات عديدة تؤكد ضلوع “الحرس الثوري” الإيراني، في العمليات العسكرية بالتدريب والتخطيط وحتى التنفيذ. إذ إن ممثل “حماس” في لبنان أحمد عبد الهادي، قد أشار علانية إلى أن الحركة قامت بالتنسيق مع “حزب الله” وكذا فصائل أخرى ضمن مجموعات ما تسمى “المقاومة” المسلحة، موضّحا في تصريحات لمجلة “نيوزويك” الأميركية، “نسّقنا مع حزب الله ومع إيران والمحور، قبل وأثناء وبعد هذه المعركة على أعلى المستويات”. وقال عبد الهادي، إن هذا التنسيق “له أبعاد عديدة؛ سياسية وعسكرية وغيرها”.

تنسيق مشترك بين “حماس” وطهران

وفق تقارير غربية، فإن التحضير لهذه الهجمات بدأ في أعقاب أحداث الشيخ جراح عام 2021، حيث اتخذ الإيرانيون قرارا بضرورة التسلل إلى إسرائيل في الداخل وتحقيق ضربة موجعة، وقد باشر قادة من “الحرس الثوري وحماس وحزب الله” بتدريبات قصوى في لبنان لمحاكاة الهجوم على إسرائيل في منطقة “عرمتى” جنوب لبنان، سواء من خلال استخدام الدراجات النارية أو عمليات التسلل السري أو مقاومة الحواجز الأمنية الإسرائيلية. كما أن هناك غرفة عمليات في لبنان تم تدشينها في أعقاب زيارة قائد “فيلق القدس” إسماعيل قاآني، قبل الهجوم على إسرائيل بفترة وجيزة وقد ساهمت هذه الغرفة في متابعة الوضع الميداني بدقة.

قطاع غزة- “رويترز”

وفيما يبدو أن الدور الإيراني الذي يسبق هذه الأحداث الأخيرة، له عدة أهداف، منها تحقيق نفوذ سياسي لـ”حماس” والاعتراف بها والكشف عن عجز السلطة الفلسطينية، الأمر الذي يجعل الحركة تواصل استفزازاتها لإسرائيل بحيث تضطرها للدخول البري الوشيك بما يؤدي بالتبعية إلى إشراك مناطق السلطة الفلسطينية في الحرب وتبرز فعالية المقاومة أمام ضعف الرئيس محمود عباس. وثمة أهداف أخرى تتعلق بتغييرات إقليمية جذرية منها تعطيل التطبيع مع إسرائيل تحديدا مع السعودية والتأكيد على هيمنة إيران السياسية والعسكرية على فصائل ما تسمى “المقاومة” بحيث تُصبح أي ترتيبات في المنطقة تضع في اعتبارها مصالح طهران أو عدم تهديدها الوجودي.

يمكن القول إن هناك سوابق تكشف عن عمق الارتباط الوثيق بين “حماس” وإيران وكذا فصائل تنتمي للإسلام السياسي في نسختها السُّنية كما هو الحال مع الجماعة الإسلامية في لبنان، ووجود ترتيبات وتنسيق سياسي وميداني بين هذه الأطراف في لبنان بما يؤشر لتحالف استراتيجي ينعكس راهنا في غزة مع التأكيد على ارتهان هذا التحالف بالقرار الإيراني. وكانت العلاقة بين “حماس وحزب الله” اللبناني، قد شهدت توترات على خلفية الأزمة السورية مؤقتا، والأمر ذاته مع الجماعة الإسلامية بلبنان والتي هي فرع “الإخوان المسلمين” بلبنان. لكن الجماعة الإسلامية في لبنان وفي انتخاباتها الأخيرة داخليا في آب/ أغسطس العام الماضي شهدت تصعيدا للجناح المقرّب من “حزب الله”.

وعليه، شهدت الأحداث التي جرت في مخيم “عين الحلوة” الشهر الماضي على خلفية مقتل عناصر وقيادي من حركة “فتح” نشاطا للمجموعات المسلحة السّنية التابعة لـ”حماس” وبتنسيق مع “حزب الله” والذي كان يهدف إلى تهميش “فتح” بحيث تصبح الورقة الفلسطينية والمخيمات في لبنان بيد “حماس وحزب الله”.

تجنب فتح جبهة لبنان

تمثل الجماعة الإسلامية في لبنان والتي تُعد ذراعا سياسية لـ”الإخوان المسلمين” طرفا مقربا لـ”حزب الله وحماس”. هذا التقارب لا يمكن القول إنه تكتيكي أو مجرد مناورة بين مجموعة من الملفات السياسية والإقليمية، إنما هو إطار استراتيجي يجمع الطرفين في ظل خصوصية الحالة اللبنانية سياسيا، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك صراع أجنحة داخل الجماعة الإسلامية، وأحد هذه الأجنحة يقف على النقيض من حزب الولي الفقيه بلبنان. لكن الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها الشيخ محمد طقوش بالأمانة العامة ثم محمد شاتيلا الفائز بمنصب رئيس مجلس الشورى يؤشر إلى فوز الجناح المقرب لـ”حزب الله وحماس”.

وجود الجماعة الإسلامية في لبنان والممثلة بنائب واحد بالبرلمان لا يعكس تمثيلا قويا للسّنة لكنها تشكل شبكة اجتماعية قوية لا يُستهان بها خصوصا بعد الفراغ الذي تملأه بعد انحسار الحريري سياسيا وعليه تبدو “حماس” راغبة في توثيق صلاتها بالجماعة “الإخوانية” بلبنان لتكون طرفا وسيطا في الحوار مع إيران وباقي أفرع “الإخوان” في لبنان كما في غيرها من البلدان، كما يوضح مركز “كارنيغي” الأميركي. كما أن سيطرة “حماس وحزب الله” على فرع من فروع “الإخوان” له مسار يجعل الملف السوري تحت السيطرة بالنسبة لجماعة الحزب التابع للولي الفقيه. وتقود “حماس” حملة قصوى بعد زيارات مُعلنة للحكومة السورية في دمشق لعمل مصالحة مع إيران.

قبل أسابيع من اندلاع الصراع بين غزة وإسرائيل، التقى الأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان، الشيخ محمد طقوش بالسفير الإيراني في لبنان، مجتبى أماني. وكان اللقاء متزامنا مع زيارة قام بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لسوريا ثم لبنان.

إذاً، كانت هناك خلفية قوية للأحداث التي تجري تفصح عن النتائج الراهنة، وتكشف هذه الاصطفافات. لكن “حزب الله” رغم كل ذلك يبدو بعيدا عن اتخاذ خطوة فتح جبهة لبنان في الصراع. وقد تلقى الحزب أكثر من رسالة من الداخل وعبر أطراف سياسية وقوى إقليمية، بعدم خوض لبنان أي حرب. “حزب الله” يمتنع عن التصريح العلني بأي موقف يبشّر بتهدئة، لكن الموقف الإيراني يرى بأن الجبهة اللبنانية لا ينبغي لها أن تسقط في فخ الحرب. كما أن الموقف في سوريا ينبغي أن يظل هادئا وقد أبلغ الرئيس السوري بشار الأسد، السفير “الحوثي” بإخلاء ومغادرة سفارة اليمن في دمشق.

فالترتيبات القائمة حتى الآن هي المناوشات والاشتباكات التكتيكية لكن بلا أي تصعيد. واشنطن بعثت لـ”حزب الله”  تحذيرات من فتح جبهة لبنان أو أي عمل في سوريا من شأنه مفاقمة الأوضاع. يتبنى “حزب الله” عدة وسائل للضغط على إسرائيل منها الهجمات على طول الخط الازرق. فضلا عن التفجيرات بواسطة أجهزة بدائية محلية الصنع في مزارع شبعا والتي يتمكن عناصر الحزب من التسلل فيها لطبيعتها الجبلية الوعرة.

كما أن البيئة الحاضنة في الجنوب والضاحية ومناطق شيعية ستعرقل أي رغبة لدى “حزب الله”. حيث تخشى هذه الحواضن بل تمانع تماما مسألة دخول بلادهم في حرب خاصة مع الحالة الاقتصادية الصعبة وتعقيدات النزوح من القرى الجنوبية لبيروت. بغض النظر عن ذاكرة الحرب في 2006، فإن النزوح من القرى الحدودية غير ممكن وغير محتمل بل ينذر باحتمالات حرب أهلية وصدامات بين الأطراف وبعضها في ظل تراكمات غضب عديدة. يحاول “حزب الله” وبعض الفصائل الإسلامية ومنها الفلسطينية نفي هذه الصورة من خلال حالة التعبئة في المناطق الخاضعة لسيطرته وخروج تظاهرات وبث أغاني ثورية من خلال الدراجات النارية. لكن المصدر يؤكد أنه بعيدا عن أهالي المخيمات الفلسطينية فكل مشاهد المسيرات هي عناصر تابعة للحزب وفصائل المقاومة.

ويؤكد ذلك تعاطي “حزب الله” بحذر ودقة شديدين تجاه القصف التكتيكي على إسرائيل، وقد تسبب القصف الإسرائيلي في جنوب لبنان بمقتل ثلاثة من أعضاء “حزب الله”، بعد أن تسلل أعضاء مسلحون من حركة “الجهاد الإسلامي” عبر الحدود.

مخيم “عين الحلوة”- “رويترز”

رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، طالب الوزراء حضور جلسة اليوم بضغط من قوى سياسية وشخصيات عامة لبحث التطورات الراهنة والمطالبة بموقف هادئ يجعل لبنان بعيداً عن الصراع ولا تتورط فيه.

ما هدف “حماس” من الهجوم؟

أولا حركة “حماس” تسعى سياسيا إلى إضعاف السلطة الفلسطينية، وهذا الأمر تكشف عنه سياقات عديدة متزامنة مع الأحداث في غزة حيث كانت الاشتباكات في المخيمات الفلسطينية بـ “عين الحلوة” بين فصائل إسلامية مسلحة بعد مقتل قيادي في حركة “فتح” وهي اشتباكات قادتها فصائل إسلامية قريبة من “حماس” فضلا عن آخرين تابعين لـ”حزب الله” اللبناني الموالي لطهران، كما يشير الدكتور سامح إسماعيل الباحث السياسي المصري والمتخصص في فلسفة التاريخ.

بين “حزب الله وحماس والجماعة الإسلامية” (الإخوان المسلمين في لبنان) تقاربات واضحة خاصة بعد انتخابات الجماعة الإسلامية الأخيرة في لبنان، والتي أسفرت عن فوز الجناح المؤيد لإيران بشدة وبالتالي يعزز ذلك من مبدأ وحدة الساحات لدى “حزب الله” ويعزز كذلك من اصطفاف المجموعة الإسلامية المسلمة؛ سنة وشيعة فضلا عن الأهمية الجغرافية التي تحوزها هذه الأطراف من الشمال للجنوب ومن صيدا وحتى قرى جنوب لبنان الحدودية.

ذروة التعاون كان في اللقاء أو الزيارة التي جرت بين إسماعيل قاآني، قائد “فيلق القدس” وعناصر المقاومة للبنان وتشكيل غرفة عمليات لمتابعة وإدارة الصراع في غزة، وبهذه الغرفة قادة من إيران بـ”الحرس الثوري الإيراني” إضافة لآخرين فلسطينيين. إذاً، الحرب في غزة هذه المرة تحمل صبغة جديدة وتكشف عن أدوار خفية وحروب بالوكالة نشأت على هامش هذا الصراع. حيث إن إيران حاولت استغلال المقاومة وتوظيفها من أجل تعزيز المشروع الإيراني في المنطقة، على اعتبار أن المقاومة تملك الحق المشروع في المواجهة وتحرير الأرض ومواجهة إسرائيل، وفق الباحث السياسي المصري لموقع “الحل نت”.

رسائل مبطّنة

إيران التقطت طرف الخيط وحاولت الدخول على خط المقاومة بإرسال رسائل مبطّنة إلى إسرائيل مفادها، أن إيران دولة الملالي قادرة أيضا الوصول إلى عمق إسرائيل عبر أذرعها ووكلائها المحلية وتحالفها الاستراتيجية معهم في المنطقة، مثل “حزب الله” في جنوب لبنان أو مع حركة “حماس” أو أذرعها الأخرى الممتدة في المنطقة مثل “الحوثيين” في اليمن، و”جيش المهدي” في غرب إفريقيا وهي أيضا أحد أذرع إيران العسكرية في منطقة الساحل والصحراء، طبقا لوجهة نظر إسماعيل.

ويردف إسماعيل، “إيران تحاول أن تتمدد بمشروعها العسكري والسياسي وتنمو على الأرض وتكسب كل يوم أرضا، وبالتالي لم تجد أفضل من حركة حماس لتتحالف معها للرد على إسرائيل في منافستها معها، والذي تكرر مرارا وتكرارا، وخاصة بعد مقتل علمائها النوويين من قِبل الاستخبارات الإسرائيليين عدة مرات في المنشآت الاستراتيجية والحيوية الإيرانية. طهران أرادت أن تردّ على الولايات المتحدة وتضغط عليها من أجل الدفع للوصول إلى اتفاق نووي بضرب حليف أميركا الاستراتيجي في المنطقة، ألا وهي إسرائيل”.

كل هذه الأدوار المعقدة والملغّمة نتج عنه الصراع الحالي في غزة والذي له طبيعة خاصة، أو بمعنى أدق الجميع صدّر مشكلته تجاه غزة، حركة “حماس” صدّرت مشكلتها في التنافس مع السلطة الفلسطينية على السيادة والشعب الفلسطيني، ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو، صدّر مشكلته في الداخل الإسرائيلي بعد تغيير القانون القضائي والمظاهرات التي اندلعت ضده في إسرائيل وقانون المحكمة القضائية الذي حاول نتنياهو أن يغيره، فقامت الدنيا ولم تقعد إلى الآن في إسرائيل، فحاول أن يصدّر مشكلة حكومة اليمين التي تحكم تل أبيب حاليا إلى قطاع غزة، طبقا لتحليل إسماعيل.

طهران أرادت أن تردّ على الولايات المتحدة وتضغط عليها من أجل الدفع للوصول إلى اتفاق نووي بضرب حليف أميركا الاستراتيجي في المنطقة، ألا وهي إسرائيل.

الأكاديمي السياسي سامح إسماعيل لموقع “الحل نت”

وإيران أيضا صدّرت مشاكلها الداخلية وخاصة بعد مقتل الفتاة الكُردية مهسا أميني (جينا أميني) إلى قطاع غزة، و”حزب الله” أيضا صدّر مشاكله إلى غزة، فالجميع الآن يتصارع في غزة والشعب الفلسطيني محاصر منذ أكثر من 15 عاما ويدفع الثمن لوحده، في ختام حديث الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، الدكتور سامح إسماعيل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة