التحولات المرحلية التي باشر في تحقيقها زعيم “هيئة تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني، الذي يقع في دائرة الفكر الجهادي، تكشف عن تكتيك ومناورة سياسية مشبوهة. فهي تفضح خريطة أهداف معقدة ومتشابكة تحاول إعادة التشكل في البيئة السورية والاستفادة من أوضاعها وربما تناقضاتها من ناحية الوضع العسكري والميداني، وكذا موقف الغرب بما يجعله قادرا على الحركة المرنة في المساحة التي يوفرها له انحسار المد السياسي المعارض للسلطة في دمشق، ممثلة برئيسها بشار الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين.

فالتنازل البراغماتي والمؤقت للجولاني عن الانتماء المباشر والعضوي للفضاء الجهادي العالمي والاستقرار عند الشأن المحلي يبدو مقصودا، وإن كان لا يعني صداما تاما مع الرؤية الإجمالية والأيديولوجية المتشددة. فالأهداف العالمية في الأجندة الجهادية على طريقة تنظيمي “القاعدة وداعش” الإرهابيين لا تماثل راهنا “هيئة تحرير الشام” وقد فك الجولاني ارتباطه التنظيمي معهما على فترات تاريخية متفاوتة. في ما يبدو أن أهدافه المحلية تتجه بمقاربة عملية لوضع حركة “حماس” في غزة و”طالبان” في أفغانستان، والتنظيمين الأخيرين رغم ارتباط كل منهما وتبعيتهما بالمنظمات الأم (طالبان/ القاعدة، حماس/ الإخوان المسلمين)، لتحقيق سلطة أمر واقع لها عمقها الجيوسياسي.

لذا، يسعى أبو محمد الجولاني إلى تطبيق المقاربة ذاتها للنماذج سالفة الذكر والتي تعنى كما في الممارسة التاريخية لهذه التنظيمات الإرهابية المسلحة، إلى تشكيل شبكة خدمية للقوى الاجتماعية لتحقيق ارتباطات مصالحية ورعائية معها، وتوطين استراتيجية في البيئة الاجتماعية والسياسية.

وهذه الشبكة الاقتصادية تخفي الوجه العنيف المتشدد والإسلاموي الذي يقوم على توظيف القوة والقمع والبطش في أحيان كثيرة ضد المجتمع المدني والأقليات والمختلفين ثقافيا وهوياتيا وقوميا. فالخدمات العامة التي تقوم بها ظاهريا “هيئة تحرير الشام” من خلال استحداث هيئات مدنية تتوجه إلى تطوير الزراعة أو الصناعة كما توفير الكهرباء بما يشي بوجود مظاهر تنموية وحقوقية هو لتصدير صورة مصنوعة ومزيفة للغرب بهدف كبح وتخفيف النظرة المتشددة وإزالة الانطباع المتطرف عن التنظيم الذي كان نسخة داعشية مرة وقاعدية مرة أخرى في سوريا.

الجولاني وإخفاقاته

ثمة إخفاقات مريرة يتعرض لها أبو محمد الجولاني الذي عمد إلى بناء صورة مغايرة عن ذاته وتنظيمه والاستفادة من الشروط حوله، حيث إن تخفيف اللحية والزي المدني وهيمنة “الهيئة” على الملفات الأمنية والاقتصادية والإشارة إلى بناء وزارة دفاع، تحديدا في ما يتصل بالجانب الحقوقي والمدني الذي تفضحه التقارير الأممية مثل “هيومان رايتس ووتش” الحقوقية، وأوضاع الأقليات المسيحية والدرزية. حيث إن النازحين ما تزال أوضاعهم سيئة وغير إنسانية مع الأخذ في الحسبان (وإشارة تعجب) وجود وزارة لدى الهيئة مسماة “وزارة التنمية والشؤون الإنسانية”.

أبو محمد الجولاني يحاول الظهور بمظهر مدني معتدل لكسب الشرعية الدولية- “إنترنت”

لكن هذه الانعطافة الإنسانية لم تنجح في حل معضلة الكنائس التي تحولت قسرا إلى مساجد. ورغم إلغاء هيئة “الحسبة” والتي لها سمعة سيئة تتصل بممارسات تنظيم “داعش” الهجمية إلا أن واقع الحال يكشف عن إلحاقها بوزارة الداخلية مع الإبقاء على دورها ضمنا في تعقب أو بالأحرى التلصص على حياة الفرد وتغييب أي خصوصية وتشكيل رقابة جهنمية بمعايير قروسطية على سلوكه الإيماني والديني. ووفق الجولاني فإن “كل وزارة وإدارة إنما ينبغي لها أن تعمل بما يتوافق مع أحكام الشريعة”.

يدرك الجولاني أن دوره الوظيفي البراغماتي مؤقت لذلك يسعى للفكاك تدريجيا من الارتهان له، من دون إيجاد بدائل أو حتى بناء ضمانات عبر حلفاء جدد أكثر قوة ومتانة، بل إن سعيه للحصول على الشرعية يبدو بعيد المنال، ولن يتخطى لدى الغرب والولايات المتحدة الأميركية السمعة المشبوهة كمتطرف مرتبط بالفكر “الإرهابي” المتشدد والراديكالي. صحيح أن إدلب شمال سوريا، التي يضع قبضته عليها لها أهمية استراتيجية وتتوافر له حماية تركية من خلال وجوده الأمني لتأميم الوضع في تلك المنطقة الحيوية لجهة وقوعها بين الطريق الدولي الممتد من تركيا لمناطق الشمال السوري، مرورا بمناطق سيطرة الحكومة السورية ووكلائه في حماه، وحتى حلب وشرق الفرات والساحل، إلا أن هذا الموقع لن يكون أكثر من وضع يبعث بسيولة سياسية وأمنية حوله يجعله في عمق أزمة قصوى بلا قدرة على الوصول إلى ملاذات ذاتية.

حلول الجولاني المؤقتة

الحلول المؤقتة للجولاني لا تصنع نظام له أركان ثابتة. حتى أن فكرة تجميع القوة واحتكار العنف لن يجعله يرتقي إلى الكيان المؤسسي على نمط شبه الدولة. إذ ما تزال “الهيئة” في وضع تنظيمي هش قائم على الفصائلية والتي تفترض الانتماء على أساس الهوية والجهوية، فضلا عن اعتناق البعض للمبادئ العالمية للفكر الجهادي الذي يتخطى الانتماء المحلي إلى الاستجابة لـ”الجهاد” في بيئة أخرى تلبية لنداء “الأممية الإسلامية” كما في الأدبيات المتشددة لهذه الجماعات.

ليس هذا ببعيد عما جرى بين الجولاني من توترات بين زعيم “داعش” المقتول أبو بكر البغدادي والجولاني الذي كان مبعوث الأول لسوريا، ثم تكرر مرة أخرى مع تنظيم “القاعدة”.

كما أن شخصا قياديا لدى “الهيئة” مثل ميسر علي موسى عبد الله الجبوري وكنيته أبو ماريا القحطاني، وهو عراقي الجنسية، وينتمي لعشيرة الجبور المتواجدة في العراق كما في سوريا، يتولى نظرا لهذا الانتماء العشائري وعمقه المناطقي الجهوي ملاحقة عناصر تنظيم “داعش” ويملك إدارة الملف الأمني. وبالأخير يقبع القحطاني تحت وطأة الإقامة الجبرية بعد أن كان الرجل الثاني في التنظيم وأحد المؤيدين للتحول البراغماتي من الجهادية الأممية إلى المحلية. لكن جاء اعتقاله ووصمه باتهامات تتعلق بالتجسس بما نجم عنه ملامح انقسام يفضح عدم وجود أي تماسك بنيوي وفقدان أي قدرة على المؤسسية والحوكمة التي يزعم تحقيقها الجولاني.

ورغم أن “هيئة تحرير الشام” تلاحق قياداتها بما فيهم الجولاني شبهات تكاد أن تكون موثقة بشأن الانفتاح على حكومات خارجية وتسريب معلومات عن عناصر منشقة من تنظيمهم، إلا أن المآلات التي تعرض لها القحطاني تكشف عن صراع أجنحة يهدد بأي تماسك.

فشل في حوكمة المنطقة

إذاً، نحن بصدد تحولات جمّة وبارزة في الخطاب السياسي والأيديولوجي لـ”هيئة تحرير الشام” تحاول من خلاله بناء مقولات جديدة حول مفهومها للجهاد يقوم على الانعتاق من “الأممية” إلى “الوطنية” والمحلية، كما برز في محاضرة لأحد قيادات الهيئة بعنوان: “الجهاد والمقاومة في العالم الإسلامي… طالبان نموذجا”، ثم من الناحية العملياتية من خلال ملاحقة العناصر الداعشية والقاعدية ما أدى للدخول في صراعات وصدامات متباينة.

وتبرز الصراعات والانقسامات على خلفية التناقضات بين أجنحة التنظيم وعدم التماهي مع الخط السياسي للجولاني في ما جرى للقحطاني، الأمر الذي تكشف عنه حوادث عديدة تجعل الاتهامات الموجهة له تبدو تلفيقية بينما لا تعكس ثمة جديد، حيث إن التنظيم سبق ودفع عن نفسه تهمة تسريب معلومات للتحالف الدولي بشأن قادة “داعش” ومنهم الزعيم الرابع أبو الحسين الحسيني القرشي.

بالتالي، نحن بصدد رؤية تلفيقية نحو التغيير حيث إن البنى والمظاهر الخارجية هي التي تتبدل مسمياتها لكن الأدوار والمضامين والاتجاهات تباشر تحقيق أغراضها، فالوجه المتشدد ينبعث بين سجون “الهيئة” التي تقمع خلف قضبانها ناشطين وتواصل أعمال قتل ولا ترد الممتلكات التي جرت مصادرتها ومنها الكنائس، بل إن بنية القضاء ومؤسساته وتشريعاته هي مخلفات “جبهة النصرة” ويحفل سجل “الهيئة” بجرائم حقوقية مروعة مثل اغتيال نشطاء أبرزهم حمود جنيد ورائد الفارس وهادي العبد الله ومروان الحميد وجمعة العمري والمحامي ياسر السليم.

مطلع عام 2019، وثقت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، جرائم القمع الممنهج لـ”هيئة تحرير الشام” وإرغام المعارضين والنشطاء على الصمت قسرا وكمدا وقهرا. وجاء في التقرير المعنون بـ”سوريا: هيئة تحرير الشام تمارس الاعتقال والتعذيب – خطوة لترسيخ السيطرة وإسكات المعارضين” أن “حملة هيئة تحرير الشام ضد معارضي حكمها تماثل بعض التكتيكات القمعية التي تستخدمها الحكومة السورية. لا يوجد عذر يبرر إحضار المعارضين واحتجازهم تعسفا وتعذيبهم”. كما لم يتمكن أي من المعتقلين من مقابلة محام أو استشارته، ولم يمثل سوى 2 أمام قاض شرعي في إحدى محاكم الهيئة.

عناصر هيئة تحرير الشام- “إنترنت”

لذلك، من غير المرجح أن تحقق هذه المحاكم المستوى المطلوب بموجب القانون الإنساني، بحيث لا يجوز إدانة أي شخص أو إصدار حكم بحقه إلا بعد محاكمة عادلة أمام المحاكم “مشكّلة وفق الأصول” بموجب القوانين المعمول بها في البلاد. قال جميع المعتقلين الذين تمت مقابلتهم، باستثناء واحد، إن مسؤولي السجن ضربوهم، أو أساؤوا معاملتهم جسديا بأشكال أخرى. في كثير من الحالات، بلغت الانتهاكات مستوى التعذيب.

في النهاية، الأنماط والوسائل التي تقوم على سياسة الإكراه لدى “هيئة تحرير الشام” هي ذاتها التي تقوم بها التنظيمات ذات المرجعية الأصولية المتشددة وإن استعانت بمسميات مختلطة لتشتيت الرأي العام الخارجي الرسمي والمدني أو حتى بعض حواضنها الداخلية وتعتمد كما في إيران على عبارات تحمل نبرات متفاوتة بين الديني والمدني القانوني كالتجسس والتحالف مع الغرب أو الإفساد في الأرض. كما أن “الهيئة” تقوم على فكرة تعميم قيمها الإسلاموية المتشددة بصيغة تبدو تكتيكية، وتمريرها بعد كسب فاعلين مجتمعيين جدد للمساهمة من خلالهم في القمع العنيف وتهميش المختلفين هوياتيا. وهو الدور الذي تضطلع به الهيئات الدعوية التي تواصل التعبئة الأيديولوجية للناس العاديين في الأطراف والمناطق المهمشة للسيطرة على المركز.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة